السرد وصناعة الخيال

يشغل السرد قسطاً وافراً من حياة الإنسان، ويتكفل بصناعة قسم كبير من وعيه، ويقع على عاتقه تشكيل جزء مهم من متخيّله الذهني. فمنذ نعومة الأظفار تتفتح مسامع الإنسان على حكايات الكبار: الوالدين والجدات والأجداد، وما عاشوه من أحداث، عابرة أو مهمة، خارج المنزل، أو في ما مضى من أعمارهم، قبل أن تبصر عيناه النور. ينقلونها إلى أذن الصغير الذي لم يغادر عالم البيت المحدود بعد، فيسمع بأشياء لم يرها، وأسماء أناس لم يلتقِ بهم، ومسميات لأماكن لم يصلها، فتبدأ مخيلته بنسج الصور حول ما يسمعه، واقتراح أشكال وألوان لكي يتعقّلها ويستوعبها، ولن تخرج الصور التي يتوصل إليها عن حدود ما قد أدركه ورآه فعلاً في عالمه الصغير. فلا يتعدى حدود ملامح العائلة، وتصرفاتهم وأصواتهم وألبستهم، ولن يتجاوز دوره سوى التبديل بين مكوناتهم وملامحهم وهيئاتهم، لإنتاج صور مقترحة أو افتراضية لمن لم يرهم. وكذلك يسري الأمر على الأماكن والبيئات والأشكال والأشياء التي تطرق سمعه، و دون أن يكون له تماسٌّ مباشرٌ معها.

تتفتح ذهنية الطفل يوماً بعد آخر، حتى يأتي اليوم الذي يكتشف فيه التلفزيون، وما يمنحه للمشاهد من ألوان وأصوات وأشكال وصور وأسماء وبيئات وأفكار جديدة، كلها منتظمة في قالب حكائي مشوّق، فينتشي بالخروج، افتراضياً وخيالياً، من حدود عالمه الذي اعتاده، إلى عالم أرحب، يمنحه متعة التعرف على عوالم مغايرة، على الأرض أو في الفضاء، في الغابات أو البحار، في الجبال المغطاة بالثلوج أو في الصحاري القاحلة، فيمثل هذا التعرف الجديد قفزة نوعية في مدركاته الحكائية، تتسع، بالتفاعل معها، مساحة عمل مخيلته، فيبدأ بإنتاج صور ذهنية جديدة مستقاة مما يراه في برامج الأطفال وأفلام الكرتون. قد يتصور، وفقاً لذلك، أن صوت الريح في الخارج إنما تطلقها أشباح بيضاء شريرة، أو يتخيل أن في الغرف المغلقة والمظلمة، ثمة وحوش تختطف الصغار، أو يتوقع أن يصحو في الصباح فيجد أن بابا نويل، محلي ربما، قد ترك له حفنة هدايا مميزة، بمناسبة أعياد الميلاد، التي لا يعرف متى تأتي!

يخرج إلى الشارع، ويختلط بمن هم في عمره، وتبدأ عنده أوهام التفوق على الأقران، خيالات القوة الخارقة، والتغلب على الجميع، والفوز عليهم في كل لعبة يمارسونها، فهو يسعى إلى أن يتجسّد فيه أفضل لاعبي الكرة، في أفلام الكرتون، من أصحاب الضربات التي تمزّق الشِباك. وهو، أيضاً، المقاتل الشرس، والمتحول إلى أقوى الشخصيات الفضائية، وصاحب الضربات القاضية من قبضته الحديدية. يمكن له أن يطير أحياناً، أو أن يتقدم على الجميع في التسابق الصبياني، وأن يفوز في جميع الألعاب الطفولية بقدراته الخارقة. 

يعود للفراش في المساء فتراوده الخيالات، ويبتسم لما تحقق له من انتصارات وهمية، في طريق تحقيق الذات، ولو سردياً. فما يقوم به لن يتعدى كونه مجرد حكايات ستختزنها الذاكرة، لتستعيدها يوماً ما؛ بوصفها مادة حكائية أوّلية يمكن إعادة تشكيلها وتوظيفها في سرود جديدة تنبني عليها متخيلات الأجيال القادمة، أو أن تكون مثار سخرية ذاتية وضحك للفرد، بينه وبين نفسه، مما كان يعيش فيه من سذاجة تثير السخرية. 

إقرأ أيضا