القانون.. بين آليات التطبيق.. وواقع القبول

حين يسن القانون، فالقصد من ورائه تنظيم حياة المواطن، والسير به نحو النظام والمدنية  والحضارة، والابتعاد به عن التخلف والفوضوية، والارتقاء به نحو الرفاهية من خلال تنظيم حياته اليومية، سواء على المستوى الاجتماعي أو الخدمي.

لكن عندما ينظر إلى القانون على أنه آلة للضغط على المواطن، وأن المسؤول عن تنفيذ وتطبيق القانون هو الإنسان القادر على إرهاب المواطنين بواسطة تطبيق القوانين، فإن النظرة تنقلب رأساً على عقب فيتحول القانون إلى شيء مرعب يتهرب المواطن من تطبيقه، ويتجاوزه كلما سنحت له الفرصة.

مشكلة المواطن العراقي مع القانون أنه عاش خلال حقبة طويلة من حياته تحت  ضغوط قوانين تصدر ارتجالاً، ويقصد بها إيذاءه وتقييده وتحديده وتكبيله لأجل تمرير مطامع أصحاب النفوذ والسلطة.

شهدت الحقبة البائدة التي سبقت أحداث عام 2003 إصدار قوانين من هذا القبيل، فقد كانت القوانين عبارة عن وجهات نظر المسؤولين فقط، فأي عمل يراه المسؤول ملائماً لرؤية أسياده أو مطابقاً لمطامعه ورغباته يفرض على المواطن الأعزل ويطبق رغم أنفه، وما (السخرة، والجيش الشعبي، وشراء وردة الشهيد القسرية.. وغيرها) إلا أمثلة على ذلك. واعتاد الناس خلال تلك السنوات العجاف أن يروا في القانون سلطة لتقييدهم والضغط عليهم وابتزازهم، فالمواطن يعمل ما بوسعه للإفلات من قبضة القوانين وتجاوزها.

واليوم.. وبعد ذهاب تلك الأيام العصيبة حري بالمواطن أن يرى في القانون انتظام حياته اليومية، ومحاولة لتسهيل سير الأمور، والانضباط والمدنية والحضارة.

ويمكن للمواطن أن يعتاد على ذلك من خلال: 

1)وضع قوانين تسترجع حقوقه المسلوبة، وتساعده في تنظيم حياته، ودفع عجلة الاقتصاد نحو التقدم والازدهار. لذا فهو ـ مثلاًـ  تقبّل (برحابة صدر) قانون رفع أسعار المشتقات النفطية حين علم بأن ذلك القرار سوف يوقف عمليات التهريب التي قصمت ظهر الاقتصاد العراقي.. وفي مقابل ذلك كان حري بالحكومة أن تهتم بشأن المواطن كرد إيجابي على قبوله للقرارات التي تصدرها بالرغم من ضرر تلك القرارات على وضعه الاقتصادي والاجتماعي الخاص. فقرار رفع أسعار المشتقات النفطية مثلاً غيّر في حياة المواطن الكثير، إذ رفع من نسبة الأسعار في السوق إلى الحد الذي صار المواطن يشتري (البطاطة) بسعر (الموز)، في كثير من الأحيان، ناهيك عن أجرة السيارات التي أصبحت أضعاف ما كانت عليه قبل صدور هذا القرار. فما الذي تقدمه الدولة لتكافئ هذا المواطن؟ 

2)أن يتلمس المواطن واقعية هذه القوانين بسرعة فائقة من خلال تطبيقها على الجميع بالتساوي ودونما محسوبية أو تفرقة. إن قانون الغرامات الذي طبّق من قبل جهاز شرطة المرور ـ مثلاًـ كان ثقيل الوطأة على العاملين في مجال سيارات الأجرة.. فهل يضمن هذا القانون تطبيقه على السائقين كافة ؟. وهل سيطبّقه شرطي المرور على المخالفين من السائقين ذوي القرابة حين يخالفون أمام عينه؟. إن أول من يخالف القانون في الشارع هم رجال القانون.

3)أن تصدر هذه القوانين لحل أزمة ما، لا أن تصدر ترفاً وبذخاً، كما صدر من قبل قانون تفعيل إشارات المرور الكهربائية ـ مثلاًـ  والذي كان يقصد منه التفاخر والتباهي بالبصرة كونها أول محافظة ـ بعد السقوط ـ عملت بنظام الإشارات المرورية.. هذا القانون الذي ما لبث أن ألغي لأنه لا يستطيع أن يستوعب الاختناقات المرورية الموجودة في البصرة بعد أن أنفقت من أجله الملايين من الدولارات.

4)يحترم المواطن القرار أو القانون الصادر حين يكون مصحوباً بالوعود الحقيقية والصادقة، وعندما يرى صدق المسؤول من خلال العدل والمساواة في التوزيع، وفي تحسين الخدمات.

