بعد 15 عاما على الإطاحة بصدام.. هل العراقيون في خيبة أمل كبرى؟

منذ اللحظة الأولى لانهيار نظام حزب البعث في العراق بزعامة الرئيس (صدام حسين)، في 9…

منذ اللحظة الأولى لانهيار نظام حزب البعث في العراق بزعامة الرئيس (صدام حسين)، في 9 نيسان/ أبريل 2003 على يد قوات القوات الامريكية وحلفائها، تأمل الكثير من العراقيين في تلك اللحظة ببزوغ عصر جديد ديمقراطي مزدهر مغاير للظلم الذي عاشوه أكثر من عقدين في ظل دكتاتورية لا ترحم ومفترسة بوحشية لمعارضيها، اضافة الى الحرمان والجوع الذي ذاقوه نتيجة العقوبات الدولية المتمثلة بفرض الحصار الاقتصادي عليهم منذ عام 1991 نتيجة اجتياح الجيش العراقي في وقتها لدولة الكويت.

رحب الكثير من الناس بالجنود الامريكان “المحررين” لهم من قبضة صدام ونظامه، حتى عبر البعض عن عمق فرحته بهذه المناسبة عبر الركوب على المدرعات الامريكية الواقفة في ميدان الفردوس وسط العاصمة بغداد في وقت كانت تقوم بإزالة التمثال الرمزي لـ(صدام حسين) وجره بحبل متين رمادي اللون، ثم سحله وسط قيام المبتهجين بضرب رأس التمثال بأحذيتهم والبصق عليه أمام عدسات المحطات العالمية.

تمثل هذا المشهد المريب غير المعتاد من نوعه بالنسبة للعراقيين الذين لم يجرؤوا على الاساءة اللفظية لصدام حتى في غرف نومهم، نقطة تحول تشهدها الدولة ودخولها في مرحلة عاشها العراقيون حينها بمشاعر تتذبذب في ان واحد بين الفرح والخوف من القادم المجهول، خاصة بعد نشوب حالة فوضى عارمة اجتاحت جميع انحاء البلاد تمثلت بنهب المؤسسات الحكومية والاهلية على يد لصوص وضعفاء نفوس مع توقف شامل لمحطات (الطاقة الكهربائية والمياه والوقود)، فضلا عن تعطيل المدارس والجامعات لا أكثر من عام تقريباً.

Image

في ظل هذه الاجواء المرعبة التي عاشها العراقيون كانوا ينتظرون فيها امل عودة عناصر الجيش والشرطة الى الخدمة من جديد ليساهموا في استتباب الامن المنفلت، والذي لم يحرك الامريكان في حينها ساكنا لضبطه، حيث فوجئوا بقرار الحاكم العسكري الامريكي (بول برايمر) بطرد جميع العسكريين الكبار والكفاءات والنخب العلمية والفنية المهمة من وظائفهم  بتهمة الولاء لـ(صدام حسين). في حين ان مثل هذه القرارات لم تحصل في اي دولة تعرض نظامها لانقلاب بفعل قوة داخلية او بمساعدة من الخارج قد تخلت او انهت عمل مؤسستها العسكرية او الصناعية باعتباره ركنا أساسيا تقوم عليه الدولة والشعب.

لم يبال العراقيون بالمخاطر المحتملة بفعل تلك القرارات لتفاؤلهم بحلول العهد الديمقراطي الجديد الذي بشرت به خطابات رجال السياسة والدين، وكانت أحدى علاماته او خطواته تشكيل مجلس الحكم (المؤقت) لإدارة أمور البلاد، التي تضمن شخصية معروفة من بينهم الرئيس السابق (جلال طالباني) ووزير الخارجية الحالي (أبراهيم الجعفري) والراحل (عبد العزيز الحكيم) زعيم المجلس الاعلى الاسلامي العراقي انذاك والراحل (أحمد الجلبي) زعيم حزب المؤتمر الوطني ورجل الدين المعروف (بحر العلوم) وغيرهم، وكانت هذه السلطة تعمل باشراف مباشر من قبل الحاكم العسكري الامريكي (بول برايمر).

