كلنا \”زلابية وزبيب\”

قبل يوم واحد فقط كانت الشوارع حبلى بأشياء كثيرة، سيارات وسابلة وغبار وضوضاء وعلب ماء فارغة، الآن أضحت مقفرة تماما مثل معدتي، إنها خالية إلا من المكرهين على الخروج من المنزل.

في (الكية) ، مطيتي اليومية كونها الأسرع والأرخص، انهمكت بتصفح جوالي الذي لم يغمض له جفن طوال الليلة الماضية، انهالت التهاني بحلول شهر الصيام كمطر نيساني من اصدقاء وأقارب وزملاء، واشد ما أفرحني تهنئتان من صديقين – مسيحي ويزيدي- انعشتا ذاكرة الطفولة الصلبة وما تحتفظ به من صور وقصص عن التعايش الحقيقي والفطري غير المصطنع، يوم كانت محلتنا الشعبية باقة ورد بتنوعها القومي والطائفي ودونما تمييز او تكتل او حساسية، أفراحنا وأحزاننا واحدة.

وفي (الكية) التي تحركت هذه المرة متثاقلة، شفاه يبسة وبطون مخمصة وعيون محمرة تتحايل على الدقائق لتهرول مسرعة نحو الغروب، الكل هنا يحلم بغطسة في يم من مرق، وأنوف متورمة تغازل كبة موصلية، وأفواه مسدلة لا تفتح إلا لضرورة قصوى تتحسر على رشفة ماء ثلجي .

ويزيد عذاب المعدة أسواق مدينة الموصل التي استقبلت اول ايام الشهر الكريم بحلة جديدة، كثيرون تخلو عن مهنهم ليتحولوا الى بائعي حلويات شهية وعصائر بألوان زاهية! لا بأس أن يتقمص هذا الدور صاحب مطعم أو مقهى، لكن العجب كل العجب أن تتمخض صيدلية عن بسطة لبيع الزلابية وشربت الزبيب! وفي الجوار محل لبيع الأحذية يتجرأ على مشروع مماثل، المفارقة أن \”القنادر\” تجلس معززة مكرمة في (جام خانه) ، بينما المأكولات الشهية تضطجع على الرصيف معرضة للحر والرطوبة والسموم، ولا يكلف البائع نفسه بان يهش عنها الذباب؛ كسلا او ربما يفكر بالتصدق على هذه الحشرات المسكينة .

عند اكثر الاماكن اكتظاظا بالمارة في مدخل شارع النجفي وسط المدينة، تدلت قطعة كارتونية يتقاذفها الهبوب، خط عليها \”حافظ على حقيبتك، احذر هنا حرامية\” . هذا الشهر يأمرنا ان نمسك عن اشياء كثيرة ما الاكل الا الجزء المنظور منها، لكن لماذا لا يصوم المجرمون عن السرقة والاحتيال والقتل! ولماذا لا يمسك المسؤولون على اختلاف \”قياساتهم\” عن المتاجرة بثرواتنا وأرواحنا ومصيرنا، لماذا لا يصومون عن الكذب. وهنا استحضر كذبات صاعقة سمعتها اول مرة عام 2009 مفادها ان الكهرباء ستوفر في 2011، اليوم تحديدا قرأت خبرا يقول ان رئاسة الوزراء تشكل لجنة للتأكد من المزاعم الجديدة بشان انتهاء معضلة الكهرباء عام 2013.

لهؤلاء ولكل من يواري سوءته بالجوع والعطش: أنتم جائعون ولستم صائمين.

قبل ان اترجل من (الكية) ، في المقعد الخلفي يجلس شابان، رأى احدهما بنتا تستظل بحقيبتها بانتظار من يقلها الى مكان ما، تمعن في وجهها الوردي الجميل وقوامها الممشوق، ثم دمدم بصوت مسموع: اللهم اجعلها في عيني بقرة.

ارتسمت على زجاج النافذة ابتسامة مشاغبة لصاحبه الذي قال: كأني بها وهي ترد عليك، اللهم اجعله في عيني بغلا. لم يعجب \”البغل\” هذا الرد القاسي الذي لا يُسكت عليه، لكن موقفه من الضعف لم يمنحه شجاعة الدفاع عن نفسه فاكتفي بـ\”اني صائم\”!.

إقرأ أيضا