مؤيد نعمة.. الكاريكاتير في مواجهة النسيان بعد 13 عاما على الرحيل

مؤيد نعمة.. الفنان الرائد في عالم الكاريكاتير، لا يزال عالقا في ذاكرة الثقافة العراقية والعربية،…

مؤيد نعمة.. الفنان المبدع والرائد في عالم الكاريكاتير، لا يزال عالقا في ذاكرة الثقافة العراقية والعربية، رغم غيابه البعيد والمفاجئ لمتابعيه، فلوحاته الشجاعة المقارعة للارهاب والفساد والظلم، وصلت الى متلقيه بسرعة وظلت مقيمة في وجدانهم، ما جعل منه رمزا إبداعيا قل نظيره.

نعمة المعروف بوعيه الجمالي في ذروة تألقه اللافت كان أبعدَ من وعي اللحظة التاريخية المظلمة التي طوقته، وهو ليس من رواد الرسم الكاريكاتيري في العراق فحسب، بل تعود له الريادة في العالم العربي وبلدان الشرق الاوسط من خلال استخدامه فن النحت في الكاريكاتير ايضا، وقد انتشرت أعماله الفنية والابداعية في عدد من الصحف والدوريات العراقية والعربية منذ أن بدأ إنتاجه الفني في العام 1979.

*ريشة حادة

 كان الجميع يشعرون بالخطر المحدق بالفنان مؤيد نعمة  نتيجة جرأته المكتظة بالتقاطات المدهشة والجريئة جدا، حول كل ما كان يدور في الشارع العراقي، وفي الدوائر الحكومية، وداخل أروقة المشهد السياسي وغيرها، وهذه الخشية هي التي صنعت تساؤلا غريبا اقترن بشكل مدهش بخبر وفاته في العام 2005.

ولد في بغداد عام 1951، وكانت بدايته من مجلة المتفرج الساخرة عام 1967، حتى شكل حضورا طاغيا في ابرز الصحف والدوريات العراقية والعربية، ترك تخصصه العلمي في شبابه ليلتحق بأكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، فحصل على البكالوريوس في الخزف من قسم الفنون التشكيلية عام 1971، وحاز على الجائزة الدولية للكاريكاتير- كافرو- بلغاريا 1979. وحاز على جائزة الكاريكاتير/ نقابة الفنانين العراقية عام 1989، وساهم في عدة معارض كاريكاتير دولية منها بلجيكا 1975, ويوغسلافيا 1986, واليابان 1987, وكوبا 1987, بالاضافة الى معرض الكاريكاتير العربي في باريس 1988, وتركيا 1988 -1989- 2001.

Image

*مؤيد روحي الملتصقة بالجسد

زوجة الراحل مها البياتي التي لطالما كانت رفيقة دربه والزوجة الوفية التي لا تزال تحتفظ بكل اشيائه وكل تفاصيل حياته في ذكارتها منذ مرور سنوات طويلة على رحيله، فتقول “مؤيد نعمة في الحقيقة هو كالروح الملتصقة بالجسد، ولك ان تتصور الحال بعد رحيله..! عشنا معا ثلاثة وثلاثين عاما وستة أشهر، بحلوها ومرها، كان حبيبا وصديقا وزوجا وأبا حنونا”.

وتردف البياتي في حديث لـ”العالم الجديد”، ان “مؤيد هو من اختار فن الكاريكاتير وابدع فيه، حتى انه كان طالبا في الخامس علمي، حين قرر ترك الدراسة والالتحاق بمعهد الفنون الجميلة ليدرس الرسم، كان موهوبا منذ صغره شجعه والده المعلم والمربي الفاضل حين لمس موهبته الفنية، فقد نشر اول رسم له عام1969 اختير ليكون غلافا لمجلة المتفرج الفكاهية”.

وتسرد قائلة ان “هذا الشيء قد شكل لديه حافزا للتواصل والابداع، لا سيما حين ساهم مع خيرة الرسامين والمحررين العراقيين في تأسيس صحافة الاطفال التي تمثلت بمجلة مجلتي وجريدة المزمار.. من هذا المكان برزت موهبته الفذة وحضوره الفني واسلوبه المتميز واستطاع ان يحتل مكانته الفنية بين عمالقة الرسم كطالب مكي وفيصل لعيبي وصلاح جياد واخرون”.

