جمرة… كاظم الجماسي

جمرة أنا. لست أدري متى ولدت؟ ربما لحظة اصطدام حجر بحجر في كهف ما ليلة شتاء باردة، أو ربما لحظة مس برق ما اعواد حقل يابسة، لكن يمكننا ان نوقن، أنها لحظة فريدة، لا تشبه اللحظة الزمنية المعروفة، أذ بمقدورها احتواء كل اللحظات في الوقت الذي لا تحتوي فيه سوى نفسها، لحظة مستمرة، بتوهج ازلي، كان قديماً في حطب المواقد، واليوم يتقد عند رؤوس السجائر. 

أعيش أنا هناك، وأيضاً هنا، في لا مكان وكل مكان، في النهارات الدافئة أو الليالي الصقيعية، في الفصول جميعها، بين أصابعك أو في المزابل، تلفحني شتى الأنفاس فتزيد من توهجي، الزكية منها والنتنة، أو اللاهثة منها والساكنة، وفي النهاية، لست معنية بأية حال سوى التوهج المستمر، وبدرجة أقل، المراقبة المحايدة.. 

في الطابق الثالث من بناية قائمة على ضفة أحد شوارع المدينة، نفض الشاب رماد سيجارته، بعد أن أستل نفساً طويلا منها، نفث الدخان قائلاً:- لعبة سمجة. 

قال الآخرالجالس قبالته، بعد أن دلق محتوى كأسه في جوفه، ماسحاً فمه بظاهر يده:

– لكن لا خيار لنا، نحن في الساحة نفسها.

– أين ولى أذن ما حملنا به؟! هي ذي العاصفة قد خمدت. قلنا سنكون.. ونكون..هه. ودلق هو أيضاً محتوى كأسه في جوفه. قال الآخر باصقاً:

– علينا فهم شروط اللعبة.

وسحب سيجارة من جيب سترته العلوي، ناوله الشاب سيجارته الموشكة على الانطفاء، حرق بها طرف السيجارة الجديدة، ورمى، من نافذة مفتوحة، بعقب الأخرى الى الشارع ، ثم أردف:

– أما أن تلعب أو تغادر.

راح الشاب يسكب من قنينة تتوسط المائدة في قدحه مقداراً من سائل بلا لون، مالبث مضيفاً اليه كمية مناسبة من الماء، فأستحال لون السائل أبيض عكراً. قال:

– لست أجيد اللعب تحت شروطهم. ولا أريد المغادرة. فهل يمكنني البقاء اذن؟ قال الآخر، وكان قد أمتص قدرا كبيرا من الدخان:

– ليس هنا من متفرج. الكل لاعبون. نهض من مقعده، ومشى ناحبة النافذة. ألقى بنظرة حسيرة الى الظلمة الهاطلة في الخارج، ثم قذف أليها بأقصى قواه، سيجارته التي توشك أن تنطفئ. 

ذات ليلة، كانت ملقاة على رصيف الشارع، سيجارة موشكة على الانطفاء، وكانت امرأة في الثلاثين، متوسطة الجمال، تمد أصبعين ناحلين، تلتقطها لتحرق بها طرف سيجارة غليظة قاتمة اللون، لتمتلأ رئتيها بوفرة من دخان فاخر النكهة. غمغمت:

– حتى دخانهم مختلف. ثم مضت.

عند باب واطئ في عطفة شارع توقفت، عالجت قفله بمفتاح ، أنفتحت ظلفته الوحيدة، على طاولة في ممر قصير ألقت بحقيبة يد ثم راحت الى المطبخ، وضعت على رف هناك كيساً بدا محتوياً طعام عشائها، رجعت، من باب مفتوح لغرفة، ألقت بنظرة، كان هناك سريران ان ينام عليهما ولد وبنت، أغلقت الباب، واستدارت لتدخل غرفة مقابلة، على كتف مطفأة للسيجائر تركت سيجارتها، ثم وقفت قبالة مرآة طويلة، وأخذت بالتعري، تحسست بأنامل نحيفة، ثنايا جسد ذابل، عبر المرآة شاهدت سريرها بادياً بشرشف رمادي، جفلت، وشعر جسدها بوخزة، أستدارت وتناولت السيجارة، أمتصت بعمق نفساً منها قائلة:

– كان غبياً بديناً هذه الليلة.

– رمت وجه جسدها، بحركة مفاجئة، على السرير، لم تلبث أن انقلبت على ظهرها، السيجارة في يدها وعيناها معلقتان في سقف الغرفة المتصدع، قالت:

– يريدني مساء غد أيضاً، كم كان كرشه ثقيلاً، يرتج ويرتج، لكنه ينتهي سريعاً. 

تكورت على جانب السرير، بمواجهة المرآة، شاهدت لوهلة جسدها وقد بدا لونه غريباً.. نفثت نحوه غيمة من دخان. ثم قالت: 

– غداً علي شراء تنورة لعائشة وأشرطة شعر، وبنطلوناً لعلي وحذاء. 

شعرت بوجع مفاجىء في بطنها، نهضت ومضت مسرعة نحو المراحيض، تغوطت وقامت، ثم أسقطت في فوهة المرحاض المكشوفة ما كان قد تبقى من السيجارة الموشكة على الانطفاء.

إقرأ أيضا