تحليل: مشكلة الشرق الأوسط التي استغلّها سليماني

تنشر “العالم الجديد” مقالا للمحلل السياسي حسن حسن وهو مدير برنامج الجهات الفاعلة غير الحكومية…

تنشر “العالم الجديد” مقالا للمحلل السياسي حسن حسن وهو مدير برنامج الجهات الفاعلة غير الحكومية في مركز السياسة العالمية في واشنطن العاصمة، حول تمكن الجنرال قاسم سليماني من استغلال الفوضى الحاصلة في الشرق الأوسط لخدمة مصالح بلاده، وما إذا ستتمكن الولايات المتحدة من استغلالها بعد اغتياله.

ترجمة المقال:

مات الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ويبدو أن التوترات الأميركية مع إيران قد هدأت. لكن المشهد الذي ساعد على بنائه ما يزال يشكل إلى حد كبير مشكلة للولايات المتحدة.

منذ اغتياله في غارة جوية أميركية بطائرة من دون طيار الأسبوع قبل الماضي، كان الخبراء يسارعون إلى شرح السبب الذي جعل سليماني مهماً إلى هذا الحد الكبير لطموحات إيران -وما هي التداعيات التي سيجلبها موته على المنطقة حقا. وإحدى الطرق البسيطة للتفكير في الأمر: كان سليماني الرجل الوحيد الذي برع في فهم المشهد الجديد والتحكم به في الشرق الأوسط.

كانت مهارة سليماني الخاصة هي التحكم في ما يُعرف باسم “الجهات الفاعلة غير الحكومية” -وهو اسم جاف يغطي، في الشرق الأوسط، المجموعة المتشظية من الميليشيات والجماعات الدينية والقوات القبلية التي تمارس السلطة فعلياً في معظم أنحاء المنطقة. وقد ازدادت أهمية هذه الجماعات بشكل كبير في السنوات العشرين الماضية بطريقة أربكت الدبلوماسيين التقليديين وفن الحكم. ولم يستغل سليماني هذه الجماعات فحسب، وإنما قام بتمكينها لما يخدم مصالح إيران. وقد يساعد غيابه الولايات المتحدة على المدى القصير، لكنه سيُظهر أيضاً مدى عمق التحدي الذي ستشكله المنطقة لها في المستقبل القريب -ولماذا ما يزال خصومنا، سواء إيران أو روسيا، يتمتعون بميزة كبيرة لا يمكن التنبؤ بها في ممارسة القوة.

بالنسبة للأشخاص الذين يفكرون عادة في العلاقات الخارجية من حيث الحكومات ورؤساء الدول -إيران مقابل الولايات المتحدة، أو فلاديمير بوتين مقابل شي جين بينغ- يمكن أن يكون من الصعب فهم مدى قلة أهمية الحكومات في بعض الأحيان في أجزاء من الشرق الأوسط. فعلى مدار العقود الأربعة الماضية، تم تحويل كل مؤسسة في المنطقة تقريبًا بطرق تضعف النظام التقليدي لسلطة الدولة.

في ثمانينيات القرن العشرين، انقسم الإسلام بكل من تنويعيه، الشيعي والسني، على أسس تقليدية وثورية. وحفزت ثورة 1979 في إيران الإسلاميين في جميع أنحاء المنطقة. وأدت الحروب الأهلية في لبنان وسورية، فضلاً عن التمرد الإسلامي ضد السوفيات في أفغانستان والحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينيات، إلى تقوية أيدي الجماعات المسلحة الخارجة عن سيطرة الحكومة. وتسارعت هذه الاتجاهات التاريخية والأيديولوجية بعد الغزوات الأميركية لأفغانستان والعراق، والتي تسببت في انهيار هياكل الحكم هناك في العامين 2001 و2003، على التوالي؛ كما تأثرت أيضاً بالانتفاضات الشعبية التي اجتاحت المنطقة في العام 2011، والتي أسقطت حكومات في المنطقة أو أضعفتها.