وتستطرد “بعد تجربته الطويلة من العمل الفني، استطاع مؤيد ان يضع بصمته الواضحة على أعماله المتميزة بدقة الخطوط والنقد اللاذع وتصيد الفكرة من الواقع.. وقد تنوعت افكاره مابين السياسة والمجتمع، وجميعها تشترك بجرأة الطرح في زمن الخوف من الجلادين الذين كانوا يتصيدون ضحاياهم آنذاك”، لافتة الى أن “السنين الاخيرة قبل رحيله الابدي في 2005، حيث الفوضى التى عمت البلد، وزرعت بداخلي الخوف كامرأة، أما مؤيد فكانت هذه المخاوف تحفزه على ولوجها والغور في تفاصيلها واقتناص الفكرة، والدليل انه كان ينشر في جرائد الصباح والمدى وطريق الشعب”.

وتين أنه “كان متخما بالافكار التي رغب بطرحها في زمن الحرية التي انتظرها، حتى انه اختصرها بآخر عمل قبل رحيله”، منوهة الى “التهديدات التي كانت تصله من جهات قام بفضحها علنا من خلال رسومه، وهي التي تحولت الى سبب لاحباط آماله التي كان يحلم بها في زمن الحرية والديمقراطية، حتى رحل والأمل لم يأت!

Image

*جرأته وصلابته

يقول الفنان خضير الحميري أحد رسامي الكاريكاتير في العراق “يمكن للباحث أن يقسم النشاط الكاريكاتيري للفنان مؤيد نعمة الى ثلاثة مراحل مختلفة، تتمثل الأولى في الفترة المحصورة من عام 1972 ولغاية توقفه عن الرسم لأسباب خارجة عن إرادته عام 1979، وتتمثل الثانية بالفترة من عام 1983 ولغاية 2003، والمرحلة الثالثة تنحصر في الفترة من 2003 ولغاية وفاته اواخر عام 2005، حيث كان في مرحلة عمله الاولى في مجلة الاذاعة والتلفزيون وجريدة طريق الشعب يركز على الأفكار الفنية والاجتماعية بشكل رئيسي مع بعض التلميحات ذات البعد السياسي المقصود، فيما ركزت المرحلة الثانية على الفكرة الاجتماعية، وقد تمثل ذلك بشكل واضح في زاويته الكاريكاتيرية (طبق الأصل) والعلاقة بين المرأة والرجل في زاوية (نساء ورجال) واللتين واظب على نشرهما في مجلة “الف باء” طوال الثمانينات”.

ويتابع الحميري في حديث لـ”العالم الجديد”، ان “التحول الكبير في رسوم الفنان مؤيد نعمة حصل خلال فترة عمله القصيرة في جريدة المدى بعد عام 2003 حيث اتسمت رسومه بالجرأة والمباشرة في نقد الوضع السياسي ومظاهر النفاق السياسي واعتمد لغة تهكمية مريرة في تعرية ما عايشه وما كان يعايشه في تلك الفترة”.

ويشير الى أن “الموضوعات التي عالجها كان يستمدها من المعايشة اليومية، والنظرة الساخرة للواقع الفني والاجتماعي اليومي وما يمثله من انعكاس لحالة التبلد السياسي، وكان لانخراطه المبكر في الرسم وتخصصه اللاحق في فن السيراميك أثر واضح على طبيعة رسومه لتي كانت تعكس ثقافة عميقة وبناء تشكيلي محكم ورؤية فنية واضحة”.

فضلا عن أن مسيرة الفنان مؤيد تميزت بحرصه الشديد على الاتقان في أعماله الكاريكاتيرية وأعماله في مجال السيراميك ورسومه للأطفال، التي أضافت لمسة الحداثة التي طورها في بناء الفكرة الكاريكاتيرية بما يجعلها وثيقة الصلة ببناء اللوحة التشكيلية.

Image

*أسلوبه المميز

فيما يرى رسام الكاريكاتير علي المندلاوي، أن “مؤيد نعمة هو منجز متعدد، ولكل توجه في أعماله الفنية، مساره الخاص، فرسومه التوضيحية لمطبوعات الأطفال التي بدأها مبكرا في مجلة (مجلتي) للأطفال، والتي ابتدأ بها شهرته لما لها من خصوصيات تختلف عن رسومه الكاريكاتيرية السياسية والاجتماعية للصحافة، وللمعارض المحلية والعالمية التي شارك فيها”.

ويضيف المندلاوي في حديث لـ”العالم الجديد” انه “حينما درس فن السيراميك في أكاديمية الفنون، وقدم أعمالا فنية رصينة طوع تقنيات هذا الفن في وجوهه البورتريه الكاريكاتيري اللافتة التي نفذها على مرحلتين الاولى كأطروحة تخرجه من الاكاديمية والتي نالت اعجابا واسعا عند عرضها ضمن نتاجات الطلبة في المعرض السنوي للاكاديمية، أما المرحلة الثانية كمجموعة نفذها أثناء إقامته في عمان بتكليف من الفنان ضياء العزاوي، لم تعرف بعد ولم تعرض لحد الان للجمهور”.

