محمود عباس و(الدولة اليهودية)

يوجد على مكتبي نسخة من دليل سياحي طبعه \”المجلس الإسلامي الأعلى\” في القدس عام 1924، وهو أعلى هيئة مجتمعية إسلامية في فلسطين. لقد علم آلاف المسافرين إلى الأرض المقدسة – في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي – من هذا الدليل أن هيكل سليمان، أقدس موقع في الديانة اليهودية، كان كائناً في الموقع الذي يشغله الآن \”الحرم الشريف\”، الذي يشمل \”قبة الصخرة\” و\”المسجد الأقصى\”.

 

والحقيقة أن رئيس \”المجلس الإسلامي الأعلى\” – الذي عينته بريطانيا – كان الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس ووالد القومية الفلسطينية الذي تعاون بشكل شائن لاحقاً مع النازيين، أعطى مصداقية خاصة لهذا البيان حول اعتراف المسلمين بالروابط اليهودية التاريخية بمدينة القدس.

 

وننتقل سريعاً إلى تموز/يوليو عام 2000، عندما استضاف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قمة سلام مصيرية في كامب ديفيد. وفي إحدى المقابلات الحاسمة، رفض الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات – الذي ورث فعلياً عباءة القيادة منه – ما أكده معلمه قبلها بعقود. وكما ذكر مبعوث السلام في الشرق الأوسط دينيس روس لاحقا، قال عرفات لكلينتون إن هيكل سليمان لم يكن قط في القدس. وأشار عرفات إلى أنه إذا وُجد أي معبد يهودي، فقد كان في بلدة نابلس في الضفة الغربية. وقد انهارت تلك القمة بشكل مر. وفي أسابيع، أطلق الفلسطينيون \”الانتفاضة الثانية\”، التي أسفرت عن وقوع آلاف الضحايا ووجهت ضربة رهيبة لاحتمالات السلام.

 

وحيث يستعد الرئيس باراك أوباما لاستضافة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في البيت الأبيض يوم الاثنين (اليوم)، في ظل ظروف تشتعل فيها التوترات المصحوبة بالعنف بين إسرائيل والمتطرفين الإسلاميين في غزة، فقد يكون التاريخ على استعداد لتكرار نفسه. ومرة أخرى، فإن زعيماً فلسطينياً يتبنى موقفاً أكثر رفضاً من سلفه.

 

إن مشكلة اليوم تتعلق بـ\”الدولة اليهودية\”. وهذا اختزال لمطلب إسرائيل بقبول الفلسطينيين على وجه التحديد بأن الهدف من الدبلوماسية الحالية هو الاعتراف المتبادل بدولتين مستقلتين تتمتعان بالسيادة – فلسطين، الدولة القومية للشعب الفلسطيني، وإسرائيل، الدولة القومية للشعب اليهودي. لقد أكد عباس الأسبوع الماضي أنه سيرفض تماماً هذه الصيغة: حيث قال \”يستحيل ذلك\”. وحقيقة أنه، بحسب قول أوباما، الزعيم الفلسطيني الأكثر اعتدالاً الذي تتعامل معه إسرائيل على الإطلاق، تبرز أنه تبنى وجهة النظر المتشددة تلك.

 

وفي الظاهر، يصعب فهم سبب كل هذه الضجة. وبطبيعة الحال، أُقيمت إسرائيل من قبل اليهود كملاذ لليهود. وقد ذكر قرار الأمم المتحدة الصادر في عام 1947 – الذي أعطى رخصة دولية لتقسيم فلسطين تحت الانتداب البريطاني – عبارة \”الدولة اليهودية\” عشرات المرات. وعلى مدى العقد الماضي تُظهر الدراسات التي أُجراها خبير استطلاعات الرأي الفلسطيني المحترم خليل الشقاقي أن 40 إلى 52 في المائة من الفلسطينيين سوف يقبلون الاعتراف بإسرائيل كـ\”دولة يهودية\” – ومن المهم هنا ملاحظة تحقق مستويات الدعم هذه دون تأييد عام من عباس.

 

وحتى عرفات، القومي المتشدد، فهم ذلك. فنفس عرفات الذي رفض فكرة وجود صلة تاريخية يهودية بالقدس ونسق العديد من الهجمات الإرهابية في معركته المرة ضد إسرائيل قبل بالواقع المعاصر بأن إسرائيل – سواء راق له ذلك أم لا – كانت \”الدولة اليهودية\”. وقال ذلك علانية، على الأقل في ثلاث مناسبات.

 

ففي 18 تشرين الثاني 1988، في الأيام الأولى من الانتفاضة الفلسطينية الأولى، اجتمع عرفات بـ\”المجلس القومي الفلسطيني\”، البرلمان الأولي لـ\”منظمة التحرير الفلسطينية\”، لإصدار إعلان الاستقلال. وقد أعلنت تلك الوثيقة، التي هي هجين فلسطيني من إعلانات الاستقلال الأمريكية والإسرائيلية، تأسيس دولة فلسطينية استناداً إلى قرار الأمم المتحدة \”الذي قسم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية\”.

