هزائم بألوان النصر

  رغم أن حركة المجتمعات البشرية تمضي وفق قواعد وقوانين وضرورات، لكنها تختلف عن نظيراتها…

 

رغم أن حركة المجتمعات البشرية تمضي وفق قواعد وقوانين وضرورات، لكنها تختلف عن نظيراتها في العلوم الطبيعية حيث يمكن التنبؤ بالنتائج متى ما توافرت الشروط العلمية الصرفة المتعلقة بالمواد ذاتها موضوعة البحث او التفاعل.. في حين تتعلق القوانين الاجتماعية بالاداء البشري ومدى فهمه وحسن انسجامه معها وكذلك الجهد المبذول لتطبيقها.. لذلك دائما هناك فرصة لعوامل ثانوية او دخيلة لتلعب دورا في اللحظات الحاسمة حين تكون الاشياء في طريقها للتبلور, ولكي لا نذهب بعيدا في اعماق هذا الموضوع المرتبط بعلم الاجتماع وعلم النفس السياسي والاجتماعي والتاريخ سنركز على حالة حرف العديد من التغييرات الاجتماعية والسياسية التي كانت تمضي وفق القوانين والقواعد المعروفة واذا بقوى لم تكن مؤثرة او جزءا من عملية التغيير تظهر فجأة لتقود التغيير الى نهايات مختلفة.

 

لقد حدث ذلك في بلدان وازمان مختلفة والاهم انه حدث في بلادنا سابقا ويتوقع حدوثه في الفترة القادمة وهذا هو مصدر اهمية الموضوع.. الظروف الحالية التي يمر بها العراق تشير الى فشل النظام السياسي وكل قواه السياسية والدينية ليس في ادارة البلد ولكن ايضا في الانسجام مع الحد الادنى لمتطلبات شعاراتهم ومرجعياتهم السياسية والدينية وهو فشل مطلق بكل المقايس مايجعل بقاء الوضع الحالي امرا مستحيلا ويفتح الباب لتغيير (حتمي) قادم.

 

إن فشل الدين السياسي الذي استثمر القداسة والقيم الدينية لمشروعه في الحكم يفتح الباب منطقيا لقوى اخرى بفكر وشرعية مختلفة كي تكون البديل الطبيعي للاسلام السياسي,لكن الركون الى ذلك وكانه عملية تلقائية امر خاطيء وينطوي على فهم سطحي لحركة التاريخ وحركة تطور المجتمعات وتترتب عليه نتائج خطيرة فكما حدث في بلادنا وفي بلدان اخرى من الممكن جدا ان تتقدم الصفوف قوى اخرى ليست مؤثرة او لها تاريخ لتاخذ السلطة مستفيدة من الظرف الموضوعي وقابليتها على التحالف والتعاون مع اي جهة وتبني اي خطاب في ظل تردي شديد للوعي وعدم وجود قوة او قوى سياسية تمثل مرجعية للناس.

 

لقد كتبت قبل شهرين ونصف مقالة عن الخطاب السياسي الراهن في هذه الصحيفة تعرضت فيه الى تردي هذا الخطاب وعدم مصداقيته بل وضعف لغته ناهيك عن افكاره وواحدة من الافكار الاساسية في المقالة كثرة الادعاءات في هذا الخطاب دون امكانية للتحقق منها وهو امر ينسجم مع منظومة القيم والمبادئ التي تراجعت بعد عقود من القمع والتغييرات التي طالت بنية المجتمع والتي أمست بعضها عاهات دائمة، بحيث ان الكذب باقبح صوره لم يعد عيبا ليس على المستوى الفردي، بل على مستوى القيادات والنخب السياسية التي تكذب في كل شيء ثم تبقى مبتسمة طول اليوم دون ان يترتب على كذبها اية عواقب….

 

إن ذلك يسهل صعود افراد او جماعات لا تملك مؤهلات او تاريخ وطني مما يربك المشهد السياسي والاجتماعي وكل ذلك يخدم عملية تدوير النفوذ المستمرة بعيدا عن القوى والافراد الذين امتهنوا ولاجيال ولازالوا العمل العام ودفعوا اثمانا فادحة بسبب ذلك.. حيث لا زالت جهودهم وتضحياتهم التي تنفتح الافاق امامها الان لتصل الى نتائج ايجابية بعد فشل الاسلاميين وقبلهم دعاة الفكر القومي وايصالهم البلاد الى ماهي فيه من بؤس ودمار وانتهاك لاستقلالها, مهددة بامكانية وصول شخصيات وجماعات انتهازية تتحكم بمقدرات البلد مستفيدة من ياس الناس وعجزها وعدم وجود قوة منظمة ذات مصداقية وخطاب سياسي مقنع مع ان غالبية المجتمع تريد التغيير وتعلم الاتجاه الذي ينبغي  ان يكونه.

