سياحة عابرة في سِيَر الكتابات الجارحة والكُتّاب المجاريح

كتاب \”جوارح ومجاريح\” للكاتب الصحفي محمد الشافعي، صادر عن مؤسسة طيبة للنشر والتوزيع بالقاهرة ، في مائة وأربعين صفحة من القطع المتوسط ، وهو الكتاب الذي ناقش فيه مؤلفه بعض الكتابات النقدية اللاذعة لكتاب مشاهير في تاريخ الأدب العربي والثقافة العربية ، في إطار التطرق إلى سير هؤلاء الكتاب الذاتية من حيث المعاناة الحياتية التي تأثروا بها وأثروا من خلالها .. الكتاب احتوى على عشر شخصيات تقريباً تناولها الكاتب من خلال فصول مساوية حملت العناوين التالية \” الكواكبي شهيد الإصلاح ، المازني العدمية المبدعة ، محمد حسين هيكل أديب خانته السياسة ، أحمد أمين الثورة والشرنقة ، زكي مبارك قلم جارح وقلب جريح ، طلعت حرب زعيم الغرابة ، إبراهيم ناجي الطائر الجريح ، أم كلثوم زعيمة الغناء العربي ، سهير القلماوي البريمو ، نبيل بدران الزاهد \” . جدير بالذكر أن الكاتب محمد الشافعي له مؤلفات أخرى منها : الفخ الأمريكي ، أنغام المدافع ، مخابرات دولة الرسول ، السحر والجان بين المسيحية والإسلام ، ثوار ومشاغبون ، ثلاثية الإبداع ، أحمد زكي الوجه الآخر . 

الإبداع والمعاناة 

في مقدمة الكتاب أشار الكاتب محمد الشافعي إلى أن الإبداع مرتبط بالمعاناة ، وأن كليهما يرتبط بالعديد من العلاقات الشائكة التي تثير كثيراً من الأسئلة التي تتوالد ذاتياً لتصبح غابة من علامات الاستفهام ، ثم يتساءل الكاتب : هل الإبداع هو الابن الشرعي للمعاناة والألم ؟ أم أن المعاناة هي وليدة الإبداع ؟ أم أنهما توأم ملتصق من المستحيل فصله ؟ مجيباً أنه ليس من السهل على محترفي النقد والتنظير أن يضعوا قاعدة حاكمة تضع حدوداً فاصلة بين الإبداع والمعاناة ، او تحدد تلك الوشائج التي تربط بينهما ، معللاً ذلك بأن الإبداع بشكل عام لابد وأن يكون بعيداً عن القولبة والتنميط وإلا تحول إلى نسخ كربونية مشوهة تفتقد النسخة الماستر التي يمكن القياس عليها .. ليس هذا فقط حيث إن الإبداع لابد وأن يكسر القاعدة إذا وجدت مثل هذه القاعدة ، فإذا ما قال البعض بضرورة وجود المعاناة لتفجر الإبداع ضارباً المثل بشاعر النيل حافظ إبراهيم مثلاً وشاعر البؤس عبد الحميد الديب ، فإننا نجد أيضاً العديد من الشعراء المرفهين من معاصري حافظ والديب مثل أحمد شوقي وعزيز أباظة ، ومثل هذا التضاد والاختلاف يؤكد ـ كما يقرر الكاتب ـ صعوبة وجود القاعدة ولكنه لا ينفي تلاحم الإبداع والمعاناة . 

