بديهيات فاسدة: البعث السني وجمهورية قاسم الشيعية!3-3

عراقيون أولا أم شيعة؟ 

أصدر الضابط المنشق على نظام صدام حسين والملتحق بالمعارضة الإسلامية الشيعية أحمد الزيدي سنة 1990، كتابا عنوانه \”البناء المعنوي للقوات المسلحة العراقية\”، ويبدو أنه ألَّفه خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، وقبل أن تنتهي تلك الحرب بفترة قصيرة.

  في السطر الأول من هذا الكتاب، الذي يقع في 448 صفحة من القطع الكبير، يعلن الكاتب بكل اطمئنان (أنّ دراسة تاريخ العراق قديمه وحديثه ترتبط بتاريخ الشيعة الذين كانوا وما زالوا يشكلون الجزء الأعظم من سكان العراق) مؤكداً أن تاريخ الشيعة هو تاريخ الأهوال \”والمصاعب والمحن والشدائد التي مرت عليهم وظلت دوماً تلح على ضمير ووعي أبناء الشيعة مولدة إحساساً مريراً بالغبن والإجحاف\” منذراً ومحذراً أن كل ذلك قد يدفع (إلى القيام بأعمال تصل إلى حد الانتقام من كل شيء وتدميره، أعمال تشبه الانتحار، الغاية منها الخلاص من الوضع الشاذ الذي يعيشه حتى لو كان الحل هو الموت.ص 15) فهل ثمة صفاء نبرة وقوة إنذار وبلاغة وعيد أكثر من هذه الكلمات النارية والتي تصطدم بقوة وعمق بالسردية السياسية الوطنية العراقية التي تدافع عنها المنهجية البحثية التي نتبناها؟ 

بعد صفحات عديدة وبتفاصيل لا حصر لها عن معاناة (الشيعة) تارة و(العراقيين) تارة أخرى في ظل الحكم الأموي ولاحقاً العباسي، وصولاً إلى ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، ونلاحظ مكررا، واحدة من مقولات الخطاب المذكور: (إن الإنكليز تمسكوا بعد ثورة العشرين بموقف العداء للشيعة، واعتمدوا في إدارة الدولة على الأقلية السنية الذين استولوا على مقاليد الحكم تحت رعاية الإنكليز الذين أضمروا الحقد لأهل الجنوب بصورة عامة وأهل الفرات الأوسط بصورة خاصة) وربما تذكر القارئ كلام حسن العلوي، (حول مشروع \”كوكس/ النقيب\” لإنشاء دولة قومية متمذهبة\” سُنية\” وفق شروط السياسة البريطانية، يهيمن عليها السنة ويقصى عنها الشيعة)، وكل هذا الكلام متهافت لا يستقيم مع حقائق التاريخ والواقع كما بيَّننا وسنبين. ومن الطريف أن مؤلف \”البناء المعنوي\” لا يذكر شيئاً عن هذا المشروع ولا عن النقيب بل علق في استطراد على الصفحة 285 على أمر شبيه بهذا حين اعتبر (أن الدكتور سعدون حمادي، هو من أعمدة السياسة البريطانية في العراق) والشخص المذكور من الشيعة الإثنا عشرية وكربلائي المولد والنشأة ومسؤول قديم في حزب البعث والدولة، تنسم منصب رئيس الوزراء، بعد عاصفة الصحراء الأميركية. ويستنكر الكاتب أن \”يجلس السنة على رأس السلطة\” في حين يجب على الشيعة (أن يموتوا ويقاتلوا ويحموا الدولة ويشكلوا لحمة الأجهزة التي تحافظ عليها. ص 56) وصولاً إلى العهد الجمهوري بعد انقلاب 14 تموز 1958 ومجيء عبد الكريم قاسم وهو من أب سني وأم شيعية، والذي يقول عنه الكاتب أنه (وجد نفسه مضطراً لأن يرفع البؤس والفقر عن طبقات مستضعفة ومسحوقة..) ولا ندري لماذا حشر الكاتب عبارة \”وجد نفسه مضطراً\” هنا! هل كان عبد الكريم قاسم السني الوحيد محاطاً بالضباط الشيعة وقد أثبتنا العكس في مناسبة سابقة وقلنا أن جميع أعضاء مجلس القادة كانوا من مكون العرب السنة؟ أم أن الزيدي يستكثر على قاسم أن يفعل ذلك وهو الذي يقول عنه بعد قليل (إن عبد الكريم قاسم هو الشخص الوحيد في تاريخ العراق ممن عمل على خلق روح جديدة ونمط جديد في الحكم.ص 78)؟ دون أن يجرؤ الكاتب على تسمية هذا النمط الجديد بأنه لا طائفي، لا بل إن النظام الجديد اعتبر من قبل الكثيرين بأنه منحاز للشيعة ومحابي لهم، ووصفه اليمين الديني والقومي، وخصوصاً حزب البعث الذي كانت قيادته من الشيعة في غالبيتها كما أشرنا سابقاً، بأنه شعوبي وفاسد ومعاد للعروبة. وقد ذكرنا آنفا حقائق تكشف تهافت هذه الرؤية منها أن نسبة الضباط السنة في مجلس القادة هي 100% وأن وزارة قاسم الأولى كانت تضم ستة وزراء من السنة وأربعة من الشيعة وثلاثة من الأكراد، أما وزاراته الثانية فقد ضمت ثمانية وزراء من السنة وثلاثة من الشيعة وثلاثة من الأكراد. بطاطو/ ك 1 ص 154. فكيف تفسر العقلية الطائفية هذا اللغز المحير؟ نظام جمهوري وطني وثوري، محسوب أو منحاز إلى الشيعة، أو في الأقل \”لا طائفي\”، في حين تتشكل قيادته كلها أو أغلبها من السنة؟

