العتاد المسروق

تطلعت الى تاريخ الثورة الجزائرية الحديثة التي اندلعت في الاول من تشرين الثاني \\نوفمبر 1954عندما تشكلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية بقيادة محمد بو ضياف

ووجدت انه ليس الفرنسين وحدهم هم الذين  يقتلون حضن الام الجزائرية بدم بارد، وانما يوجد من ابناء جلدتنا من يقتل حقائق النضال العربي بالسم البطيْ.

لقد واجه الزعيم الراحل عبد الكربم قاسم، قصة الثورة الجزائرية بحماس وألم صامت وهو يقلب قصة الحزن الانساني في بلاد الاوراس التي جمعت بين البطولة والماساة وبين القهر والاستعمار وبين الحرية والاستقلال، حيث احدث الاستعمار الفرنسي وعلى مدى 132عاما قبل ان تتحرر الجزائر في الخامس من تموز 1962جروحا عميقة في البنية المجتمعية  للبلاد وطمس هويتها القومية واللغوية .

اجتمع الزعيم عبد الكريم قاسم في مبنى وزارة الدفاع في بغداد بكبار القادة العسكريين والمسؤولين عن شؤون التسليح والتعبئة في الجيش العراقي، مستعرضا مرتسم التواصل مع الثورة الجزائرية، موضحا في الوقت نفسه كيف تبدأ جمهوريتنا الاولى في العراق بمد يد العون الى ثورة التحرير الجزائرية، تلك الثورة التي ابتدأت بعدد من الثوار المقاتلين لا يزيد عددهم على 1200مقاتل.

ولم تكن بحوزة ثوارها وقت ذاك سوى 400 قطعة سلاح ووفرة محدودة من الذخائر والاعتدة. وانهم امام  الجيش الفرنسي المؤلف من ألوية الكموندوز والمظليين وقوات الامن الداخلي والآلاف المؤلفة من المرتزقة المنضمين من بقية المستعمرات الفرنسية.

عُدّ الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم من اصلب القادة العرب اندفاعا واكثرهم كتمانا في اسناد نضال قضايا البلاد العربية، والتي ابتدأت في مغربها مثلما هو في مشرقها، عندما امد الثورة الجزائرية بالمال والعتاد، وبامكانات عسكرية مفتوحة وحسب القدرة على ايصالها!

ولم يعلم سرها وقتذاك، إلا من زور حقيقتها من العرب!!.

اقول وبدموع دامية إن الآلاف من الشهب اللامعة والنجوم المحترقة في سماء الجزائر جاءت من عتاد الجمهورية العراقية، ولكنها لم تمر في سجلات الحقيقة وبقيت في الارشيف المجهول، وكانت من اكبر عمليات الاخفاء والاختزال والاختلاس للدور الوطني لبلاد الرافدين في الثورة الجزائرية، وان الاْلم الحقيقي سيظل يختص به قلب العراق المتقد وحده لاغير!.

شاءت الاقدار ان التقي في مناسبة عامة خلال دراستي العالية في واحدة من عواصم امريكا الشمالية قبل اكثر من ثلاثة عقود، بشخصية دبلوماسية عربية عالية المستوى عسكرية النشأة ومن الرجال الذين عملوا في سلاح البحرية من الاقليم السوري في زمن الجمهورية العربية المتحدة في اواخر خمسينيات القرن الماضي ومطلع ستينياته، اي في زمن الوحدة بين مصرو سورية، وقد روى لي شهادته حول المساعدات العسكرية السخية التي قدمها الزعيم عبد الكريم قاسم الى الثورة الجزائرية والتي كان يجري تجميعها وفق الخطة اللوجستية لامداد الثورة الجزائرية في نقطة تجميع عند المواني السورية قبل شحنها الى الجزائر وتوزيعها بين صفوف الثوار. لقد اصيب محدثي، على الرغم من حساسية وظيفته في السلك الدبلوماسي، بصحوة ضمير وهو يفصح عن دوره في تنفيذ ما انيط به للقيام بعمل او واجب لا يرضي وجدانه  ازاء العراق وشعبه! قائلا: ان الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء ووزير الدفاع كان يشرف بنفسه على تدفق العتاد كي يصل الى ايادي الثوارالجزائرين المحصنين في سلسلة جبال الاوراس ليستحيل سماؤها الى لهب مشتعل يضيء الدروب لكي تنتصر الثورة الجزائرية فيها!

 قلت لمحدثي الدبلوماسي وما هو دورك في نقطة التجميع؟، فاجابني ان دوري هو ان امحوا ذلك الختم المقدس الموسوم بعبارة هدية الجمهورية العراقية الى الشعب الجزائري من على صناديق العتاد المرسلة من العراق، واضعا بدلا عنها عبارة مغايرة وهي: هدية الجمهورية العربية المتحدة! وبهذه البساطة اعترف بانه من قام بنفسه بتزوير التاريخ وتزوير الحقيقة الموضوعية !!.

عاش الزعيم عبد الكريم قاسم ومات ولم يعلم بان سجلات العتاد العراقي المرسل الى حافاة مياه الثورة في سواحل الشمال الافريقي جاءت خالية من اسم بلاد اسمها العراق، وان شعب بلاد الرافدين قد جرى تغييب دوره في دعم الثورة الجزائرية، وربما لا يعلم ثوار الجزائر شيء عن مصادر سلاحهم حتى اليوم!

ختاما، تحررت الجزائر في واحدة من روائع الكفاح الوطني البطولي للشعوب، ولم يبق امام الشعب العراقي إلا اعادة بناء ارشيفه التاريخي وانصاف رجالاته الابطال في قضية تحرير الجزائر وتصحيح سجلاته التاريخية، وان النيازك والشهب والنجوم المحترقة التي غطت سماء الجزائر وجبال الاوراس الشاهقة، والتي كانت من عتاد العراق لابد من ان تسجل باحرف من نور في ارشيف العراق الوطني دون ان يمحوها احد!.

 

*اكاديمي والنائب السابق لمحافظ البنك المركزي العراقي

إقرأ أيضا