كان مستوى النمو في هذه القوى الجديدة التي تصعب السيطرة عليها مذهلاً: اليوم، يقدر العدد الإجمالي للمتشددين الإسلاميين السنة بنحو أربعة أضعاف ما كان عليه في 11 أيلول (سبتمبر) 2001؛ وهناك ما بين 50 و85.000 متشدد في سورية والعراق وحدهما. ولا يتضمن هذا الرقم العدد الكبير من الجماعات الشيعية والكردية وغيرها التي تسيطر على قطاعات من العراق وسورية.

نتيجة لذلك، أصبح الشرق الأوسط الحديث توازناً دائم التغير بين الأنظمة الرسمية في عواصم مثل طهران ودمشق والرياض، وبين جماعات الميليشيات والقوات المحلية التي تسيطر فعليًا على جزء كبير من الأرض. وفي بعض الأحيان، كان حزب الله -الميليشيا اللبنانية المتحالفة مع إيران- أكثر نفوذاً من الحكومة النظرية في لبنان. كما طالب “داعش” -بل إنه قام في بعض الأحيان بجمع الضرائب في سورية والعراق. ويدير الأكراد منطقة تتمتع بالحكم الذاتي إلى حد كبير في شمال العراق وسورية.

بالنسبة لدبلوماسي أو استراتيجي تقليدي، يمكن أن يبدو هذا المشهد المعقد فوضوياً ولا يمكن تخيله. أما بالنسبة لسليماني، فقد كان فرصة يمكن اغتنامها.

من خلال قيادته لوحدة الحرب غير التقليدية القوية المعروفة باسم “قوة القدس”، وعلاقاته مع شبكة من قادة الميليشيات، أصبح سليماني الشخص الأكثر نجاحاً في المنطقة في إدارة هذا المزيج المعقد من الدول والقوى غير الحكومية التي تحكم الشرق الأوسط اليوم. وعنت قوته أن إيران تحرز النجاح حيث فشل منافسوها الإقليميون والخارجيون.

قبل صعوده إلى الساحة كرئيس لقوة القدس في أواخر التسعينيات، ظهر تفوق إيران في مجال الحرب بالوكالة أولاً بسبب الضرورة. فقد دفعت الحرب بين إيران والعراق النظام الجديد في طهران إلى إنشاء ذراع للإشراف على عملياته الخارجية. وبحلول التسعينيات، كان لإيران موارد وشبكات واسعة في المنطقة، و”إثبات للمفهوم” في شكل حزب الله، الحركة الشيعية المتحالفة مع إيران التي نشأت خلال الحرب الأهلية اللبنانية. وكل ما كان سليماني بحاجة إليه هو تكرار نموذج حزب الله على المستوى الإقليمي، لكن المهارات والصبر لم يكونا كافيين لتحقيق ذلك. لقد احتاج إلى الفرصة، والتي سيحصل عليها في العام 2003.

أدت حرب العراق، من خلال الإطاحة بصدام حسين، إلى إزالة طاغية من السلطة -لكنها وفرت أيضاً، بتفكيك مؤسسات السيطرة التي كانت لديه- مجالاً للجماعات والأحزاب المسلحة حتى تتولى زمام الأمور ببطء. وكانت العديد من الجماعات التي نشأت في ذلك الفراغ برئاسة الإسلاميين الشيعة الذين تربطهم صلات بإيران كانت قد تكونت خلال الحرب العراقية-الإيرانية. وقد أعطى أتباعها لإيران نفوذاً على مستوى الأرض، واحتفظ قادتها بسلطة رسمية أو شبه رسمية في الحكومة العراقية. أصبحت وزارة الداخلية قلعة لمنظمة هادي العامري، “بدر”. وقاد أبو مهدي المهندس قوات الحشد الشعبي، وهي هيئة أنشئت بعد ظهور “داعش” بهدف تنظيم الجماعات المسلحة العراقية كافة تحت قيادة واحدة، والتي أصبحت فيما بعد جزءا من القوات المسلحة. وما مِن شك في مدى تعاون سليماني مع هؤلاء القادة: كان المهندس أحد الأشخاص الذين قُتلوا إلى جانب سليماني في مطار بغداد يوم الجمعة قبل الماضي.

