في البحث عن بوصلة

(الرّجلُ العظيم مُصيبة عامّة) 

حكمة صينية قديمة

عبر تاريخ الأفكار في العالم ثمّة ولع تمارسه المجتمعات رسميا، وشفاهيا. وهو وضع مرويات أو فهارس مُدوّنة لأعلام مرّوا في حقيبة الزمن وتركوا بصمات. لتكن مفردة \”البصمات\” هنا مفتوحة وغير مقيدة بوصف. تلك البصمات مطبوعة في خيال الشعوب عن أشخاصهم المميزين أو منظورة وهي في داخل الببلوغرافيات المختلفة. يقول المؤرخون عنها: إنها تفيد في استلهام عبر ودروس. ولقد استضافت حركة الشعوب تصرّفات أولئك الأعلام وتوصيف مراحلهم الخاصة في خضم بحثها عن إجابات لأسئلة يلقيها في طريقهم الحاضر وهزّات تحولاته المختلفة. وعلى هذا التأسيس يصبح (دور الفرد في التاريخ) نسيجا مخفيا داخل وجدان الشعوب التي تريد أن تحلّ محلّ ذلك الفرد وتقاسمه أرائك قمقمه البعيد؛ طلبا في تحقيق دور متميز وترك بصمة عامة ولمس لذائذ الإحساس بثقة الذات الأولى الذي سيتسرّب إلى الذات الجمعية عندما سرقوا منها (آلة البيان) لتعبّر عن توقها العارم لتنفيذ تطلعاتها صوب التغيير.

وسيكون الاستلهام ذا شقين، الأول: هو أن يستلهم الشعب من خزانة تاريخه القومي، والثاني: هو الاستلهام من تاريخ قومي آخر. النوع الأول يجنح إلى مبدأ التخلّق، بينما طابع النوع الثاني يميل إلى استثمار التخصيب. اللحظة الأولى نابعة من، واللحظة الثانية وافدة إلى.

ولكن القصة الدامغة تقول: إن المعرفة بشكلها الإنساني تسخر من تلك التقسيمات ورغبتنا الانفعالية في تبويب الظواهر الإيجابية أو السلبية للذين حققوا بصمات ومضوا فيما نحن نستمر في صناعة مدونات وصفية وليست تفسيرية ونرميها في علبة التأويل الميالة لتلخيص الأشياء كي تخفي كسلها العقلي الذريع في التتبع للاستلهام التاريخي وإحداث نشأة جديدة تقوم على دعائم علمية رصينة ومنتجة. وعلى كل حال التعميم خطأ في وقت لا تشفي فيه الندرة غليلنا قي قياس هبوطنا في مضاحل الكتابة داخل إطار (ردّة الفعل) لا غير. وعلى طول الوقت لا نحترس من فخاخ الافتتان. ولأن المعرفة مُحصّنة من الاختراق بقيت حالة السحر بما يطرحه الاستشراق تواجه الميكانزمات الشوفينية. لقد بقيت الحالتان على ضفاف المعرفة وتركت لمثقف المُقابسات مساحات اللعب بالجذاذات والاقتباسات التي يخضعها لهواه ومضموراته الضيّقة، وهو يمارس بمرح ( نفاق النسبية الثقافية ) ويُبرر لمُمالآته عندما تلبّس بعمق روح نرسيس وبدأ يرمي ما عداه بالحجر. 

وعلى ذكر الاحتراس يمكننا استلهام ثمة أمثال للعرب بحساب قبضة يد مبنية على صيغة (أفعل التفضيل) في العربية منها: أحذرُ من غُراب، وأحذرُ من استِ النّمر. والفارقُ بينَ الحذرين أن الغراب لا يسفدُ أنثاهُ على عَين. أما النمر فلا يمكن مباغتته من الخلف كطريدة. وإذا شبّهنا شعبا ما بذينك الحيوانين فهو إن كان غرابا فياما سفدوه هو وأنثاه على عين بأن أخذوا حقوقه وأهمها حق جسده في البقاء على قيد الحياة بلهَ الباقي من الحقوق. وإن كانَ نمرا فقد ضحكَ عليه استه لأنّه نمرٌ من ورق. ومن ورق خريف رديء على وجه التحديد.

لا نظامية، وعشوائية، وافتتانية تطبع (الكثير) من التأويلات المرافقة للأحداث. إنها تأويلات بلغةٍ مُدوّرة من نُفايات تتقدم رويدا رويدا لدفن السّكان بالأمراض الانتقالية تلك التي تأتي عدواها من (نفاق النسبية الثقافية) المريع. إنها تأويلات تسقطُ مفرداتها على ما تريد قوله مباشرة. فتبدو الصورة، صورة وجه يلتصق بزجاج عابر حدّ الاختناق. لا نظامية. وعشوائية، وافتتانية هي ألوان حفلة خرجت من علبة ألوان يابسة، ومُلوّن لا يجيد سوى مهنة التّلوّن عندما طردته الكتابة من براحاتها فهي المحترسة أبدا من مغبّة تلويث ضميرها الأبيض.

ابن رشد شرحَ أرسطو. كأنّه شرحه لأوربا. وقد كان ذلك من إحدى البوابات الرئيسة لدخول التنوير إلى تلك البلدان في خضم عملية تخلصها من لحظتها القروسطية. عملية الزرع نجحت. ولكن ابن رشد عانى عربيا ما عانى. وفي أوربا مُدّت الأيدي إلى الزاد. تصفحوا آثاره وتفشّت بينهم كالسحر. هكذا يرى هاشم صالح في كتابه (مدخل إلى التنوير الأوربي) وآخرون. تقدمت أوربا إذن شيئا فشيئا على سكّتها الديمقراطية. ولسائل أن يسأل: ربما كان ذلك نوعا من شوفينيات تنقيب وإشارات نبز ضخمة إلى ضحالة ما تمر مجتمعات ابن رشد الصُّلبيّة؟ ومرحليا هناك من يتحدث عن وجوب فرض ديمقراطية في حالة استمرار انعدام تخلّقها في البلدان العربية التي تشيع فيها مكاتب (فرض الحجاب) أيضا بسبب كثافة القيح الطائفي الراهن. إذا كان ابن رشد العربي قد فتح ولاّعته لظلام أوربا لماذا لا نستطيع أن نرى من وفرة) النار) المعمولة محليا أيضا حيث الحشر مع الناس عيد؟ الغاز في بلاد العرب وفير ولا يُعيدون ملء ولاّعة ابن رشد الناضبة وحتّى يرجّونَها قبل الاستعمال. إذا كانت هذه النتيجة فعلامَ الضجّة؟ ابن رشد ابننا الذي دفنّاه معا بـ (الصوت لتكتمل عندنا الصّورة). والديمقراطية إذن من أهل البيت وما من غريب إلا الشيطان! ليس هناك من لحظة مستعارة إذن. لا استيراد ولاتصدير لا استعراب ولا تشريق ولاهم يحزنون. ولكن هل عثرنا على البوصلة؟ إذا كان الرجل العظيم أبا قد مات ففي الأم الخير والابن الأمل. وإذا أوغلنا في المصيبة العامة فماذا عن الخاصّة؟

 

* شاعر وكاتب عراقي

إقرأ أيضا