شهيد الإصلاح 

وعندما يتطرق الكاتب إلى شخصيات الكتاب ، يستهل بالحديث عن تجربة ( شهيد الإصلاح ) عبد الرحمن الكواكبي ، مشيراً إلى أن استعادة هذه التجربة تثير في النفس الدهشة والعجب ؛ لنها تقدم إجابات تكاد تكون حاسمة لكثير من الأسئلة التي مازالت تصفع وجداناتنا وعقولنا حتى الآن ، وموضحاً أن الكواكبي يمثل النموذج الأمثل لما يجب أن يكون عليه موقف المثقف من السلطة ، حيث تؤكد سيرته وأفعاله على أن المثقف يجب أن يكون دوماً على يسار السلطة ـ ليس اليسار الأيدلوجي بطبيعة الحال ـ ولكنه اليسار الذي يمنح المثقف رؤية أوسع ويجعله متحرراً من كل القيود التي يفرضها السلطان ، ومثل هذا الموقف يجعل من المثقف ( ضمير الأمة ) ورقيبها على السلطة . ويقرر الكاتب أن الكواكبي يقدم النموذج الأمثل لكيفية العلاقة بين المثقف العربي و( الآخر ) الغربي فهذه العلاقة يجب أن تنطلق من الندية لا التبعية ، وتلك الندية ـ يؤكد الكاتب ـ لا تعني العداء ولكنها ترفض في نفس الوقت أن يتحول المثقف العربي إلى ( طابور خامس ) لصالح الغرب أو أن يتحول إلى ( موظف علاقات عامة ) كل مهمته الترويج للنموذج الغربي ؛ فالكواكبي لم يرفض الثقافة الغربية بل تأثر بها ولكنه لم ينضوي أبداً تحت جناحها حيث كان نداً لها ، كما أن الكواكبي من أوائل رواد التنوير الذين كتبوا الروشتة الوطنية لتجديد الخطاب الديني وإصلاح التعليم في العالم الإسلامي ، والغريب ـ يقول الكاتب ـ والمؤلم أن نهجر تلك الروشتة الوطنية ونتجه إلى الأجندة الأمريكية التي رفعت راية التغيير .. تغيير الهوية العربية الإسلامية بحجة التجديد. 

هموم الوطن والإنسان

وحين ينتقل الكاتب للحديث عن المبدع الرائد إبراهيم عبد القادر المازني نجده يقرر أن المازني اختار لنفسه أن يحتفظ بمسافة فاصلة بينه وبين العمل السياسي المباشر في الوقت الذي كان مغموساً فيه في قضايا وهموم الوطن والإنسان ، كما آل على نفسه أن يتحمل مهمة تطوير اللغة العربية لتصبح اكثر حيوية وتأثيراً ، وقد نجح تماماً في مهمته دون الانقلاب أو الخروج على قواعد اللغة العربية ، وفي هذا الإطار تساءل الكاتب : أين ذلك ممن يطالبون بإعدام سيبويه وتحطيم قواعد اللغة ؟ . ثم يؤكد الكاتب أن المازني ذلك المبدع الموسوعي ( الشاعر ، الروائي ، الكاتب المسرحي ، الناقد ، المترجم ) قد استطاع من خلال إرادة فولاذية أن يحول آلامه ومعاناته الخاصة ( اليتم ، قصر القامة ، عوج الساق ) إلى طاقة خلاقة ملآت الدنيا إبداعاً وحيوية وسخرية من تلك الآلام ، مما جعل الأنفس والأعين لا تتوقف أبداً عند قصر قامته ولكنها تتوقف طويلاً أمام عظيم قيمته . 