صنع استيلاء “داعش” على ثلث العراق في العام 2014 فرصة أخرى لسليماني لمساعدة وكلاء إيران على تعزيز سيطرتهم في جميع أنحاء العراق، بما في ذلك المناطق الكردية والسنية. وفي سورية، قام باستغلال الصراع في العام 2011 وعلاقة إيران الوثيقة مع النظام لتعبئة جحافل من المقاتلين الأجانب داخل الحدود السورية لإنشاء ميليشيات لعبت دوراً حاسماً في الدفاع عن نظام الأسد في مواجهة تمرد هائل. وربما تكون هذه العملية قد تعطلت الآن بسبب وفاته، ويبقى أن نرى ما إذا كان خليفته سيكون قادراً على ترسيخ وجود الوكلاء الإيرانيين في سورية.

بينما بنت إيران نفوذها من خلال مجموعات غير حكومية، كافحت دول أخرى في محاولاتها مضاهاة نجاحها. ولتصور المشهد، يمكن القول إن تركيا، البلد الأقوى بكثير على الورق، كانت لديها في سورية في العام 2011 الفرصة نفسها التي كانت لإيران في العراق في العام 2003 -لملء الفراغ الذي خلفته الحرب الأهلية الفوضوية في جارتها- لكنها فشلت في تحقيق نتائج مماثلة. وتركيا جارة لسورية لديها موارد عسكرية واقتصادية هائلة، وتتمتع بدعم معظم حلفائها الإقليميين والدوليين لإضعاف النظام العلوي في دمشق. وقد دعمت تركيا المليشيات ذات الأغلبية السنية عبر سورية. لكنها فشلت، مع استثناءات بسيطة، في خلق قوة دائمة على الأرض، أو إقامة تحالفات عميقة مع جماعات غير حكومية. وفي العام 2016، تخلت تركيا عن هذا الجهد بشكل أساسي، حيث انضمت إلى موسكو في سورية -لصالح النظام بشكل غير مباشر.

كما فشلت المملكة العربية السعودية أيضاً في تحقيق نتائج مماثلة -على وجه التحديد لأنها لم يكن لديها الاستراتيجيون أو التكتيكيون الضروريون لتنمية واستغلال العلاقات بصبر للمنافسة ضد إيران. كانت لدى إيران عملية استخبارات معقدة للغاية موجهة نحو إنتاج الوكلاء وإدامتهم والمحافظة عليهم. وقد دعم السعوديون السلفيين والجهاديين في الثمانينيات، لكنهم افتقروا إلى الحِرفية التقليدية لبناء علاقات طويلة الأمد مع الجهات الفاعلة غير الحكومية.

من بين حلفاء أميركا، كان الشبه القريب الوحيد لإيران في هذا الصدد هو قطر، التي سعت إلى تعزيز العلاقات مع الجهات الفاعلة غير الحكومية من مجموعة واسعة من الميول السياسية والدينية في جميع أنحاء المنطقة، كجزء من سياستها المعلنة لاستمالة القواعد الشعبية والحركات المحلية المتوسعة. ولكن حتى في هذا المثال، يبدو أن الدوحة كانت مهتمة بالنفوذ و”القوة الناعمة” أكثر من الحرب الفعالة بالوكالة. أما الحلفاء الآخرون فكانوا خارج الصورة: كانت مصر تتطلع إلى الداخل منذ الانتفاضة المؤيدة للديمقراطية في العام 2011، ويُنظر إلى إسرائيل على نطاق واسع على أنها عدو في جوارها، مع عدم وجود حلفاء محتملين من غير الدول خارج حدودها.

