القلق الوجودي أخرج من سارتر أفضل ما يملك

ترجمة: ميادة خليل

في وقت ما كان جان باول سارتر أحد أشهر الفلاسفة وأكثرهم تأثيراً، ربما، في العالم، لكن (كما يكتب آدم كيرش)، مجموعة جديدة من مقالات سارتر تبين كيف غيّرته أيديولوجيته السياسية، وجعلت منه مناصراً للظلم.

بعد 33 عاماً على وفاته، أصبح من الصعب على القرّاء الأميركيين أن يقدروا نوع السلطة التي تمتع بها جان باول سارتر في فرنسا. فعلى مدى ثلاثة عقود، بدءاً من نهاية الحرب العالمية الثانية، جمع سارتر هيبة الروائي والكاتب المسرحي مع سلطة الفيلسوف وقوة الناشط. 

\”ليس لدينا سوى هذه الحياة لنعيشها we Have Only This Life to Live\”، هي مجموعة مقالات جديدة لــسارتر، هامة، رائعة، وأحياناً غاضبة، تُظهر كيف أن سارتر سلم نفسه على مدى حياته المهنية الطويلة، الى ما يشبه الضمير الرسمي الفرنسي والأوروبي. وكذلك، هذه المقالات تؤكد بشكل كبير على رذائل الفكر السياسي.

القيمة الأولية لهذا الضمير الأوروبي، فكرة واحدة ربطت المقالات في هذا الكتاب (المعالجات الفنية، الأدب، الفلسفة، السياسة)، هي الحرية. فالوجودية بالنسبة لــسارتر، كانت هي فلسفة التحرر، التي تؤكد على أن الوجود البشري متشابك في ظروف ليست من صنع يديه، وأن البشر باستطاعتهم التمرد على هذه الظروف من خلال التأكيد على إرادتهم الحرة.

في مقال قصير عام 1944 \”الوجودية: توضيح\”، حاول سارتر أن يضع في صف واحد الصحفيين الذين حوّلوا فلسفته الى نوع من البدعة الفاضحة، الفكرة الرئيسة لدى الوجودي، كما كتب سارتر، هي أنه \”يجب على المرء خلق جوهره الخاص: أن يرمي نفسه في العالم، يعاني فيه، يكافح فيه، يعرف تدريجياً ماهية هذا الرجل قبل أن يموت\”.

على أي حال هو كتب، في تلك الفترة عن ارتباطه بالحرية. ويسوق مثالا رائعا في مقاله عن المجسمات المتحركة لـ\”ألكسندر كالدر\”، والتي وصفها وصفاً غنائياً على أنها تجسيد مادي على عدم القدرة على التنبؤ: \”اهتزاز مجسمات كالدر وارتعاشها، يبدو الأمر كما لو أنها ارتكبت خطأ، ثم صححته\”. 

من وصفهم سارتر بـ \”المتذبذبين والمجددين، الباحثين والمترددين\”، يذكرنا بتقلبات الوجود البشري لأنه يدور في العالم، لهذا، وفي مقاله عن \”الوقتية عند فوكنر\”، يستهل سارتر رصده لتحولات الوعي في \”الصوت والغضب\” بأمثلة من قبيل: \”ليس المرء مجموع ما يملك، بل مجموع ما لا يملكه بعد، أو ما يمكنه الحصول عليه\”.

في منتصف الأربعينيات، وبشكل متزايد على مدى عشر سنوات، بدأ سارتر التعبد في مذبح آخر: مذبح الشيوعية. هذه الأيديولوجية التي تستخدم قليل معروف من الحرية الفردية، فالشيوعيون بدلاً من أن يقوموا بتحرير البشر أنفسهم، تراهم يتصرفون خارج الأدوار المفروضة عليهم بسبب الصراع الطبقي. 

