كيف سيّعطشون شعوب الرافدين و النيل؟! (1)

أزمة المياه في الشرق الأوسط ليست جديدة والدراسات العلمية تتوقع زيادة هذه الأزمة نتيجة عوامل التصحر والتغيّر المناخي من جهة، وزيادة السكان وبالتالي زيادة الطلب على المياه من جهة أخرى، و استماتت الدول الخليجية الصحراوية على الاستحواذ على الاراضي الزراعية من منابع انهار النيل ودجلة والفرات \”الاستعمار الجديد الزراعي\”.

وخلال مبادرة \”السلام الازرق\” للشرق الاوسط التى عُقدت في اذار الماضي باسطنبول برعاية مجموعة الاستبصار الاستراتيجى الهندية، وبتمويل من الوكالة السويدية للتعاون والتنمية الدولية والوكالة السويسرية للتعاون والتنمية، بحضور نخبة من الإعلاميين من عدة دول لبنان والأردن والعراق وسوريا وتركيا وفلسطين والسعودية واليمن والإمارات والبحرين ومصر، ومسؤليين ونواب ووزراء سابقين وخبراء في المياه، وذلك لبحث تحويل مبادرة السلام الأزرق إلى تعاون عابر للحدود في الشرق الأوسط. كما حضر الموتمر \”يشار ياكيس\” وزير الخارجية التركي السابق، والمسؤول الاول عن ملف المياه.

في اليوم الثاني للمؤتمر فندت في كلمتي للموتمر مزاعم  كل من \”احمد ساتجي\” رئيس مؤسسة المياه التركية و البروفسور\” دوغان\”. قال \”ساتجي\” في كلمته : إن \”تركيا فقيرة في المياه؟، واذا لم تطور اساليبها فانها ستتضرر في ظل الجفاف في الشرق الاوسط\”. وذكر\” ساتجي، ان \”تحديد سياسة تركيا هو تبادل مصادر المياه، اذ اننا نرى انه لابد ان نتعامل بحكمة بموضوعي نهري دجلة والفرات، واننا نريد التقارب مع العراق وسوريا\”. واشار الى أن \”تركيا ليست غنية بالبترول، وعليها ان تؤمن حاجتها من الطاقة عن طريق المياه\”. وكان قد سبق \”ساتجي\” البروفسور \”دوغان\” المدير السابق لهيئة المياه التركية، ونائب رئيس منظمة المياه العالمية والذي اكد للجميع وبدون خجل بأن المياه سلعة تعرض للبيع، وان تركيا لا تنوي المساس بحقوق الجيران، وهي ستعطي لكل صاحب حق حقه، معناه انه  كان يناقض نفسه.

وذكرت في كلمتي ان مياه دجلة والفرات معرضة وباستمرار لانتهاكات كبيرة وغير مقبولة دوليا (حسب اتفاقية هلسنكي 1966) وذلك لبناء سدود عليها من قبل تركيا وسوريا. وقلت: ان تركيا تحبس مياه خلف سدودها تكفيها لاكثر من ثلاثة سنوات. وبينت انه حسب ما نُشر بجريدة \”عرب نيوز\” وبتاريخ (27-10-2009)  فان وزير الزراعة التركي (مهدي ايكر- كردي من ديار بكر من حزب اردوغان) زار في ذلك اليوم وزير الزراعة السعودي \”فهد الغنيم\” وعرض عليه اراضي زراعية في جنوب شرقي تركيا. وذكرت \”البلومبيرغ\” الاقتصادية الشهيرة يوم  (27-4-2011) ان السعودية ستستثمر 600 مليار دولار في السعودية خلال العشرين سنة القادمة و ذلك حسب ماذكره \”عبد الكريم ابو الناصر\” مدير البنك الوطني السعودي. والسؤال المطروح اية استثمارات هذه التي يتكلم عنها السعوديين والاتراك؟!.

وافصح \” محمد شامشيك\”- كردي اخر من حزب اردوغان-  وزير المالية التركي الحالي عن نوايا تركيا الحقيقية وذلك خلال اجتماع مع \”سلطان المنصوري\” وزير الاقتصاد الاماراتي. حيث عرض الوزير التركي 1.8(واحد وثمانية اعشار) مليون هكتار من الاراضي الزراعية في جنوب شرق تركيا \”للاستثمار\” وذالك حسب \”جريدة الناشنال الاماراتية\” يوم (11-2-2011)  . وهنا تدخل البروفسور \”دوغان\” وعدّل من الرقم الذي ذكرته في كلمتي قائلا: بأن اراضي جنوب شرقي تركيا المعروضة \”للاستثمار\” هي 1.2 (واحد وعشريين اي خمسة ملايين دونم) وليس 1.8 هكتار كما ذكرت انا، وهنا اطلق الحضور همهمة ساخرة !!!.