5)يبدأ المواطن بتطبيق القانون حين يشاهد الموظف الحكومي والرجل المسؤول عن تطبيق القانون قد طبقه على نفسه أولاً، ويخالف المواطن القانون ـ عندما تسنح الفرصة ـ حين يشاهد الموظف يخالف القانون مستخدماً نفوذه وصفته الوظيفية في ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومنها مخالفة سيارات الدولة للإشارات المرورية واكتمال أضابير الموظفين في الدوائر الحكومية قبل أضابير المواطنين العاديين، و..و.. الخ. إن تطبيق القانون لا بد أن يعد صفة أخلاقية، وليس فرضاً حكومياً.. والدولة لا تفرض العقوبات إلا للشاذين، والغاية منها تربية الناس وتعليمهم الاعتياد على النظام، ولذا فعلى موظف الحكومة ـ في كافة الميادين ـ  أن يحترم المواطن، وأن لا يشعره بأنه مطارد من قبل الحكومة، وأن الرجال المدججين بالسلاح لم ينتشروا في الشوارع لغرض الإمساك به مخالفاً. إن الدولة مجبرة على أن تُشعِر المواطن بكرامته وإنسانيته وحقه في ممارسة الحياة الطبيعية، وعليها أن تربيه على احترام القانون بالوسائل العلمية والتربوية التي تحفظ للمواطن كرامته وإنسانيته. 

6)يحترم المواطن القانون الصادر حين تصل إلى سمعه أخباراً سارة عن التطوير والإعمار. والمواطن يؤمن بالإشاعة أكثر مما يؤمن بالإعلام وكلام الصحف. ومع الأسف، هنالك جهات ذات سطوة ونفوذ في الشارع العراقي حملت على عاتقها مهمّة تضليل المواطن وإغراقه ببحر من الإشاعات المغرضة التي تُثبّط من عزيمته، فيتجه في ردة فعل سلبية إلى عدم احترام القوانين وتجاوزها.

إننا ـ كمواطنين عراقيين ـ نمتلك طبيعة غير محمودة، وهي أننا نريد أن يبدأ تطبيق القوانين بغيرنا أولاً وأن نكون آخر من يطبقه، لذا نسارع إلى الاعتراض وإلى رفض القوانين حين نشاهد مخالف واحد.. وإنك لتجد طابوراً من المخالفين للقانون لمجرد أن شخصاً قام بالمخالفة أمام أعينهم، وقد يعترض الكثير منهم حين يقف رجل القانون في وجوههم ويعدّونه غير عادل بوصفه غاب أثناء مخالفة الشخص الأول وحضر أثناء مخالفتهم.

إن تطبيق القوانين يعتمد على كل الأطراف سواء المسؤولين وأصحاب القرار أو الموظفين التنفيذيين الموكلة إليهم مهمة تطبيق القانون أو المواطنين.

لذلك فالمدنية التي نطمح لها يجب أن تشترك في إرساء دعائمها جميع الأطراف، والمسؤول قبل أن يكون مسؤولاً وموظفاً  حكومياً هو بالبداية وقبل كل شيء مواطن مثله مثل كل المواطنين وتجري عليه أحكام القانون، لذلك فإن تطبيق القوانين يبدأ من شخصه بصفته مسؤولاً عن تطبيق القوانين، وليس من حق أي موظف حكومي أن يتملص من تطبيق القوانين بأي صفة، ولأي سبب ومهما كانت درجته الوظيفية أو نوع انتمائه للحكومة. 

كما لا ننسى حقيقة أن تطبيق القانون ليس عملاً حكومياً بحتاً يقوم بتطبيقها مسؤولوا الدولة من أجل فرضه، بل يجب إشراك المواطن في تثبيت هذا القانون ودعوته للمساهمة في دعم القانون بشكل فعلي، لا كما نراه حالياً في التلفزيون على شكل إعلانات مدفوعة الثمن ولا تحمل في حقيقتها أي مضمون وواقع سوى أنها شعارات جوفاء من قبيل (العراق يختار الحياة، لعيون العراق فتح عيونك، يمضون ونبقى، وغيرها).

يقف المواطن مكتوف اليدين قبالة كل الأعمال التي تقوم بها الدولة من أجل تثبيت القانون لأنها لا تحاول إشراك المواطن في ذلك، وحين أشركت المواطن في تثبيت القانون في بعض المحافظات طليت هذه العملية بطلاءات سياسية فحولت نشاطات المواطنين إلى عمل سياسي واختارت رمزاً له وجعلته جهة سياسية في مقابل الجهات الأخرى وضمت تحت سطوته كل من اشترك في دعم القانون بالرغم من أن الكثير ممن ساهموا في ذلك لم يقصدوا الانتماء السياسي، وإنما قاموا بذلك من أجل فرض القانون ومن أجل حياة أكثر أمناً لا غير.

*كاتب عراقي

إقرأ أيضا