تكتيك النعامة الطائفية

إنّ العقلية الطائفية وقد استعصى عليها حل اللغز لجأت إلى تكتيك النعامة فدست رأسها الصغير في الرمال واعتبرت اللغز غير موجود. إن التفسير المنطقي لهذه \”المفارقة\” هو ذلك الذي يستند إلى التاريخ الواقعي،فتلك الثورة، التي بدأت بانقلاب عسكري، تقرأ من حيث برامجها السياسية والاجتماعية الطبقية ضمن سرديتها الوطنية الأشمل والأعرق لا من حيث الهوية الثانوية والتركيبة الطائفية لأفراد قيادتها. وقد كانت حركة التغيير الثوري آنذاك واضحة في انتمائها الطبقي وفي سياستها الداخلية والخارجية ولهذا السبب بالضبط هبت الملايين من أبناء الطبقات العراقية الفقيرة للدفاع عنها ومساندتها؛ كما مارس وجود الحزب الثوري اليساري، عميق الجذور في تربة العراق، والذي مثله الحزب الشيوعي العراقي، رغم كل التحفظات التي تقال عن خطه السياسي وبنيته الستالينية في تلك المرحلة، نقول، مارس دوراً فاعلاً وعميقاً في تنظيم وتوجيه التحرك المليوني الجماهيري، الذي فرضت طبيعة الانقسام الطائفي للمجتمع تأثيرها في أن تتخذ أرقام النسب على مستوى القاعدة الحزبية الشيوعية هذا الشكل الذي يميل إلى أغلبية كبيرة لجماهير منطقة الجنوب والفرات الكثيفة سكانيا والمضطهدة بقسوة من الإقطاعيين والذين جاءت ثورة 14 تموز لإنقاذهم وإنصافهم عبر قانون الإصلاح الزراعي الجذري فانحازوا لها بالملايين.