 

ولم يكن هذا مجرد وصف ارتجالي، لكنه كان الموقف المدروس للقيادة الفلسطينية آنذاك. وفي 8 كانون الأول 1988، نقلت صحيفة \”نيويورك تايمز\” ما ذكره عرفات في مؤتمر صحفي عقده مع العديد من نشطاء السلام في أمريكا. فقد قال عرفات في تلك المناسبة \”نحن نقبل دولتين، دولة فلسطين ودولة إسرائيل اليهودية\”.

 

وبعد ستة عشر عاماً، وفي مقابلة نشرت في 17 حزيران 2004، أعاد عرفات تأكيد موقفه. جاء ذلك عندما سألته الصحيفة الليبرالية اليومية الإسرائيلية \”هآرتس\” إن كان قد فهم أن \”على إسرائيل أن تظل دولة يهودية\” أجاب زعيم \”منظمة التحرير الفلسطينية\” بقوله \”قطعا\”. ثم قال لاحقاً لمحاوره إنه كان من \”الواضح والبادي للعيان\” أنه يتعين حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بطريقة لا تغير الطبيعة اليهودية لإسرائيل من خلال تدفق ملايين الفلسطينيين العائدين.

 

وإنه لأمر معقول تماماً أن يتساءل الفلسطينيون اليوم لماذا تصر إسرائيل على اعترافهم بوضعها القانوني كـ\”دولة يهودية\”، عندما لم يجعل القادة الإسرائيليون السابقون تلبية هذا الطلب شرطاً في محادثات السلام مع مصر أو الأردن. والسبب هو لأن الصراعين مع هذين البلدين، أثناء محادثات السلام، كانا أساساً نزاعين إقليميين، تم حلهما من خلال الرسم العادل للحدود وخلق ترتيبات أمنية مرضية للطرفين في كل نزاع.

 

إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أكثر عمقاً – فهو صراع وجودي. وفي حين أن العديد من الفلسطينيين يشكون في أن إسرائيل سوف تحرمهم من الاستقلال إلى الأبد، إلا أن هناك فكرة متأصلة في أذهان الكثير من الإسرائيليين بأن لدى الفلسطينيين خطة طويلة المدى لتدمير إسرائيل. إن الاعتراف الرسمي بإسرائيل باعتبارها الوطن القومي المناسب للشعب اليهودي، والتي من شأنها أن تتواجد جنباً إلى جنب مع الوطن القومي الشرعي للشعب الفلسطيني، سوف يقطع شوطاً طويلاً في تهدئة تلك المخاوف. وحقيقة أن عباس لا يزال يرفض هذا الاعتراف من شأنها فقط أن تعمق من تلك المخاوف.

 

ربما يكون رفض عباس تكتيكياً – في محاولة لانتزاع تنازلات من إسرائيل مقابل قوله نفس الكلمات التي تلفظ بها عرفات منذ سنوات مضت. وربما يكون رفضه حقيقياً وينذر بعواقب وخيمة مثل رفض عرفات قبول وجود رابط يهودي بالقدس.

 

ومما يُحسب لصالح أوباما أنه فهم مركزية قضية \”الدولة اليهودية\”. وعلى الرغم من الضغوط التي مارسها على إسرائيل لوقف البناء في القدس، وإطلاق سراح الإرهابيين المسجونين، أو تقديم تنازلات مؤلمة في محادثات السلام، لم يتزحزح الرئيس مطلقاً عن وصفه لإسرائيل بأنها \”دولة إسرائيل اليهودية\”.

 

وسوف يواجه هذا الموقف امتحاناً في لقاء أوباما مع عباس يوم الاثنين. إذ سيكون أمام الرئيس الأمريكي الاختيار بين أمرين: يمكنه أن يبين كيف أن عرفات الأيقونة قد اعترف بإسرائيل كدولة يهودية، ويذكِّر عباس بالسنوات التي ضاعت والأرواح التي أهدرت منذ المرة الأخيرة التي تبنى فيها زعيم فلسطيني موقفاً أكثر تشدداً من سابقه – وفي ضوء تحذيراته العلنية الأخيرة لإسرائيل – يمكنه أن يهدد عباس بمستقبل وخيم من العزلة والتهميش إذا لم ينتهز هذه الفرصة لإرساء السلام. أو بدلاً من ذلك، يمكنه التخلي عن المواجهة – وترك عباس يحتفظ بوسام الاعتدال ومواقف الرفض في الوقت نفسه.

 

وبالنسبة لرئيس يواجهه الماضي باستعاراته المجازية – فلاديمير بوتين نظير أدولف هتلر، وعودة الحرب الباردة – فإن طريقة تعامل أوباما مع قضية \”الدولة اليهودية\” في لقائه مع عباس سوف تقرر ما إذا كان التاريخ في السياق الإسرائيلي الفلسطيني يتحرك إلى الأمام أو يتحرك مرة أخرى إلى الوراء.

* المدير التنفيذي لمعهد واشنطن

إقرأ أيضا