الذاكرة والسرد

السرد: تجربةُ وعيٍ شيّقة، ونمطٌ لذيذٌ من التفكير. 

السرد: قد يكون كل ما يبقى من حياة الإنسان. رصيده الأهم، وذكره الوحيد. يغيب الإنسان ويبقى أثره في ذاكرة الأحاديث. يتحول إلى كائن من كائنات الحكاية، ونبرة في صوت الساردين الجدد، وصورة أخرى في الأذهان الغضّة. ينطبع على صفحتها، ناصعاً جلياً. حلقة في سلسلة السرد، وتفصيلاً في دورته الكبرى.

تُمثل الذاكرة مكمن السرد ومنبعه، ومنها تتفجر الحكايات وتأتلف عناصرها، لتنتج أنسجة سردية جديدة، أو تعبّد سبلاً حكائية تغاير المطروق… ولا حكي بلا ذاكرة خصبة يعضّدها خيالٌ متحفّز.

يحتال السارد على حاضره، ويَفْرُقُ زمانه ليُحلَّ فيه زماناً آخر، ماضياً كان حاضراً يوماً ما، كان مستقبلاً أيضاً، ولم يلبث أن تحوّل إلى ماضٍ لحظة وقوعه، وانطباعه في ذاكرة الأيام. تحوّلَ إلى خزينٍ حكائي ينتظر دوره للظهور في استعادات قادمة.

الذاكرة: منجم السرد الذي لا ينفد، ومصنعه الذي لا يتوقف عن الإنتاج، وغابته المليئة بالأسرار، وبحره الزاخر بالمفاجآت الكامنة في أعماقه. هي سر من أسرار الإنسان، وواحدة من عجائبه، تحير المتأمل في حقيقتها، ويصعب الكشف عن الكيفيات التي تنظّم رصيدها، والآليات الموجّهة لعملها، والقوانين المتحكمة في استجاباتها. ولا يمكن النظر للذاكرة على أنها إحدى قدرات الدماغ، بوصفها تقنية ميكانيكية تعمل على تخزين المعلومات واسترجاعها، فهي قد تبدو أحياناً طاقةً سحريةً خارقةً، تستعيد أشرطة الأحداث والصور والأسماء، في لمحةٍ لا تكاد تذكر من الزمن، عندما يكون الذهن بحاجة إليها، كأنها تستلّها من الفراغ، من لا شيء، من غيابٍ محضٍ كانت متلاشيةً فيه.

لا تنبني الذاكرة سريعاً، فلا بدّ من عمرٍ كاملٍ لتشييدها، لكن قصص الأمهات والآباء هي الأساس الذي تنبني عليه هياكلها. القصص الأولى هي الأكثر رسوخاً في الذاكرة، وهي الأكثر حميمية في لحظات الاسترجاع والحكاية من جديد. يتقمص الحكّاء صوتاً كان يطرق مسامع طفولته، ويستمتع بلعب هذا الدور، تؤازره الخيالات، ليعيش، مرةً أخرى، في إغماضةِ عينٍ قصيرة، تلك اللحظات البعيدة، التي خبّأتها النفس، في الأماكن الأكثر عمقاً… لحظات ما قبل النوم، بحكاياها الشيقة، مخلوطةً برائحة الدفء والحنان، ليرتفع هرمون السعادة الطفولي، فتتبعه الإغفاءة الهانئة.

تتجلى أشباح الحكايات، مع تصاعد نبرة السرد، وهو يهزّ إليه جذع شجرة العمر، فيسقط ما تعلّق بها من صور ومشاهد، ناضجة أو نصف ناضجة. تتعاون أصابع خفية لدمجها وتشكيلها وترميم ما فُقد منها، وإصلاح ما تآكل من أجزائها. تعمل بخفّةٍ، كما لو كانت لكفّين ماهرتين، بقفازين أبيضين، يتحركان في فضاءٍ أسود… تفتح صناديق الذاكرة وتستخرج منها قراطيس الحكايات ومخطوطاتها، تنفضها بعناية كبيرة واهتمام بالغ، مثل سجاد ثمين مطرّز بالوقائع والأحداث، فيطير منها غبار الأيام.

تتآكل الذاكرة أحياناً، وتفقد بعض محتواها، مثل طاحونة هواءٍ عتيقة، كانت على امتداد عمرها تلهم ما يلقى فيها، وتعركه عرك الرحى، فلا يعود إلى هيأته الأولى، لكنها تتعب مع الزمن، فتأخذ بالتفريط في ما لديها، حتى تمسي غير صالحة لما كانت تقوم به. وكذلك هي الذاكرة عندما تغيب، تبهت الصور فيها وتبتعد ويقل وضوحها أكثر وأكثر، فتطيش منها الخيالات، إلى أن تعودَ بيضاءَ كأنْ لم تُمْسَسْ من قبل.

alidawwd@yahoo.com

إقرأ أيضا