إن المؤلف يعترف بجزء من الحقيقة وبطريقته الخاصة حين يقول إن قاسم (قد أثار حفيظة الإنكليز وأصبح العراق يعيش جواً مشحوناً بالتوتر والاضطراب، كان للقوى الكبرى اليد الطولى في التخطيط لها ودعمها وأدت في آخر المطاف إلى الإطاحة بحكم قاسم وقتله. الزيدي ص 97) وهذه شهادة يجب الانتباه إليها، يعترف الكاتب من خلالها بأن الإنكليز وعملاءهم المحليين هم من انتقموا من قاسم وضباطه اليساريين، وهو هنا يختلف مع مرجعه الشيعي آية الله محسن الحكيم والذي قال لرئيس الوزراء الانقلابي \”طاهر يحيى\” والذي يكنيه العراقيون بأبي فرهود لكثرة ما نهب \”فَرْهَدَ \”من أموال الشعب، وبعد مرور أقل من عام على مقتل قاسم ورفاقه والآلاف من اليساريين والديموقراطيين العراقيين، قال الحكيم لأبي فرهود (لقد سبق أن قلنا لبعض الحكام الذين انتقم الله منهم أن الشعب العراقي شعب مسلم متدين لا يرضى بغير الإسلام شريعة ونظاماً..العلوي/ الشيعة والدولة القومية/ ص 354) وثمة فرق، والحق يقال، بين من يقول أن الإنكليز وعملاءهم انتقموا من قاسم ونظامه الذي وزع أراضي الإقطاعيين الشيعة على فقراء الفلاحين وبين من يقول أن الله هو الذي فعل ذلك. الثابت والأكيد هو أن الإنسان العراقي البسيط والعارف بخبايا تاريخه، يستصعب تصديق أن الله وقف مع الإنكليز والانقلابيين عام 1963، ولهذا فهو سيميل – ونحن معه بكل قوة – إلى تصديق شهادة صاحب كتاب \”البناء المعنوي\”، من أن الذين فعلوها وقتلوا قاسم وجمهوريته هم الإنكليز وعملاؤهم الانقلابيون!

  وبعد أن \”انتصر\” الإنكليز والانقلابيون على العراقيين، يروى لنا الكاتب ما حلّ \”بالشيعة\” من فظائع! وسيكون مملاً التذكير بأن ثلثي قيادة الحزب الذي قاد الانقلاب – حزب البعث – كانت من الشيعة، ولكن الكاتب يسطر بكل برودة أعصاب (تم تصنيف أعداد من الشيعة على أنهم يستحقون الموت وتمت تصفيتهم بأعصاب باردة إشباعاً لرغبة الانتقام المخزون، وكل ذلك كان يجري باسم القضاء على الشيوعية.. الزيدي ص 80) إنها حرب على الشيعة شنها السُنة إذاً، كما سيصرح بذلك مراراً وتكراراً كوادر الأحزاب الطائفية في أيامنا هذه. ولكننا نقف على شهادة أخرى ومختلفة، ترسم لنا بعض قسمات المشهد السياسي في عهد قاسم. فقد كتب حسن العلوي في كتابه سابق الذكر (ولما لم يكن للمعارضة الشيعة الدينية نفوذ واسع في المدن الشيعية التي انتصرت لقاسم، لجأت هذه المعارضة في بعض الأحيان لممارسة نشاطها في مدينة الأعظمية \”السنية\”.. وقد كشفت تلك التطورات عن ظاهرة جديدة. فالمتدينون الشيعة والعلماء الذين يناوئون السلطة، لم تتوفر لهم امتدادات شعبية واسعة بالقدر الذي يتوفر لعلماء السنة في مناطقهم، بسبب سيطرة ونفوذ الحزب الشيوعي العراقي، ومؤيدي حكومة الثورة، وانتشار الأفكار اليسارية في أوساط الأغلبية الشعبية.. وكانت صور علماء الدين الشيعة المناوئين لقاسم محمية في المناطق السُنية، أكثر منها في المناطق الشيعية..العلوي. ص 49) فإن هذه الصورة لربيع بغداد والعراق في ذلك العهد الثوري، صادقة تماماً، ومعروفة للقاصي والداني وبتفاصيل مثيرة أخرى وضعت النظام الطائفي وكافة إفرازاته على كف عفريت، وكادت تنتقل بالعراق إلى عصر جديد يقوم على ديموقراطية اجتماعية جذرية ودولة علمانية محايدة طائفياً، دولة مواطنة ومساواة لا دولة مكونات تابعة للدول الأجنبية، ولكنه -العراق- أغرق في بحر من الدماء. 

