تسول الاطفال في الموصل.. تحذيرات من انخراطهم بالجريمة والدعارة 

بعد أن ترتدي ثياب أخيها وتلف شعرها تحت كاب شتوي، منسوج من خيوط الصوف السميكة…

بعد أن ترتدي ثياب أخيها وتلف شعرها تحت كاب شتوي، منسوج من خيوط الصوف السميكة وتتأكد من مظهرها النهائي الشبيه بمظهر الأولاد، تخرج الى طرقات مدينة الموصل في الثالثة فجراً لتجمع قطع البلاستك من النفايات.

دُجانة، ذات الـ11 عاما، يتيمة الاب والام، لا تعي معنى اسمها وتقول (ابويه سماني)، تعبث بأظافر أناملها السمراء وتحاول اخفاء قدميها المتسخة.

تقول دجانة انها تعمل مع عمها “ألمان”، في جمع قطع البلاستك والعلب من الارصفة والنفايات حتى غروب الشمس، والمان رجل خمسيني نحيل يغوص داخل ملابسه الرثة، تمكنت منه التجاعيد وبدا وجهه غير واضح الملامح، استند على يديه المقوسة بشكل غير طبيعي وقال “ما عندي مصدر رزق غير جمع القواطي والنايلون”.

ويوضح المان في حديثه لـ”العالم الجديد” انه كان يعمل في محل لتصليح الاجهزة الكهربائية، إلا انه خسر محله بعد ان أحرقه تنظيم داعش.
ويبين “لدي زوجة وولد، وقد بقي هذا الولد الوحيد لدي بعد ان توفي جميع اخوته واخواته، وحاليا هو المسؤول الوحيد عن اولاد اخيه الثلاثة وبنات اخيه الخمسة، التي تتراوح اعمارهم بين 6 – 16 عاما، من ضمنهم دجانة”.

أزمة بطاقة الاحوال المدنية
كبيرهم احمد (16 عاما)، يعتلي ظهر عجلة بيك آب، يقودها عمه برفقة اخوته و”دجانة”، لتوفير لقمة العيش كل يوم، ويقول إن “العمل عطّله عن الدراسة، وآمل ان تكمل دجانة دراستها لتصبح طبيبة”.

قفزت اخته رقية ذات الـ7 أعوام بخفة ورفعت يدها لتقطع حديث اخيها احمد، قائلة “انا وفاطمة ما عدنا هويات (بطاقة وطنية)”، وهي مدركة انها لا تستطيع الذهاب الى المدرسة دون الهوية العراقية.

ويضيف عمها المان، “لا املك الهوية العراقية لوالدتهم حتى استخرج هوية عراقية للفتاتين، وهن يعملن على مساعدتي بجمع قطع النايلون والعلب بعد الظهر حتى الغروب”.

الى ذلك، تبين الباحثة الاجتماعية رغد ثائر في حديثها لـ”العالم الجديد” إن “مصير هؤلاء الاطفال هو الحرمان من ابسط الحقوق في المجتمع، ولابد من الجهات المعنية ان تأخذ الإجراءات اللازمة لتكون لهم قاعدة بيانات معروفة”.

فيما يكمل المان “توفيت والدتهم اثناء القصف على المدينة، وكانت قد تزوجت بعد موت والدهم، ولم استطع الحصول على اي اوراق رسمية تساعدني لاستخراج هوية عراقية لرقية وفاطمة”.

تسول مقنّع
“الله يخليك الله يحفظ أولادك.. اعطيني ربع بس!” سيل من الادعية يلقيها عبدالرحمن ذو الـ8 سنوات على المارة منذ الصباح، حيث اتخذ من تقاطع النفق في المجموعة الثقافية داخل المدينة، مكانا خاصا له لبيع العلكة من الساعة 10 صباحا حتى 7 مساء.

يقول عبد الرحمن لـ”العالم الجديد”: “أجمع المال مع اخي بهذه الطريقة ثم أعطي المال لأبي المريض”.

ويوضح المحامي صهيب البشار، أن “الفقرة الثانية من المادة 390 من قانون العقوبات لسنة 1969 والمرقم 111، تنص على ان مرتكب هذه الافعال لم يتم الثامنة عشر من عمره تطبق بشأنه احكام مسؤولية الاحداث في حال ارتكب مخالفة”.

فيما ذكر احد المواطنين، ان “هناك ظاهرة تسول جديدة تفشت في المدينة، وهي طرق النساء ابواب المنازل وطلب المال بالتوسل والبكاء”.

الى ذلك، وصف مدير الشرطة المجتمعية في نينوى المقدم عبدالله حسن محمد الجبوري، هذه الظاهرة بـ”الجريمة”، مشيرا الى “استغلال العصابات لهؤلاء المتسولات وتكليفهم بمراقبة المنازل وسرقتها وقتل اصحابها ايضا”.

اسباب التسول 
أسباب عدة أدت الى انتشار ظاهرة التسول بالمحافظة، ولعل أبرزها سيطرة تنظيم داعش والازمات التي تلت الحقبة بعد عمليات التحرير، وهنا يوضح السعدون “لم يكن هناك تسول واضح قبل عودة النازحين الى المدينة، فقد تحول التسول بعد عودتهم من حالات فردية الى ظاهرة كبيرة”.

