الساقية … مهند يعقوب

الطريق التي رأيتها البارحة كنتُ قد مشيتها بصحبة فتاتين يغطيهما رداء أسود ،لم يسبق لي أن رأيتهما من قبل بل لم يسبق لي أن رأيت نفسي كذلك . لقد خطونا فجأة إلى الحياة من الجانب  عبرنا الساقية من دون أن يكلم أحدنا الآخر أو يعبأ بخطواته.كانت ساقية في منحدر وعليها معبر خشبي نحيف بطابقين . لا أعرف لِمَ يوجد معبر خشبي بطابقين أحدهما يبعد عن الآخر مسافة تكفي لترك سؤال ، مثلما لا أعرف ما الذي ستعنيه حياتي مستقبلاً أكثر من أنها شبكة أنابيب عملاقة محشوة بالصراخ والمشاكل وعليّ الاستمرار داخلها حتى النهاية.اختفت الفتاتان للحظات وأنا أعبر المنحدر إلى القرية ولم أجد الأمر مقنعاً بالرجوع ، لقد عاودت إحداهن الظهور وهي عارية تماماً وحزينة تركض باتجاه الساقية.تابعت سيري نحو شيء غريب سيحدث ، شيء يشدني لشخص ما لا يشبه أحداً من الذين أعرفهم أو سبق أن رأيته في أي فيلم سينمائي ، شخص من النوع الذي تناط به مهام ليست سهلة مثل الصمت لفترات طويلة. شخص إما أن يقودك إلى الشقاء أو الخلاص ولا تجد طريقة للتخلص من مرافقته لا بالكراهية ولا بالحب ، أنت منقاد له بفعل الغموض والحنين واختيارك أن تسبح إلى جانبه في الحياة اختيار غريزي لتمنع عنه ضواري الماء بعصيهم ومعاولهم وصرخاتهم المتوحشة.لم يكن يحمل اسماً ولم يناده أحد بصفة أو لقب يقول عنه أهل القرية أشياءَ مبهمة ، وأنه ذات مرة تحدث إلى النّاس وأخبرهم أنه على استعداد لأن يموت بالنيابة عن أي شيء يحدث.كان أزرق ونحيفاً لا تستطيع أن لا تمدّ إليه النظر ، وله قريب يكبره سناً في الأربعينات رأيته مرة ونحن نصعد في إحدى الباصات الصغيرة والمتهالكة في القرية همس له بكلمات لم تكن نهاياتها واضحة كان يبدو عليه الارتياح  ثم اختفى فجأة مع تلك السعادة. عرفتُ أنني سأرى كل شيء بمنتهى الحدود والملامح مثلما رأيت عريّ المرأة  ، وأني في مهمّة قاسية كانت قد بدأت للتو: يركض النّاس باتجاه الشخص غير المسمّى وهم يجلدون كلّ شيء بصراخهم المتعالي ، وهو يركض نحو المنحدر بملابسه الرثة والممزقة ، يركض بأنفاسه المحترقة وأنا بينهما أرى كلّ شيء ، ولا أستطيع إيقاف مجرى الهلع والدّم ، الذي أريق على جانبي الساقية.

*شاعر عراقي مقيم في بلجيكا

إقرأ أيضا