 ان شراهة المملكة العربية السعودية  للحصول على الاراضي الزراعية ومكملتها الماء، قد زادت بعد ان قررت وقف زراعة الحنطة في اراضيها نظرا لاستهلاك مخزونها من المياه الجوفية. ومنذ 2007 بدأت بتنفيذ برنامج  للتقليل من زراعة القمح وبنسبة 12% سنويا على ان تُوقف زراعة القمح كليا في العام 2014، علما بان السعودية تستهلك 3 مليون طن من القمح سنويا والزيادة الكبيرة في اسعار الغذاء عالميا زادت هذه الشراهة. وقد نشر موقع الامن الغذائي الكوردستاني يوم ( 16-10- 2012) قائمة ب 65 حالة استحواذ من السعودية وبعض الدول العربية على اراضي زراعية معضمها قريبة من النيل، وان هذه الدول قد وضعت عينها على مياه دجلة والفرات والاراضي الزراعية في جنوب شرقي تركيا، وربما الاتفاق بين حزب العمال الكوردستاني والحكومة التركية قد اوقدت من جديد هذا الحلم الخليجي القديم بالحصول على الماء والخضرة.

ولتهيئة الجـو لما سيحدث  في المستقبل القريب في تركيا فان \”جــــــــــريدة الحريــــة التركيــــة\” وفي عددها الصادر في ( 12-9-2010) ذكرت بأن تركيا لديها 24 مليون هكتار من الاراضي الزراعية، وان اربعة ملايين منها غير مستعملة. وانه لا ضير من بيعها او ايجارها، مستشهدة بأن الامم المتحده قد ذكرت ان 30 مليون هكتار( مايعادل 120 مليون دونم عراقي) قد بيعت او أجرت لمدد طويلة في العالم.

 من جانب اخر، نجد أن الدول \”العربية الخليجية \” والصين وصناديق التقاعد الغربية والهند تتكالب على الاراضي الزراعية الاثيوبية وهو ما يسمى  \”الاستعمار الزراعي الجديد\” والمعروف ان الاستزراع يحتاج الى مياه وهذا ما اكسب مياه النيل  هذه الاهمية وهذا الوضع، وقريبا سيتكرر في تركيا، ولهذا تعطي وسائل الاعلام التركية أهمية قصوى لخبر بناء سد النهضة الاثيوبي، وهي بدورها تجس النبض العراقي والسوري لان تركيا  تعد العُدة لبيع ملايين الايكرات من اراضي زراعية في جنوب شرقي تركيا  لدول \”خليجيه اسلامية عربية\”  والاعتماد على الكم الهائل من مياه دجلة والفرات المخزون خلف السدود التركية والتي ستكثر من اعدادها. ان اهتمام الخليجيين بمياه واراضي كوردستان تركيا سببه تأمين الغذاء لسكان الخليج والمغتربين اللذين  يبلغ اعدادهم اضعاف السكان الاصليين للجزيرة العربية، ولإكمال الصورة فحال سقوط دمشق سيمد خط قطارات بين تركيا والخليج عبر سوريا والاردن لنقل منتجات الاراضي المستحوذ عليها حديثا وربما ستنقل  صهاريج المياه كذلك للخليج والاردن .. 

حتى الان انشئت تركيا 23 سدا على نهري دجلة والفرات. علما بان ايران الجارة\”العزيزة\” قطعت او غيرت مجاري كافة الانهار التي تصب في الاراضي العراقية، وبهذا فانها تعطش 6 ملايين شخص عراقي وتضع نهاية للكثير من الزرع والضرع على ضفاف هذه الانهار الجافة. 

واخر ما انشئته تركيا هو سد\” اليسو\” على نهر دجلة والذي سيقطع اكثر من 50% من مياه دجلة وستنخفض كميات مياة دجلة الواصلة الى العراق من 20 مليار متر مكعب سنويا الى 9 مليار متر مكعب. في حين ان\” سد النهضة الاثيوبي\” سيقتطع 18% من ال 55 مليار متر مكعب من المياه حصة مصر من النيل و سيؤدي إلى فقدان مصر 3 ملايين فدان من الأراضي الزراعية، وتشريد من 5 إلى 6 ملايين فلاح مصري ..كما  سيحرم \”سد اليسو\” وحده، العراق من ثلث اراضية الزراعية.

 لقد اقامت مصر الدنيا ولم تقعدها بسبب بناء سد النهضة، ووصلت الى حد التهديد بضرب السد عسكريا.. في حين ان العراق لا حياة لمن تنادي!! .. علاوة على ذلك هناك بناء سدود، وتغير مجاري الانهار من الجيران ووفقا لتقرير صدر مؤخرا لوكالة \”ناسا\” ان وادى دجلة والفرات فقد حوالى 144 مليار متر مكعب من المياه منذ 2003 وحتى نهاية 2009 بفعل الابخرة أو نفاذ المياه الجوفية مشددا على انه اذا استمرت نسبة الفاقد بنفس الشكل ستصبح الارض جرداء.

 ان مساحة الأراضى الزراعية فى العالم تبلغ نحو 2.7 مليار هكتار (هكتار 10000م) المستغل منها 1.5 مليار فقط. وهذا يعنى وجود 1.2 مليار هكتار معروضة للاستحواذ عليها من الاغنياء. علما بأن المياه العذبة فى العالم تمثل 2.5% مياه العالم منها 0.4% فقط مياه عذبة فى شكل انهار وواحات وخزانات للمياه. لذلك المشكلة تتمثل فى ربط الاراضى الزراعية بالمياه العذبة المحدودة. وهنا نقف امام تحدٍ اخر وهو تضاعف اعداد السكان بعد ثلاثين عاما. مما يجعل جميع الدول تفكر فى تحقيق الامن الغذائى.