ويردف ان “خصوصية رسومه الكاريكاتيرية السياسية والاجتماعية التي أحدثت طوال عقود من إنتاجها ونشرها صدى جماهيريا كبيرا تعود الى القيمة الفنية العالية في تلك الرسوم وحداثة أسلوب رسمها قياسا للتجارب المحلية والعالمية في هذا المجال، وكذلك معالجتها بدقة وتحليل عال للقضايا المحلية والعالمية المعاصرة بصدق وعمق تحليلي كبير، وفق الأسلوب الذي برع فيه وهو الكوميديا السوداء “.

Image

*تجاوزه المحلية

من جهته، يقول رسام الكايركاتير عودة الفهداوي ان “مؤيد نعمة افكار واسلوب لا تتكرر كثيرا فرسومه على الرغم من كثرة تفاصيلها، إلا أنها لا تشتت تفكير المتلقي لتركيزه على الموضوع المركزي للرسمة”، عازيا تميز أفكاره ونضجها الى “ثقافة الفنان الذي كان يفتح بفنه نوافذ التأمل وينجح بالبقاء في المنطقة الوسطى بين الفكرة المباشرة والأخرى المعقدة، وهذا ما جعل لرسومه قيمة فنية عالية”.

ويلفت الفهداوي في حديث لـ”العالم الجديد” الى أن “أسلوب نعمة يتميز بقوة الخطوط ودقة التعابير وجمالية التفاصيل، وهذا يتطلب جهدا كبيرا ووقتا طويلا، وان اعتماده على الابيض والاسود واستخدام التظليل بشكل احترافي أضاف الكثير من الجمالية على رسومة الكاريكاتيرية”.

ويضيف أن “مؤيد نعمة قد تجاوز المحلية بجدارة وفرض افكاره واسلوبه على الكثير من المحافل الفنية الدولية الخاصة بالكاريكاتير، على الرغم من محدودية وصعوبة التواصل في وقته، حيث كانت المشاركات محفوفة بالصعوبات المتعلقة بالتواصل مع الخارج، بالاضافة الى القيود البوليسية للنظام السابق”، منوها الى أن “نعمة كان يعبر عن هموم الناس وامتعاضهم من النظام (السابق) بتصويره على شكل تاجر جشع وشرير، بلا ضمير او قيم، وبالتالي فتأثير اسلوبه يتمثل بالالتفاف على قيود السلطة وقول ما لا يقال”.

وعلى الرغم من أهمية الكاريكاتير، إلا انه “فن مهمل من قبل الصحف التي استبدلت رسام الكاريكاتير بما تسرقه من الانترنت يوميا، وبالتالي اصبحت الصحف التي توظف رسام كاريكاتير وتدفع له اجرا على عدد الاصابع، أما الصحف المهمة فمسيطر عليها من قبل اسماء محددة، وبالتالي فان رسام الكاريكاتير لا يجد بيئة مناسبة ليمارس عمله، فاما ان يتركه او ينشر أعماله على صفحته في التواصل الاجتماعي”.

Image

*اسطورة عراقية

ويقول الصحفي والناقد التشكيلي سمير حسين الأحمر في جريدة الجمهورية ان “الفنان مؤيد نعمة هو أحد اصدقائي المقربين منذ عام 1974 وان ما يميز عمله هو طرازه الخاص، لما يمتلك من قدرة استثنائية في رصد الظواهر اليومية، سواء أكانت سياسية او اجتماعية، فضلا عن كونه يتمتع بروح فكاهية متلائمة تماما مع مقدرته الفنية، أما ما يميز رسوماته عن الاخرين فاسلوبه الفني في التعبير ذو المستوى الرفيع الذي يعتمد على رشاقة الخط الخارجي للشكل الكاريكاتيري”.

ويردف أن “مؤيد نعمة قد تجاوز المحلية مبكرا فقد شاهدت له أعمالا كاريكاتيرية في بيروت عام 1978، وحين حدثته عن المعرض فوجئ لأنه لم يرسل عملا واحدا لهذا المعرض”، مضيفا أن “كل ما انجزه كان مؤثرا على حد سواء في العديد من الموضوعات التي تناولها وعالجها من خلال رسوماته المتميزة، وهذا دليل واضح على الجرأة التي يتمتع بها هذا المبدع غير التقليدي”.

Image

*مظلوم إعلاميا

ويقول الناقد والفنان التشكيلي صلاح عباس رئيس تحرير “مجلة تشكيل”، منذ سبعينيات القرن المنصرم تعرفت على الفنان مؤيد نعمة, وكان انسانا مهذبا, وفنانا بارعا في رسم الخطوط واصطياد المواضيع الملفتة التي تلامس المجتمع العراقي في أكثر مراحله شدة وقسوة, فقد استطاع الفنان مؤيد نعمة اكتشاف ذاته الابداعية من خلال خوضه عوالم الفنون التشكيلية المتنوعة”.