أديب خانته السياسة

أما الدكاترة زكي مبارك فقد وصف الكاتب عالمه وحياته وكيانه بأنه تجسيد حي لمقولة ( الإبداع الجارح والقلب الجريح ) موضحاً أنه تكالبت عليه كل الآلام والصراعات لتجعل منه ( ملاكماً ) في ساحة الأدب والإبداع ، وأنه رغم قدراته الفائقة ( شاعر فحل ، خطيب مفوه ، باحث موسوعي ، ناقد مدقق .. الخ ) إلا أن المجتمع قد دفع به إلى السقوط في هوة ( عقدة الاضطهاد ) حيث يمثل زكي مبارك ( نقطة سوداء ) في تاريخ الدكتور طه حسين الذي وقف كعقبة كأداء في سبيل أن يحصل زكي مبارك على المكانة التي يستحقها ، وهو ما يعني أن هذه الملاكمات والصراعات قد استنزفت الكثير من ملكات زكي مبارك فأنتج قليلاً جداً من مؤهلاته وقدراته واضطر ان يجعل من قلمه سيفاً يحارب به دفاعاً عن موهبته وبحثاً عن رغيف خبز لأسرته . وفي نظرة مشابهة ينتقل الكاتب للحديث عن العالم الرحب للدكتور محمد حسين هيكل ، معرباً عن إيمانه بأن هذا العالم يمثل تجسيداً لفكرة معاناة ( الهم العام ) حيث نشأ هيكل في بيئة أرستقراطية واستطاع أن يحصل على الدكتوراه من السوربون وعمره 22 عاماً فقط ولكنه انشغل بالهم العام في وقت مبكر من حياته ويظهر ذلك جلياً من خلال روايته الرائدة ( زينب ) ، حيث اتسعت فضاءات هيكل لتشمل الأدب ، التاريخ ، السياسة ، والصحافة ، وهو رغم تفوقه كمؤرخ من خلال كتابه العمدة ( حياة محمد ) ورغم تميزه كصحفي من خلال مجلة السياسة ورغم وصوله إلى قمة الهرم السياسي من خلال رئاسته لمجلس شورى النواب ، إلا أن الكاتب يقرر أن أفكاره السياسية ظلت بعيدة عن الغلابة والبسطاء ومنحازة للطبقة الأرستقراطية مما جعل منه أديباً خانته السياسة . 

قاهرة العقبات 

وفي مؤخرة كتابه يتناول الكاتب حياة الدكتورة سهير القلماوي بالوصف والتحليل والدراسة ، موضحاً انها من خلال أفكارها ومشوارها ، تؤكد تهافت حجج وآراء الذين يتاجرون بما يطلقون عليه ( تمكين المرأة ) أو ( اضطهاد المرأة ) حيث استطاعت أن تقهر كل العقبات لتصبح علماً بارزاً في مجتمعها وأمتها ، وكانت ترفض أي كلام أو دعاوى عن ( قضايا المرأة ) مؤكدة على وحدة قضايا المجتمع . ويقرر الكاتب أن فكر سهير القلماوي الواعي هذا استطاعت من خلاله أن تؤكد أن تمكين المرأة لمجرد أنها امرأة يمثل قمة الامتهان لها ، وأن المراة التي تتبوأ أعلى مكان وأرفع مكانة بجدها واجتهادها فلا بأس عليها ، بل نحتفي بها كنموذج إنساني رفيع يجب أن نحتذيه ، وأن الذين يتاجرون بما يسمى قضايا المرأة فإنهم إما يغازلون الصورة الذهنية للغرب عن المرأة الشرقية ، وإما يغازلون أهل السلطان في الداخل ، وفي الحالتين يبحثون عن مصالح شخصية . وبعد إن كتاب \” جوارح ومجاريح \” يطوف بين كوكبة مبدعة من الشخصيات ذات القيمة والقامة في عالم الفكر والأدب ، وهو رغم اعتماده على أسلوب الحكي والسرد لسير هذه النماذج والشخصيات ، إلا أنه لا يمثل فقط مجرد الحكي ، وإنما يقوم بتسليط الضوء على ( النماذج الأبهى ) والأنبل في تاريخنا بعد أن أصبحنا نعيش وسط طوفان من ( النماذج المشوهة ) ، وهو في خلال ذلك كله يوقفنا جميعاً على مكاشفات ومصارحات حول الكثير من مواجعنا السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ايضاً ، تلك المواجع التي تسعى لقتل كل ما هو جميل ، مؤكداً ومقرراص درساً مهماً واساسياً ، هو أن ( المقاومة ) هي الخيار الأول والأخير للحفاظ على هويتنا أمام هذا الهجوم العدواني التتري الشرس الذي يعمل بإصرار على محونا وتذويبنا إما بالمدفع والصاروخ أو بالغزو الثقافي ليعيد أمجاده في إبادة ( الهنود الحمر ) . 

إقرأ أيضا