وتشير بعض الدراسات ان العام 2040 وهو العام الذي سيشهد جفاف دجلة ويسبقه الفرات بسنوات… ولكنني واثق بأن الجفاف سيحدث قبل هذا الوقت ب 10 الى 15 عاما. حيث ان الدراسة المذكورة لم تاخذ في الحسبان ما يخطط له اخوتنا في \”الدين\” في الاناضول و الخليج لمياه الدجلة والفرات. 

ووفقا لتقرير لإحدى المنظمات الدولية (كرين-الحبوب) ان نحو (227) مليون هكتار(حوالي مليار دونم) فى العالم قد تم \”الاستحواذ\” عليها منذ العام 2000. إما بشرائها من الدول فقيرة، واقيمت عليها مشروعات عملاقه تحتاج الى الكثير من المياه لزراعتها. 

حاليا هناك هجمة شرسة من قبل الدول الخليجية و الصين والهند وصناديق التقاعد الاوروبية على اثيوبيا وكينيا والسودان ويوغندا للحصول على ارض زراعية مما يؤثر بالسلب على مياه النيل . 

ان كل مليون شخص يحتاج لمليار متر مكعب من الماء سنويا، ومصر بملايينها التسعين نسمة ستحصل على 42 مليار متر مكعب سنويا من الماء علما بان 96% من اراضي مصر صحراوية قليلة الامطار، اما العراقيون حتى الان يحصلون على نصف احتياجاتهم المائية من الانهار ومما يساعدهم هو ان الامطار المتساقطة على العراق والتي لايعتمد عليها كثيرا خاصة في السنوات الاخيرة.

 لهذا هناك تخوف من سد النهضة الذى سيؤثر بالتأكيد على حصة مصر من المياه. محذرا من انه اذا استمرت اثيوبيا فى توسع الاستثمار الزراعى ان لم يكن فى حقيقة الامر استحواذا واستعمارا زراعيا. ستنجم العديد من الثورات فى المنطقة. ولقد نشرتُ على \”موقع زراعة كوردستان\” جداول بالاستحوذات الزراعية الخليجية على ضفاف النيل في السودان واثيوبيا، ان مليارات الدولارات التي تحلم بها الدول الواقعة على ضفاف النيل جراء بيعها اراضي زراعيه حفزت اثيوبيا على بناء سدود على النيل لتوفير المياه على هذه الاستحواذات من الاجانب وستتكرر هذه السناريو في اكثر الدول التسعة تنبع منها او تتشاطئ على النيل. وبالفعل فقد اعلنت اوغندا قبل ايام عن اعتزامها بناء سد اكبر من سد النهضة على النيل. علما بان بناء السدود في اثيوبيا سُتكلف 13 مليار دولار حسب جريدة \”الاندبندت\” اللندنية، واعطت الصين قبل ايام قرضا بمبلغ 1 مليار دولار لاثيوبيا لبناء السد، والسؤال الان  من سيتحمل حصة الاسد في بناء سدود اثيوبيا الفقيرة؟!!!

ان ما تحاول الدول الخليجية- وبتشجيع وسمسرة تركية- الاستحواذ على اراضي زراعية في جنوب شرقي تركيا،  كما استحوذت ومازالت تستحوذ على مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية في دول منابع النيل مثل اثيوبيا وكينيا والسودان وغيرها. ان الظاهرة الاستعمارية هذه ستؤدي الى الاستحواذ على المياه لري الاراضي الزراعية المسلوبة، وستودي الى جفاف نهري دجلة والفرات والنيل. لذا اقترحت على الحضور بالعمل على ادانة الاستحواذ على الاراضي الزراعية ومياه الغير وستتفاقم المشكلة دوليا وتسبب حروبا بين الشعوب وتهديد السلام العالمي، وستؤدي دون شك الى تدخل الامم المتحدة لمنعها وتحريمها كما منعت ممارسات كثيرة خلال الستين عاما من عمرها. وقد سبق وان كتبت كتابا حول هذا الموضوع باللغتين العربية والكُردية وبطبعتين محذرا حكومات بغداد واربيل لما سيستجد لامننا الغذائي ومياهنا. وأوضحت في كلمتي التي لم يستسيغها الاتراك بأن \”المياه ليست سلعة للتبادل، بل هى حق من حقوق الانسان فى الحياة ولا يجب ان تتحكم فيها دولة على حساب أخرى. لاسيما ان الامن الغذائى والمياه والارض الزراعية عناصر مرتبطة بعضها البعض تكمل كل واحدة منها الاخرى. والا اصبح مصير البشرية هباء منثورا\”.

ولنا لقاء اخر في الجزء الثاني، مراحل وطريقة التعطيش!!!!(2)

*بروفيسور في المياه وخبير سابق في منظمة فاو.

إقرأ أيضا