وهكذا، في السوق المتنامية والمربحة للجهات الفاعلة من غير الدول، كانت إيران رائداً ذكياً صاحب مشروع ريادي بلا منافسين حقيقيين. ويحرم مصرع سليماني النظام الإيراني من شخص ماهر تمكن من اغتنام الفرص والاتجاهات التاريخية. وتشكل وفاته بالتأكيد ضربة لطموحات طهران في ترسيخ نفسها في المنطقة، على الأقل في المستقبل القريب. لكن إيران ما تزال تتمتع بتفوق وأسبقية طويلة في هذا المجال، وما تزال تمتلك الإمكانية لاستغلالها، خاصة في غياب المنافسين.

* *

مع استمرار معاناة الحكومات المركزية في المنطقة، من المتوقع أن تظل الجهات الفاعلة غير الحكومية سمة بارزة في المشهد الإقليمي في المستقبل البعيد، ويمكنها في بعض البلدان أن تمارس السيطرة على سياسات القوة لبعض الوقت -خاصة البلدان التي مرت بالتحولات السياسية، مثل ليبيا، وأفغانستان واليمن.

بالنسبة للولايات المتحدة، لن يؤدي أي قدر من الدعم العسكري والاقتصادي إلى جلب الاستقرار في المنطقة من دون الاعتراف أولاً بالدروس المستفادة من صعود سليماني. وإلى حد ما، كانت قرارات السياسة الأميركية ودهاء سليماني هي التي بنت هذا العالم سويًا: فقد خلقت واشنطن الفراغات، وكانت لدى سليماني الموارد اللازمة لملئها. وما يزال هناك مجال أمام الولايات المتحدة لتحسين الموقف وتدعيم شكل أكثر إيجابية من النفوذ. فعلى الرغم من الانتقادات، خصصت الولايات المتحدة موارد أكثر من كافية لإعادة بناء الدول في أماكن مثل أفغانستان والعراق. وكان ما تفتقر إليه هو القدرة على الملاحة وتلمس الطريق بالطريقة التي اتبعها سليماني: التحدث بلغة المتمردين مع الإمساك بسلاسل محفظة خزانة وطنية.

بالنسبة للولايات المتحدة وغيرها من الجهات التي تهتم بأمن المنطقة، ينبغي أن تكون الاتجاهات واضحة. إن الطريق إلى الأمام هو دعم الحكومات المستقرة والشرعية، وبناء المؤسسات تدريجياً في البلدان المنهارة، والتي يمكن دمجها في نهاية المطاف في تلك الحكومات بعد الاستقرار. وبدلاً من دفع الأموال للأشرار لمحاربة أشرار آخرين، ستكون تقوية الجهات الفاعلة المحلية المعتدلة لملء الفراغ المتزايد في أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط دوراً بناءً حقاً.

لعل إحدى المشكلات التي تواجه الولايات المتحدة هي أن لدى خصومها كل الحوافز للحفاظ على عدم الاستقرار حياً؛ وتستثمر القوى المتنافسة، مثل إيران وروسيا، بعمق في الميليشيات المحلية التخريبية التي تمنحها نفوذاً. وهناك مشكلة أخرى تواجهها الولايات المتحدة، وهي مشكلة أكثر ذاتية: تميل سياسات واشنطن إلى تجاهل الاتجاهات الأساسية التي يمكن أن تساعدها على تحقيق أهدافها. في تشرين الأول (أكتوبر)، على سبيل المثال، سحب ترامب البساط من تحت أقدام الجماعات الكردية التي طردت “داعش” من ثلث سورية، بإعلانه الانسحاب الأميركي المفاجئ من سورية والسماح لتركيا بالسيطرة عليها. وعلى الرغم من أنه تراجع عن قراره في وقت لاحق، فإن تلك الرسالة قللت من مصداقية أميركا كحليف يجلب الاستقرار. ولن تتطلب المساعدة في حل المشكلة الاستثمار والبصيرة فحسب، وإنما الثبات والاتساق أيضاً.

نشر هذا التحليل تحت عنوان: The Middle Eastern Problem Soleimani Figured Out وترجمته جريدة الغد الاردنية.

إقرأ أيضا