ثلاثة حروب في قصيدة

\”النُخيلات\” قرية صغيرة، في شمال البصرة، تبعد عن قضاء القرنة 8 كيلومتر تقريباً، عرفت باسمها هذا لشحة تواجد النخيل فيها وندرته، وتقع على شاطئ النهر، الجانب الاخر منه لا زال يحتفظ بأثره القديم \”كأرض السواد\” لكثافة النخيل فيه، النخيلات اسم قديم لمكان مقفر، علامة للسائرين في طريق المسافرين، في غابر الزمان، كانت النخيلات ولازالت تبكي لشحة نخيلها وكأنه قدر هذه القرية، ان لا تسمع زقزقة العصافير صباحاً، وهي تغني بلذة بعد وجبة مشبعة من الرطب اللذيذ أيام الصيف.
كانت السماء ملبدة بالغيوم، وترسل دموعها بفترات متقطعة، معطية لأشجار السدر والاثل لوناً آخر وأملا جديدا، انطلقت السيارة بعد وداع عدد من الأقارب، يلوحون بأكفٍ متصلبة أتعبها حرث الأرض وسقيها أيام الشتاء الباردة، وجوه متعبة، أعين لم تشبع من النوم، منذ ان أبصرت نور الشمس، صدور مليئة بأحلام لم تجد أرضا لتحقيقها، الشوارع المغبرة عاد اليها سواد القير، والسهل الخصيب، يتنفس الحياة، بعد أن أمدته السماء ببعض حنانها، السيارة تسير في الشوارع المتموجة، التي أهلكهتها احمال الشاحنات الكبيرة، والتي تنقل البضائع من ميناء العراق الوحيد الى جميع محافظات البلاد، فالبصرة شريان حياة للعراق.
الجانب الايسر مفعم بالخضرة، بينما بقي الايمن اجرد يذكرك بقساوة الصحراء. كان العراقيون ولازالوا يسكنون هذا الشريط الملاصق للنهر، حيث كل الامهم وأحلامهم ودموعهم وذكرياتهم، نهرهم ملهمهم، يتعمدون فيه صباحاً ومساءً، السيارة تسير بوجل، خوف الانزلاق مع زحام شديد، جسر القرنة \”الأنبوبي\” والذي شيّد بعد حرب 1991 لازال يسهل عبور النهر، يجثم قربه جسر قديم، لازال باكيا من الم وقوع الصواريخ عليه، ايام المعارك الخاسرة.
عند عبور الجسر الانبوبي يكتسي الجانب الايمن وصف جديد، حلّة ممزقة، نخيل بلا رؤوس، تذكرنا بجثث الأبرياء، التي قطتعها سكاكين التكفير، على اليسار منه معمل صيانة الدبابات الجريحة في الحروب، لم يبق له أثر، كان شاهداً على خسارات كثيرة، مكابس التمور المشتاقة الى هدير محركات الزوارق البخارية لتنقل التمور مع عرق السوس الى الدول الاخرى، منتدى جميل للشباب بني حديثاً بطراز مغربي، يبعث الامل.
 كنت اجلس في المقعد الخلفي، ناظراً عبر الزجاج لدموع السماء البيضاء، والتي تنزلق ببطئ، تاركة اثر دموع طفل يتيم، جهاز المسجل للسيارة يصدح بقصائد \”متعبة\” من \”أدب الحرب الاهلية الحالية\”، يعدد بأسماء ضحايا يسكنون مناطق بعيدة، محافظات مختلفة، لقوا حتفهم في أزمان مختلفة، الجو الغائم وقصائد الموت والصمت المطبق للجالسين في السيارة، وذكريات  كوارث سابقة على جانبي الطريق، أعطى لكل شيء رهبة.
لازال يردد أسماء الضحايا، استمعت اليه بإنصات، تعجبت بعد انتهاء القصيدة، المنشد لم يذكرني مع أسماء ضحاياه، اشعر اني ميتُ معهم منذ زمن بعيد، فكم مرة اقترب منا الموت واقتربنا منه، كم مرة نظر الينا ونظرنا اليه، لم أكن اعرف اني قتيلُ بعد لحظات فقط، بعد وريقات، بعد اسطر معدودة ستعلن نهايتي، \”وماتدري نفس بأي ارض تموت\”، والصفحات أماكن، والسطور أزقتها الموحشة، التي قد تكون مكان قتلنا، كنا ثلاثة رجال، في ثلاثة حروب، عالمية، عبثية، ومصيرية، كنا ثلاثة هموم، شاعر، ومترجم، وقارئ، اليس من سخرية الزمان، ان يقوم شاعر عاشق بكتابة قصيدته في حربه العالمية، ويأتي اخر يترجمها وهو في خندقه الكئيب، في حرب عبثية، ويقرأها آخر في حربه المصيرية ويعيد قراءتها مرات ومرات، بلا ملل وكلل، وفي كل مرة يرتفع صوته بها، كأنه يخاطب القدر.
السماء تمطر، وعيونه ترمقها، ليتها تسمعه وتستجيب اليه، هذا ما كتبه \”غيوم ابولنير\”، وترجمها \”علي بدر\” وهو في خندق الحرب العراقية الايرانية، وفي العام 1987، كما ذكره هو في روايته، وقرأها آخر في يوم ممطر. كتب \”ابولنير\” قصيدته في عشيقته \”لو\” حيث يقول:
[أعبدك يا \”لو\” والكل يعبدك/ الخيول التي تحمحم عند الضفاف/ ضمادات التماثيل اللاتينية التي تتأملني/ رجال المدفعية الشجعان الذين يعودون الى ثكناتهم/ الشمس التي تهبط على مهل خلف الزرقة الفنطازية الشاحبة/ آه يا كثيفة الشعر المصنوع من نار/ أنت سراجي الذي يضيء لي هذا العالم/ واللهب الذي هو قوتي].
كانت قراءة متعبة، ومتكررة، القراءة المتكررة كانت تزيده كل مرة هماً والماً، وفي كل مرة يزداد خفقان القلب، تتسارع دقاته، حتى خال انه سيمزق هذا الصدر المتعب، ليتخلص من سجنه الأبدي، إشعال سيجارة لم ينفع في إخماد الحريق، بل زاده حرقة واشتعالاً، السترة التي كان يرتديها تعرف كم بكى قلبه دماً، وكم اعتصر، الشمس الهاربة خلف الغيوم، وقطرات المطر النازلة، والنهر الذي يخترق \”كَرمة علي\” وأصوات الأذان الماورائية، وكلمات القصيدة الحزينة، وذكريات الفراق الأليمة، وحالة الشوق الابدي، أعطت الدموع رخصة الهطول مع ساعات الغروب الأولى.

إقرأ أيضا