Image

وفي اول مؤتمر صحفي خاطبت النخب السياسية الجديدة الشعب بانها ستأخذ على عاتقها إعادة تشكيل الدولة وفق نظام مؤسساتي ديمقراطي عادل يساوي بين جميع مكونات الشعب يضمن لهم حرياتهم دون تمييز او اضطهاد ويعمل على الارتقاء بمستوى الملف الخدمي والصحي والتعليمي والثقافي وينتشل البلد من وحل العوز والجهل واحداث طفرة نوعية تقدمية تنافس بها الدولة المتقدمة في المحيط الإقليمي والعربي.

ومضى على هذه الوعود أكثر من 15 عاماُ رافقتها تشكيل 5 حكومات، وتولى حزب الدعوة الاسلامية/ إحدى التيارات السياسية الشيعية القريبة من إيران ادارة اربعة منتخبة منها وما يزال هذا الحزب مستمرا لغاية الان بالامساك برئاسة مجلس الوزراء من خلال القيادي فيه (حيدر العبادي)، لم يتحقق اي شيء غير انجاز دستور ركيك كتب بعجالة يضم مواد وفقرات أتاح فرصة كبيرة للوصوليين الكرد والطائفيين العرب المطالبة بتقسيم البلاد لثلاث دويلات (شيعية وسنية وكردية)، وكانت احدى أدوات تنفيذ هذا المشروع اندلاع الحرب الطائفية الدامية التي ابتدأت شرارتها فور التفجير المنظم الذي حدث في 22 فبراير 2006 حيث استهدفت جماعات سنية متشددة مرقدا مقدسا للشيعة بمدينة سامراء وتركت هذه الحرب خلفها مجازر اودت بحياة الالاف من المدنيين في وقت كانت الاحزاب السياسية الحاكمة منشغلة بتقاسم كعكة ممتلكات وقصور صدام حسين في الداخل والخارج وعقارات الدولة المهمة، ناهيك عن انشغالهم بسرقة المنح المالية الامريكية المخصصة لمشاريع إعادة أعمار العراق في حفلات ماجنة خارج العراق.

Image

ولعل اخطر تداعيات ذلك الفراغ الامني هو ولادة جماعات إسلامية (سنية وشيعية) متشددة البعض كانت تمول من قبل ايران، والاخرى من دول الخليج كالسعودية وقطر وتركيا. مثلت تلك المجموعات نواة الصراع الطائفي حينها، وتهدف الى تنفيذ أجندة ومشاريع الداعمين الدوليين لهم، منها أمور تتعلق بمصالح تجارية واستثمارية واُخرى ببعد جيوسياسبة معادية للدولة تهدف لاضعاف مؤسساتها في وقت نجد الامريكان يتفرجون على هذا المشهد الدموي الممزق لشرايين الدولة لم نجد لهم أي تحرك جدي ينقذ البلاد ويوصلها الى بر الامان، بل تحولت المناطق الشمالية والغربية وأحزمة مناطق العاصمة بغداد ذات الكثافة السكنية السنية الى بيئة خصبة متينة لتنظيم القاعدة واخواتها حتى أصبحت هذه المدن معاقل رئيسية وقواعد لهم يطلقون منها الهجمات الانتحارية بالمناطق ذات الاغلبية الشيعية والاقليات في عموم العراق.

في غضون هذه التحديات الامنية القاسية الخطيرة التي واجهها العراقيون ما زالوا يتصدون لها لوحدهم (اطفالاً وشيوخاً ونساءً وشبابا) في حين يحصن السياسيون والمسؤولون انفسهم وعوائلهم في المنطقة الدولية الخضراء، يصر ابناء الشعب على الذهاب الى صناديق الاقتراع دون المبالاة بتهديدات المتشددين والارهابيين، إيمانا منهم أن تلك الخطوة الوطنية تمثل سفينة نجاة تنقلهم الى الدولة العراقية الديمقراطية الحديثة المستقرة.

إلا أن القوى السياسية في مجلس النواب (السلطة التشريعية والرقابة) ومجلس الوزراء (السلطة التنفيذية) المنتخبة من قبلهم على مدار الـ10 قد خيبت آمالهم في تحقيق حلم (دولة سيادة القانون)، بل خانت ثقة جماهيرهم عبر قيامها بارتكاب اكبر جرائم الفساد المالي والاداري التي تسببت بضياع مليارات الدولارات من ميزانية الدولة.

