العقل الثقافي

توطئة

حقل الاختلاف المعرفي..

نعني بالعقل هنا أشكال التفكير ومستويات المعرفة وتنوع الكتابات المعرفية وتعدد المناهج النقدية واختلاف الفلسفات، والتمايز أو الاختلاف بين عقل وآخر أمر بات واضحاً بعد أن انتصر مفهوم العقل الإنساني الواحد. يعبر العقل الثقافي السائد عن قلق واضح لدى المثقفين العراقيين إزاء المستقبل المأمول وتحديداً في ظل التطورات الدراماتيكية الخطيرة التي تمر ببلادنا ويتمحور القلق حول موقع الثقافة والمعرفة والفكر من جهة والمثقف والأخلاق والموقف من جهة ثانية إذ أقصى ما يمكن أن يقدمه المثقف هو تطوير أدواته المعرفية لتحسن أسلوبه في الرؤية والكتابة أو النقد ويبدو لي أن هذا الأخير هو الوضع الطبيعي للتصحيح والتغيير في ظل ما نشهده من تقلبات وسلوكيات أو انعكاسات غير ثقافية، غير أن النقد المرائي الذي يمارسه المثقف العقائدي لا يمثل حلاً جذرياً بقدر ما يكرس أزمة العقل ويزيد من تخلف الثقافي والحقيقة أن خلل النقد المشار إليه يعود إلى الكيفية التي تُنتقد بها المشكلة الثقافية في الأصل، هذه الكيفية المزاجية/الفئوية هي التي تُربك النقد والناقد على حد سواء، بهذا المعنى سيبقى العقل الثقافي على حاله وقد يتخذ أبعاداً وأشكالاً وأساليباً أخرى غير ثقافية أيضاً .

1

يبدو المثقف في بلادنا وكأنه كان في غفلة أو سبات أو وهم ثم تنبّه فجأة فرأى حوله عالماً جديداً تحكم كل حركاته وسكناته الأوضاع الدولية والاقليمية والمحلية المتنوعة التي لا فكاك منها وإذا قُدر لهذا المثقف أن يتغير فعليه أن يتحمل الدور المعرفي الجديد المطلوب منه، بمعنى الخروج من الهوان العقلي إلى السمو العقلي فكل تقدم في الفكر أو سمو في المعرفة يرجع إلى عملية التغير والتطور والاندماج والاختلاف معاً.

ما دام المثقف غير مهتم بالثقافة الحقيقية وما لم يتطور وعي الناس وتزداد فاعليتهم في الشأن الثقافي/السياسي وهو أمر لا يمكن تصوره أبداً وما دام البحث الصعب عن لقمة العيش هو الشغل الشاغل للملايين من المثقفين وما دامت ظاهرة الأمية الثقافية المعرفية منتشرة بهذا الشكل الواسع المخيف وما دامت مستويات التعليم تتراجع وما دام هوس الشهرة يتملك النفوس وما دام المثقف يلام أو يدان على تجاوز (صلاحياته) وما دامت ظواهر الظن هي الغالبة فسوف لن يكون بمقدورنا إطلاق العقلية الثقافية المتحررة المغايرة كضرورة أولية.

إن ما وصل إليه العقل الثقافي اليوم يدعو إلى تغيير جذري في النهج والأسلوب والتعاطي، ولكننا نعلم أن عملية التغيير بالغة التعقيد وأنها لا بد أن تمر بمراحل متصاعدة وأنها ستستغرق زمناً ليس بالقصير ولا يجوز أن نرتّب على ذلك أن نترك الزمن يفعل فعله فالزمان مشحون بالمكائد والأحداث والمواقف والمتغيرات دائماً إذ أن تغيير أوضاع العقل الثقافي يأتي من داخله وأن العوامل الخارجية تمثل قيوداً أو فرصاً مواتية ولكنها، في الوقت عينه، لا تحل محل تغير الأوضاع الداخلية للعقل دفعة واحدة، لقد آن الأوان لنقول كلمتنا حول حقيقة غائبة بسبب توهم أن الأوضاع الدولية المتداخلة تحكم وحدها مصيرنا وأن لا إرادة لنا ولا مجال لعقلنا وثقافتنا وتجاربنا ما استمر الاحتلال الثقافي العقائدي الجديد أو الإقصاء والتجهيل.