ويضيف عباس في حديث لـ”العالم الجديد” ان “نعمة كان أيضا خزافا يجيد صناعة الاشكال وبخاصة تجسيد ملامح الشخصيات الفنية والثقافية التي اغنت الحقب التاريخية بالمزيد من العطاءات الابداعية, كالجواهري وجواد سليم ومحمد غني حكمت والسياب واخرين غيرهم والاهم من كل ذلك انه كان رساما من الطراز الاول وحقق رسومات واقعية واخرى للاطفال واخرى اتسمت بطابعها الكاريكتيري الانتقادي اللاذع”.

ويتابع انه “من اوائل المؤسسين لدار ثقافة الاطفال ومن اهم الاسماء المشاركة في انشطتها المختلفة، حيث كان رائد في مجال الرسم للاطفال، كما في مجال الرسم الكاريكتيري، وليس ذلك في العراق فحسب، بل وفي العالم العربي أيضا”.

ويردف أن “رسوماته تتسم بقوة الأداء الخطي واللوني، وكذلك بقوة الانشاء التصويري الذي ينشد الوصول اليه والخطوط عنده قوية جدا لدرجة أنها تمثل خطوطا متحدية، لانها تستند لقواعد الضبط الاكاديمي، لقد كان يحسن تخليق وحدة الانسجام الموضوعية بين الاشكال والخطوط والتلاوين والافكار بطريقة سحرية ومثيرة للاعجاب بحيث يستطيع انتاج الاعمال الفنية المتكاملة من كل جوانبها ومنتظمة بطريقة محسوبة الابعاد فتبدو اللوحة الواحدة آخذة لكفايتها من لغة الفن وسبل التعبير”.

ويأسف “لعدم اهتمام الاعلام بالفنان نعمة كما ينبغي، فلو كان لدى العراق ماكنة إعلامية حقيقية لكان من شأنها التعريف المطلوب به كشخصية فنية مبدعة ورائدة”، موضحا ان “لخصائص المواضيع التي كان يجسدها اهمية قصوى من حيث التوثيق لحالات مجتمعية وشؤون سياسية وقضايا معيشية او اقتصادية فانه طرق ابواب المواضيع الخطرة وجسدها بجرأة وتحد لنهج الحكومة في ازمنة الجور والبطش، واعتقد انه كان يراهن بحياته من اجل ايصال افكاره الخلاقة عبر سفر الفنون التشكيلية في العراق”.

Image

*الأستاذ الأول

فيما يروي الباحث في فن الكاريكاتير والتدريسي في كلية الاعلام ضياء مصطفى علاقته بمؤيد نعمة، قائلا “تتلمذت على يد مؤيد نعمة منذ ان كنت صبيا وانا اطالع رسومه التي كانت تبهرني في مجلة مجلتي، حيث كانت هذه المجلة من اولى المدارس التي تتلمذ عليها ابناء جيلنا، وكنت اعشق فن الكاريكاتير منذ صغري، واتابعه في الصحف والمجلات العراقية وشاءت الصدف ان التقي بالراحل مؤيد نعمة قبل سنوات قليلة من رحيله حينما افتتح مرسما له امام جريدة البرلمان التي كنت اعمل فيها”.

ويتابع “كان انسانا هادئا شفافا قليل الكلام، لكن صرخاته كانت تظهر في رسومه وشخوصه التي كان يرسم معظمها من دون كلام لتعبر عن صمته بصرخات ساخرة”.

ويعتبره “مدرسة قائمة بذاتها في فن الكاريكاتير، إذ أن له خطوطه التي يمتاز بها ويعرفها متابعوه من دون الحاجة الى قراءة اسمه، فكان يمتاز رسمه بالرمزية العالية والتورية الجميلة، وهو يعرض صوت المظلومين ويصرخ بوجه الظالمين، وعلو كعبه في فن الكاريكاتير وتجاوز المحلية في رسومه الى المحيط العربي والعالمي”، مشيرا الى أن “جيل مؤيد نعمة وزملاءه تميزوا بالخصوصية التي تعبر عن مبدعيها في فن الكاريكاتير مما خلق حالة من التنافس الابداعي بين أبناء ذلك الجيل مثل مؤيد نعمة وخضير الحميري وعبد الرحيم ياسر وعباس فاضل واخرين”.

وأشار الى أن “مؤيد نعمة تمكن من التحليق بفن الكاريكاتير الى مستوى النخبة في أفكاره وموضوعاته وخطوطه وناقش مواضيع جريئة تتجاوز الخطوط الحمراء غالبا”.

Image

إقرأ أيضا