 

ان التغيير الايجابي لايحصل فقط لان مرحلة بفكرها وشخوصها انتهت فقط ولكن لان هناك قوة  تعبر عنه وتحدد بوصلته وتدرك توقيتاته الطبيعية وغير التعسفية وتستطيع التحكم  بالياته او على الاقل التعامل المرن معها وتوفر الكادر البشري المؤهل,حيث بغياب ذلك سنعيد تجربة سبق لشعبنا ان مر بمثلها وكذلك شعوب اخرى ,فاذا استثنينا العامل الخارجي ممثلا بالمصالح غير المشروعة بل وحتى المشروعة للقوى الاجنيبية عالمية او اقليمية فان (الوطنيين) العراقيين فشلوا غير مرة وفي احداث مفصلية في ادراك الموقف والممارسة  السياسية المطلوبه وهو ما ادى ليس فقط لضياع فرص تاريخية وانما قاد لكوارث كان لها ان تعيد الى البلد والمجتمع الى مراحل متخلفه كان تم دفع كلف دموية لتجاوزها,واذ ليس هذا هو المجال للحديث عن هذه الاحداث والسياسات والممارسات الخاطئة التي انتهت الى نتائج اقل مايقال عنها انها سلبية بدل الوعد والفرصة لتغيير نحو الافضل فالاهم القول ان ذلك يعكس خللا في الفكر السياسي العراقي المعبر عنه في كيانات سياسية قدمت التضحيات البشرية الجسام لكنها لم تتماهى مع الارث الثقافي للمجتمع العراقي الغني فكريا.

 

إن هذا الخلل في الكيانات السياسية يرجع لاختلالات في البنية الاجتماعية العراقية لم يتم تشخيصها سياسيا رغم انها شخصت فكريا ولم يتم اعتبارها عند اتخاذ المواقف وصياغة السياسات, وان كون الاختلالات تكمن في المجتمع اساسا لايعفي الكيانات السياسية التي كان واجبها العمل على تشخيص وفهم ومعالجة هذه الاختلالات..وعندما نقول انها شخصت فكريا فان ذلك واضح من الدراسات السوسيولوجية التي قدمها كتاب عراقيون واخرون اجانب اذ لم ينعكس ذلك على الاحزاب العراقية فكريا وسياسيا واحد اهم اسباب ذلك اساليب العمل السياسي الخاطئة التي ركزت على الممارسة السياسية مقدمة اجيالا من العراقيين قرابين مجانية دون ان تهتم بالفكر الذي يجب ان تهتدي به رغم كل الادعاءات بتبني افكارا او نظريات محددة.

 

إن من المهم ونحن نستعد لتغيير (حتمي) بعد استنفاذ الدين السياسي والفكر القومي واليسار (البيروقراطي) لبرامجهم وممارساتهم التاكيد على بعض اهم اسباب امكانية حرف التغيير لمصلحة قوى او جماعات وحتى افراد هامشيين انتهازيين غير تلك التي ذكرناها سابقا في هذه المقالة.. ان الافراد والجماعات الوصولية ظاهرة اصيلة في مجتمعاتنا تسمح بها البنية الاجتماعية والمنظومة القيمية للمجتمع وحيث هي تملك المهارة للفائدة وتفادي اي كلف فانها جاهزة دائما لملء الفراغ تساعدها براغماتيتها 360 درجة وهو امر شاهدناه في الكثير من شيوعيي مابعد 14تموز 1958 الذين استغلوا الموجه اليسارية العارمة لمصلحتهم فقاموا بممارسات تنتمي لهم لكنها اثقلت حساب وضمير غيرهم لينبروا بعد العام 1963 وباشكال مختلفة ليكونوا رافدا اساسيا للانظمة السياسية ,مثلما شاهدناه بعد التاسع من نيسان 2003 حين اصبح البلد امام فراغ سياسي بعد سقوط النظام الاجتماعي والسياسي والذي عجز الاسلاميون عن تغطيته فقامت الجماعات الوصولية المحترفة بذلك لمصالحهم وفي الاغلب بطلب ورغبة من الاسلاميين الذين لا يملكون فكرا بعيدا عن هذه الممارسة.

 

إن مجتمعا مثل مجتمعنا يصعب تحديد هويته الاقتصادية لاسباب تتعلق بطبيعته ولخصوصية العملية الاقتصادية وعدم وضوح ودقة مصادر الدخل غير المتطابقة مع المعايير المعروفة ادى الى تداخل معقد بين الفئات الاجتماعية وخياراتها السياسية والتنظيمات التي تعبر عن ذلك وهو امر كان له نتائج خطيرة على تركيبة الاحزاب السياسية وخياراتها بحيث كان لدينا في كل واؤكد كل الاحزاب السياسية فئات تعمل خارج اطار المنظومة الفكرية والاطار السياسي للحزب الذي تنتمي اليه وهو مالايبدو واضحا ومؤثرا الا في الانعطافات والتحديات الاستثنائية إذ تشكل مواقف هذه الفئات عنصرا حاسما في الاحداث المفصلية ومحاولات التغيير.

 

إن كل الفعاليات الوطنية خارج منظومة الفساد تطالب بالتغيير وهو امر مستحق وضروري بل ووشيك لكن من يملك قيادة التغيير هم فئات اخرى ليست بعيدة جدا او ليست متناقضة مع الفئات الحاكمة مهما كان الخطاب السياسي مختلفا والدعاوى الفكرية جديدة.

 

إن هناك حاجة لفكر غير السائد في التعاطي مع موضوع التغيير الذي يتصرف معه الكثير ممن ينتمون للقوى التي تدفع وتدعو له كامر مسلم به وتلقائي استنادا الى منظومة فكرية لايجيدون فهمها ولا هم ملمين بالتطورات الفكرية الهائلة في العالم.. بعد ذلك يمكن الحديث بتفاصيل كثيرة عما يجب فعله لكن ذلك ليس موضوع هذه المقالة التي تكتفي بالتحذير من 9 نيسان اخر تضحياتنا كانت كل شيء فيه من المخاض رجوعا الى كل المراحل، لكن القابلة كانت دائما تاخذ المولود.

 

إقرأ أيضا