Image

ولم يكتف السياسيون بجرائم سرقة أموال الدولة، بل قاموا بتأسيس شركات رديئة ومراكز تجارية وشراء عقارات واحتكروا السوق ليمارسوا بها تجارتهم، وادخلوا سلعا رديئة الى البلاد، وتفشت الرشوة والمحسوبية في الدوائر الحكومية.

كما قاموا بتشريع قوانين تساعد على تفاقم المشاكل الاجتماعية منها كقانون تعديل الاحوال الشخصية الذي يعمل على تسطيح المؤسسة المدنية وتقوية المؤسسة الدينية، وقانون العشائر وغيرها من التشريعات الرجعية التي لا تنسجم مع تطلعات الشعب العراقي.

Image

ولا داعي للخوض في تفاصيل عملية السرقات التي يرتكبها المسؤولون العراقيون لان ذلك يطول شرحه، أبرزها قصة ضياع مليارات الدولارات من ميزانية الدولة عام 2014 التي لا نعرف لغاية الان أين أنفقت أو صرفت، وقبلها صفقة الدقيق المتورط بها وزير التجارة الأسبق “فلاح السوداني” وصفقة الاسلحة الاوكرانية، إضافة الى السرقات التي ارتكبت بمشاريع خدمية، لذا فان البلاد ما بعد صدام حسين لم تتعاف ولم تصل الى النظام الديمقراطي المنشود، بل ازدادت أزماتها وأصبح فيها المئات من اولاد صدام، واستفحلت ازمات أخرى كالسكن والبطالة وغيرها نتيجة الحروب المستمرة التي خلفت وراءها ملايين الأيتام والأرامل وملايين النازحين والمشردين، وخلق حالة من الاحباط والتشاؤوم عند الشباب نتيجة إيقاف التعيينات في ميزانية عام 2018 بالاضافة الى فشل الحكومات السابقة بجذب الاستثمار من أجل خلق فرص عمل للشباب ما دفع بالكثير منهم الى ترك التعليم والتفكير بالهجرة.

لو قارنا ملف الخدمات بين الحاضر والماضي فان هناك فرقا شاسعاً، اذ ما تزال الشوارع والجسور والابنية المتهالكة حاليا في بغداد هي من نتاج حكومة صدام دون اي ترميم او اعمار لها في وقت يتم تخصيص ميزانية في كل عام تقدر بمليارات الدولارات لتنفيذ مشاريع عمرانية جديدة؟!.

Image

أما حالة التعايش والتأخي بين المكونات فقد كانت افضل بكثير في زمن صدام، حيث كان العراقيون يعيشون مع بعضهم دون كراهية وحقد، عكس الحاضر الذي وصل الى مرحلة ارتكاب مجاز بحق الاخر المختلف، ونالت الأقليات الدينية (من الايزيديين والمسيحيين والصابئة والشبك وغيرهم) الحصة الأكبر، حيث تعرضت مناطقهم الى تغيير ديموغرافي هائل، وإن كانت عودة بعض العوائل اليها في مناطق سهيل نينوى تمثل بادرة أمل جيدة.

العراق تخلص من المنعطف الأخطر في تاريخه، وهو احتلال تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) لمساحات كبيرة منه في 2014، وهذا الخلاص اعاد الامل من جديد بعراق مستقر وقوي وفاعل، ولكن الطبقة السياسية التي اخفقت في الاعوام الـ15 الاخيرة هي ذاتها تتربع على عرش القوائم المتنافسة في الموسم الانتخابي التشريعي الجديد في 12 مايو المقبل، والذي يشهد الان وعودا بالجملة من قبل اولئك السياسيين عبر شاشات التلفاز وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي بتنفيذ برامج بناء دولة المؤسسات ومكافحة الفساد، الا ان خيبة الامل الكبرى التي يعيشها العراقيون تشير الى عزوف الكثير منهم هذه المرة عن المشاركة في الانتخابات التي لم تحمل لهم الا المرارة وتدوير نفس الوجوه التي خانتهم وخذلتهم في الاعوام التي تلت 2003.

إقرأ أيضا