ويكمل “عدم وجود خطة اقتصادية تقدمها الحكومة العراقية للعوائل المتضررة هي احد اسباب التسول ايضا”.

فيما تشير رغد ثائر، الى أن “عوامل اقتصادية كالفقر والبطالة هي اسباب واضحة للتسول”، مبينة أن “الحروب والنزاعات التي تسببت بفقدان الاملاك لكثير من العوائل هي ايضا احد اسباب التسول”.

من جهتها، ترى الباحثة الاجتماعية في إحدى المنظمات الدولية، اخلاص يوحنا، في حديث لـ”العالم الجديد”، ان “التفكك الاسري والجهل والفوضى التي حدثت بعد الحرب هي احدى الاسباب الرئيسة التي دفعت الاطفال والنساء الى التسول”.

الى تقاطع البراوي، حيث يتسول الكثير من الاطفال منهم احمد (12 عاما)، الذي يقول “ابقى هنا لغاية الساعة 12 مساء”.

صاحب سيارة الأجرة، الذي كان يقلنا سمع الحديث مع الطفل المتسول، وعلق ان “هؤلاء الاطفال هم عائلة تتكون من 9 افراد، يتسولون في التقاطع حتى 1 صباحا”.

ويضيف “اوصلتهم اكثر من مرة الى منزلهم في حي التنك، وكانت حواراتهم داخل السيارة عن ارباحهم التي تجاوزت الـ35 الف دينار للطفل الواحد”.
متسول اخر رفض الكشف عن اسمه، يقول “أقدم يوميا وجبة غداء لشرطي مرور كرشوة لافتعال الازدحام في التقاطعات”.

وتعقيبا على كلامه، يشير مدير الشرطة المجتمعية، الى ان “هناك متسولين تقف خلفهم عصابات وجهات متنفذة، إلا ان نسبتها قليلة داخل نينوى مقارنة بالمحافظات الاخرى”.

اثار التسول
وقد اعتبر مدير الشرطة المجتمعية التسول “مشروع جريمة”، مردفا “قد تغري العصابات هؤلاء الاطفال بمبلغ مادي لتفجير عبوة  او السرقة من المحلات وقد تغريهم بالقتل ايضا”.

من جانبه، يقول مدير المرصد العراقي لحقوق الانسان مصطفى سعدون في حديث لـ”العالم الجديد”، إن “احد الاسباب التي تدفع الاطفال للتسول في المناطق المحررة هو اليتم وقتل وخطف عدد كبير من أرباب الاسر، وبالتالي فان هؤلاء الاطفال وجدوا انفسهم مضطرين للتسول في الشوارع”.

ووصف سعدون نتائج التسول بـ”الخطيرة جدا وهي لن تظهر الان”، موضحا “انما على المستوى البعيد سيتحول هؤلاء الاطفال الى مجرمين و قطاع طرق وستجد العصابات بيئة خصبة لتعزيز قدراتها البشرية لتسبب ضرراً كبيرا للمجتمع”.

أما الباحثة يوحنا، فتؤكد ان “النساء يتوجهن الى وسائل اخرى لكسب المال وتقديم تنازلات عديدة”.

فيما تروي أم محمد، المرأة الخمسينية، احدى المواقف التي تعرضت لها، بعد ان استأجرها رجل لتنظيف منزله مقابل 10 الاف دينار (نحو 8 دولارات)، وبعد ان انتهت من عملها رمى الرجل 5 الاف دينار فقط سقطت اسفل أقدامها.

الباحثة الاجتماعية ثائر، تحدثت عن مخاوف قد تعرض النساء والاطفال للكثير من الانتهاكات كالتحرش والاستغلال الجنسي، وقد تصل الانتهاكات الى حد المتاجرة بهم وبأعضائهم.

واكدت هذه المخاوف متسولة عشرينية تتحدث بدموعها عن الضرب المبرح من قبل ابيها، بعد أن عادت الى المنزل دون ان تجمع على الاقل 50 الف دينار (نحو 40 دولارا) في اليوم الواحد، قائلة “لا استطيع جمع هذا المبلغ دون ان اسمح للشباب بلمسي مقابل مبلغ من المال”.

الحلول
حمل سعدون، الحكومة العراقية المسؤولية بالدرجة الاولى تجاه ظاهرة التسول، موضحا أن “من مسؤوليتها ايضا معالجة هذه الظاهرة والحد منها، كون موضوع التسول اقتصاديا اجتماعيا وليس من الصعب حله”.

اما المقدم عبدالله، فيتحدث عن محاولات من قبل الشرطة المجتمعية لإجبار المتسولين على الالتحاق بالمدارس، مبينا أن “جائحة كورونا حالت دون ذلك”.

ويؤكد على “استمرار المحاولات في ايجاد آلية معينة وتفعيل القوانين للحد من هذه الظاهرة”.

وبالعودة الى دجانة التي يغمرها الحماس للالتحاق بالمدرسة، والتي عجزت عن الإجابة على سؤال “كيف ستوازنين بين المدرسة والعمل فيما بعد؟”، وبعد حيرة غمرت عينيها قال اخوها احمد “انا اشتغل مكانها”.

إقرأ أيضا