في بيان مهم لصالح مجلة \”العصر الحديث\” الفرنسية، المجلة التي أطلقها سارتر في عام 1945، أبدى فيها رفضه لأي مفهوم فني مستقل. وعلى الكاتب، كما يعتقد سارتر، دائماً أن يلتزم بالتاريخ مسبقاً، ولا يملك خيارا سوى المشاركة في المعارك السياسية في عصره. \”الكاتب كائن في عصره، كل كلمة ينطقها تأخذ صداها. وكذلك صمته\” حذّر سارتر.

في الصفحات التالية، نرى مشهداً غريباً، أو بالأحرى، منفرا لمنبر الحرية الذي أصبح مدافعاً عن أسوء أنواع القمع، طالما ترفرف راية التحرير. فكرة النص هنا هي \”صورة المغامر\” الذي صدر في عام 1950 كمقدمة لكتاب يتحدث عن الكتّاب الذين كانوا رجال الحركة، مثل توماس إدوارد لورنس وأندريه مالرو. بشكل تخريبي. حوّل سارتر مقالته الى رفض مثالية هذا النوع من البشر، لصالح ما أسماه بـ \”المتشددين\” ــ هذا هو، الشيوعي المتشدد، عضو الحزب. عندما كتب :\”بدل أن تسلب ذاتك منك، الحزب سوف يمنحك ذاتك\”. 

كان يعني بها الثناء على النحو التالي: المناضل يحطم شخصيته الفردية ويصبح تابعا مخلصا للصراع الطبقي. \”هو ليس وحيداً على الاطلاق لأنه اكتشف نفسه من خلال الآخرين. هو لا يمتلك عمقا ولا أسرارا\” في نهاية هذا الترتيل اللا إنساني، يبدو أن سارتر نفسه قد تراجع هو أيضا: \”حتى الآن المجتمع الاشتراكي، الذي سوف يكون مستقبل لورنس فيه مستحيلا أساساً، سوف يصدمني كعقيم\”. اعترف سارتر.

استمر هذا التوتر بين مطالب الثورة ومطالب حرية الفرد يقذف سارتر جيئة وذهاباً في الخطاب السياسي. بعد الغزو السوفيتي للمجر عام 1956، كتب \”شبح ستالين\”، الذي أدان فيه جرائم ستالين، بينما ظل يحاول ملاطفتهم باعتبار أن ذلك مخاض ضروري من أجل الاشتراكية \”هل كان يجب أن يمنح اسم الاشتراكية لهذا الوحش الدموي الذي يمزق نفسه الى أشلاء؟ أجيب بصراحة: نعم… كان علينا أن نملكها أو لا شيء على الأطلاق\”.

وبحلول عام 1968، كانت الحملة السوفيتية على تشيكوسلوفاكيا التي لم تترك لـسارتر أي خيار سوى التخلي عن أوهامه حول الاتحاد السوفيتي \”الاشتراكية التي جاءت من البرد\” مقاله عن الثقافة التشيكية في ظل الشيوعية، كما هو واضح للعيان هو تحليل يمكن أن يقدمه أي منشق. وحتى ذلك الحين، أدان هذه الاشتراكية مع احتمال أن تكون أفضل. بعد ذلك، حوّل أوهامه عن التحرر الى العالم الثالث. 

في مقدمته الشهيرة لكتاب فرانز فانون \”معذبو الأرض\” كتب بسعادة مكتومة عن احتمال قتل الجزائريين لأسيادهم السابقين، الفرنسيين. في صميم أكثر آراء سارتر السياسية، في الحقيقة، تكمن متعة صريحة للكراهية، والتي تعبر عن نفسها أيضاً في بعض مناظراته ضد الأعداء والأصدقاء القدامى. لهذا انتهى \”ليس لدينا سوى هذه الحياة لنعيشها\”. على ما يبدو بدرجة أقل مثل مصدر للالهام أكثر منه تحذير وجودية: \”الفكر العظيم وحده، لا يصنع رجلاً عظيماً\”.

المصدر: The Daily Beast

إقرأ أيضا