2

لن يكون لنا دور إيجابي إلا إذا اقتنع الآخر بأننا لسنا أبواقاً لأي حاكم أو مؤسسة أو سلطة ولا نؤجر ضمائرنا لمن يملك السلطة أو الثروة أو كلتاهما وكيف نستنهض العقل الثقافي ونحن غير معنيين بتغييره؟ إذ يجب أن يكون في أول اهتماماتنا المعرفية النقدية نشر ثقافة التغيير والتجديد والتنوير والاختلاف فتلك هي الوسيلة الوحيدة الواحدة لتغليب العقل في الثقافة والفكر والحياة وتسويد العقلانية والمعرفة في حياة المجتمع وسوف لن ينجح جهدنا في الكتابة، بأشكالها المتنوعة، إلا بالاهتمام بعقول الناس واحترامها وأن نقترح لها البدائل المعرفية التي نراها صالحة متمدنة وتتدرج طبيعياً في أوليات ناصعة وثابتة لمدى طويل وعلى من يريد أن يؤثر في توجهات المجتمع أن يبدأ باحترامهم كبشر لهم تجاربهم وانطباعاتهم أو الإصغاء لرؤاهم في الاختلاف وفي سُبُل تنميتها معرفياً وعندئذ يتأكد دورنا كناقدين للعقل الثقافي لا ناقمين.

أمام واقع ثقافي مزاجي استبدادي عقائدي بهذا الحجم يبقى العقل الثقافي الراهن غير مقنع بصورة تدعو للعجب مثلما تدعو للتساؤل إذ يحافظ هذا العقل في توجهاته المهيمنة على خطابين متوازيين ومتناقضين تماماً بدون أن يعيقه النقد، فمن جهة يصر هذا العقل على ممارسة الإقصاء، وهذا هو جوهر خطاب العقل الثقافي السائد، ومن جهة أخرى يلجأ إلى خطاب يغيب عنه تماماً المنطق المعرفي وتقتصر حججه على الثوابت (الوطنية) (المقدسة) أو الدينية المغلقة التي يزعم أنها تتعرض للتشويه وهذا الأمر يشكل في النهاية تناقضاً صارخاً مع الخطاب المعرفي المغاير الذي أطلقته بعض العقول التنويرية والكتابات الرصينة الجادة مثلما شددت فيه على النقد وعلى إمكانية نشر المعرفة في المجتمع.

3

والآن، فإنني أعتقد أنه ما لم نواجه هذا العقل الثقافي السائد مواجهة حقيقية فإن تدهورنا الثقافي والاجتماعي والسياسي والعلمي والاقتصادي سيصل إلى الانقراض فعلاً عكس ما يراه، بعض الكتاب الذين يكتبون بطريقة ناقمة مثقلة بالأنا، أما إذا أردنا أن يكون لنا وزن ثقافي معرفي وفكري حقيقي فلا بد أن نكون نحن، أي أن نتحقق بثقافتنا الحقيقية التي تحمل خصوصيتها المتميزة والتي لا يمكن إلا أن تكون عراقية خالصة، والخصوصية هنا تعني الإضافة النوعية المبدعة التي لا ثقافة حقيقية بدونها ولكي يتحقق هذا لا بد أن نبدأ، من جديد، بمواجهة أنفسنا أولاً وتجاوز تلك التراكمات العالقة في الذهن المغلق، أن نعرف بعمق أننا نستحق الحياة لأننا كتاب حقيقيون عراقيون ولسنا أنصافاً أو أتباعاً وأننا نستطيع أن نبدع وأن علينا أن نزيل العوائق والفواصل والطفيليات التي تمنع إبداعنا أياً كانت خصوصاً تلك التي تريد إنكارنا وشتمنا بشتى الوسائل، وهنا بالذات لا نجد فرقاً كبيراً بين من يقول أن حرية الكاتب في اختلافه وتناقضاته وبين من يقول أن حريته في عقله الهائم في العراء، ولعمري أن مفهوم الاختلاف ليس النقيض لمفهوم الحرية بل على العكس من ذلك أن حقل الحرية/الاختلاف هو حقل الاختلاف المعرفي بامتياز.

إقرأ أيضا