التشيع مذهب أم هوية؟

 إن ما لا يريد الخطاب الطائفي الجديد تصديقه والاعتراف به، هو أن يكون الشيعي شيوعياً، أو لنقل أنه يعتقد بأن الشيعي سيظل شيعياً طائفياً سواء صار بعثياً، أو شيوعياً، أو نازياً أو من أصدقاء الدلافيين. فالتشيع عند الطائفيين الخلص كما هو التسنن عند خصومهم ليس مذهبا دينيا محترما كسائر المذاهب بل هو في نظرهم هوية أولى ينبغي الدفاع عنها ضد الهويات الأخرى، أي أن  الانتماء للطائفة يشبه عند هؤلاء شبيها بالخروج من التاريخ الحي والحقيقي إلى تاريخ الخرافة والأوهام وإسقاط الرغبات الذاتية على الواقع، والحال، فقد كان على انقلابيي 8 شباط 1963، ولكي ينفوا عن أنفسهم تهمة الطائفية، التي تصرخ اليوم: كانت تلك حرب على الشيعة لا على الشيوعيين. نقول كان على أولئك القتلة، أن يطلقوا الرصاص أيضاً على الُسنة في شوارع الأعظمية والرمادي والموصل لمراعاة النسب الطائفية! إن الخطاب الطائفي وسواء كان سنيا أو شيعيا، المُعلي من شأن وقدر الهوية الفرعية والثانوية الطائفية على حساب الهوية الرئيسية الوطنية، و المنفلت من مأساته وحرماناته الخاصة، بوصفه صيحة عصر الانحطاط الأكثر دوياً، يلامس في أحوال كثيرة سقف الملهاة التاريخية، ولكنه لا يتخلى عن دوره الأساسي كمخطط جاهز للتنفيذ غدا مثلما كان بالأمس، لأكبر مآسي العراق المستمرة عبر التاريخ القديم والحديث.

كلمة أخيرة في نهاية هذه الدراسة: لقد سعينا إلى تفكيك وإظهار فساد هذه القناعات التي أريد لها أن تكون بديهيات راكزة وماكنة في الوعي العراقي العام، تاركين تقييم وتقويم نتائج محاولتنا هذه لغيرنا من قراء وكتاب، لكننا نستدرك ونقول: إن سعينا هذا لم يكن الهدف منه أصلا ابتكار أو ترسيخ أو إثبات صحة بديهيات أو قناعات معاكسة من قبيل (أن حزب البعث في العراق كان حزبا شيعيا) أو (أن جمهورية قاسم كانت شيعية) ؛ كلا، قطعا، ولا يفسر محاولتنا هذا التفسير إلا المتسرع والآخذ بأسوأ صور المنطق الشكلاني، فهذا التفسير لا يقل تهافتا عن التفسير الوارد في ما نعتناه بالبديهيات الفاسدة موضوع نقدنا، فنحن ما أردنا إلا إثبات ركائز وبديهيات السردية الوطنية العراقية العميقة والمتشكلة منذ الثورة الثلاثية العراقية في القرن الثامن عشر وتحديدا سنة 1878، تلك السردية التي يجري التخلي عنها لصالح فقاعات طائفية أو عرقية في أيامنا هذه؛ إنها سردية تؤكد الأساس السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي للأحداث المختلفة، ومنها الصراعات والخلافات وكافة تفاصيل التاريخ العراقي في عصر تشكُّل وقيام الدولة العراقية الجديدة بعد فترة الحكم العثماني والمملوكي وتبلور ملامح مجتمع عراقي مندمج وله هويته الوطنية ولكنه بقي قيد التشكل طوال القرنين الماضيين وتراجعت نسبيا وبشكل مطَّرد الهويات الفرعية العشائرية والطائفية والجهوية لصالح الهوية الوطنية حتى جاء الاحتلال الأجنبي سنة 2003 وقيام حكم المحاصصة الطائفية فأصيبت هذه السيرورة المجتمعية التاريخية الصاعدة بنكسة كبرى وحدثت ردة عميقة قبلت المحتوى التاريخي مؤقتا لصالح الهويات الفرعية وعرقلت سيرورة الاندماج والتشكل الماهوي الاجتماعي في هوية رئيسية واحدة؛ وطالما استمر بقاء نظام الحكم المحاصصاتي الطائفي الذي جاء به الاحتلال الأجنبي فإن هذه الردة ستستمر وستتقدم الهويات الفرعية لعصر ما قبل الدولة على حساب الهوية الوطنية الرئيسة؛ وهنا تكمن بذور الكارثة التاريخية الكبرى التي يبذرها حكام اليوم والأمس القريب!

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا