ولد الاسلام السياسي في مصر وفيها هو الآن يحتضر

الهزيمة التي مني بها نظام (مصر ـ جمال عبد الناصر) في حرب الأيام الستة عام 1967 أمام إسرائيل، كانت هزيمة لنموذج نظام سياسي لم يستطع مجاراة الواقع المصري والعربي، ولم يفلح في تقديم حلول لمشاكل هذا الواقع و تحدياته. لقد كان هذا النموذج اتخذ من الدولة القومية على أعقاب (دولة الخلافة) أساسا له، ومن الشعارات الثورية المعادية للغرب (الرأسمالي) والمتحالفة مع الشرق (الاشتراكي) ثوبا، ومن الانقلابات العسكرية أداة للوصول الى السلطة. وقد كانت من علاماته ومميزاته القرارات السياسية والاقتصادية المتخبطة التي اختصرتها مقولة عبد الناصر نفسه، حين وصف قاعدة حكمه بـ(نظام التجربة والخطأ).

استُنسِخ هذا النموذج في العديد من الدول العربية، وكان مطلبا لقطاع كبير من الجماهير في الدول العربية الاخرى وهدفاً وحلماً لتيار كان يسعى لتحقيق انتصارات على البؤس الذي تعيشه الشعوب العربية، ألا وهو التيار القومي العربي. هذا التيار كان متناغما مع آلية تفكير عربية موروثة تتصف بـ(اللابراجماتية) وتزدري الواقعية السياسية، بل وتنظر الى الواقعية على أنها خيانة لـ(الأمة) ومداهنة لـ(أعداء) يتربصون بهذه الأمة الدوائر ويكيدون لها المؤامرات على الدوام، فيما ظل في هذه المرحلة مشروع آخر يكيل بالمقابل تهم الخيانة لتيار القومية العربية ويدعي خروج التيار القومي على (ثوابت الأمة) وتطبيقه لنموذج دولة (متغرب) هو نموذج الدولة القومية مقابل (دولة الخلافة) التي حطمهما (الاستعمار الغربي). كان التيار الآخر يتخذ من الاسلام شعاراً، ويدغدغ عواطف الناس بالتذكير بـ(أمجاد تاريخية)، ويزرع في مخيلة أنصاره حلم قيام (دولة إسلامية) غير واضحة الأسس، ويبني منطقه وحججه على (قوانين سماء) مبهمة ولكنها (واعدة)، مستثمرا في ذلك الهزائم والتلكؤات التي عانى منها مشروع دولة تيار القومية العربية وسابحا في عواطف الانسان المضطهد والتواق الى الانعتاق من عبوديات كثيرة.

وقد اشترك المشروعان بأساس واحد هو آلية التفكير اللابراجماتي الموروثة. المشروعان لا يفقهان الواقع ولا يريدان الوقوف على أرضيته. كما أن من المشتركات بين هذين المشروعين أن دعاتهما هم في الغالب من طلاب السلطة وليسوا أصحاب مشروع.

زرع بذرة المشروع الاسلامي العديد من المفكرين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من أمثال جمال الدين الافغاني، محمد عبده، محمد رشيد رضا، محب الدين الخطيب، وابو الحسن الندوي، ولكن جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها في مصر حسن البنا هي التي سعت منذ بداية القرن العشرين الى تحقيق مشروع الدولة الاسلامية الموعود وتحويله الى مشروع عمل حيث حولت الاسلام الدين الى إسلام سياسي. وتماما كما أن مشروع تيار القومية العربية كان يؤمن بالقوة في النزو على السلطة والوصول إليها، فان مشروع الدولة الاسلامية كان هو الآخر يؤمن بالقوة و(برباط الخيل) واسطة للوصول اليها.

لم يعلن المشروع الاسلامي عن نفسه صراحة ولاذ بالدعوة (الايمانية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وبالعمل التثقيفي المرحلي في الوصول الى السلطة. ولكن من يقرأ ويتعرف إلى كتابات مفكريه مثل حسن البنا وسيد قطب وعبد القادر عودة فسوف يتأكد تماما من دعوتهم المبكرة لاستعمال الانقلاب والقوة وشرعنة القتل وحلية تكفير أعدائهم في الوصول الى تحقيق أهداف مشروعهم الاسلامي.

هُزِم مشروع القومية العربية بهزيمة النظام المصري أمام إسرائيل في حرب الخامس من حزيران عام 1967 وكان ذلك إيذانا بولادة ما سمي بعد ذلك بـ(الصحوة الاسلامية) و(العودة) الى الاسلام كـ(حل). وبدأ تيار المشروع الاسلامي ينمو بسرعة كبيرة ويكسب الى جانبه الذين فقدوا الثقة بمشروع القومية العربية والحالمين بحل للمعضلة السياسية والاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات العربية. وأصبحت مقولات (العودة الى القرآن) والى (تحكيم الشريعة) من المقولات التي شاعت منذ بداية سبعينيات القرن العشرين. وأجهد دعاة المشروع الاسلامي ومفكريه أنفسهم ومن خلال كتاباتهم وتنظيراتهم بإثبات أن كل الهزائم وكل أنواع الفشل (إنما مردها في ابتعاد الأمة عن دينها الاسلامي وعن تطبيق الشريعة)، وأن الحلول لكل المعضلات والاجابة عن كل الاسئلة هو في الرجوع الى الاسلام (لأنه يملك كل تلك الحلول وكل تلك الاجابات).

واستطاع دعاة المشروع الاسلامي الوصول الى السلطة أخيرا في العديد من الدول ذات الغالبية المسلمة كما في إيران وباكستان وأفغانستان وتركيا، وتحالف بعضهم في إدارة الدولة مع آخرين كما هو الحال في العراق وفي دول الربيع العربي كما في تونس وليبيا واليمن، بينما تمكن هذا التيار من حشد السلطة لصالحه في دولة ربيع عربي أخرى هي مصر. ولقد واجه اصحاب المشروع الاسلامي الواقع فلم يستطيعوا تطبيق (مشروعهم الحلم) وتنازلوا عن ثوابت كثيرة كانوا يعدونها كالقوانين الماركسية من (القواعد الحديدية) التي لا يمكن التنازل عنها. وقد وجد أصحاب المشروع الاسلامي أنفسهم مضطرين للأخذ بصياغات غربية في الحكم، كانوا يعدونها انحرافا عن الاسلام مثل قواعد الحكم الديمقراطي من تشكيل البرلمانات وإجراء الانتخابات وتشكيل الاحزاب، وليس قاعدة الخلافة الاسلامية والبيعة للحاكم واتخاذ القرآن دستورا والامتناع عن اعتماد الدساتير (الوضعية). كما أنهم واجهوا عدم القدرة على تطبيق شعاراتهم السياسية (الخالدة)، ذلك التطبيق الذي كانوا يهيئون أذهان انصارهم له، وذلك لأنهم لم يجدوا في مشروعهم أو في تراثهم ما يستطيعون من خلاله أن يجاروا الواقع ويواكبوا من خلاله الحداثة التي يسير اليها العالم بخطى حثيثة. فقد تنازل المشروع الاسلامي في تركيا بزعامة نجم الدين أربكان ومن بعده أردوغان لصالح البقاء في حلف الناتو (الكافر) وأبقى على العلاقات مع (إسرائيل المغتَصِبة لأرض الانبياء فلسطين)، تلك الدولة التي كانت مهمة إزالتها وتحرير فلسطين من الثوابت الحديدية للمشروع الاسلامي والتيار الاسلامي. وتنازلت (منظمة حماس) الفلسطينية، التي هي واحدة من فروع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، عن المطالبة بفلسطين التي تمتد من البحر الى النهر واكتفت بحدود الرابع من حزيران عام 1967 أي بالضفة الغربية وغزة فقط. ولم يتغير موقف الإخوان في عقر الدار التي نشأ تنظيمهم فيه وانتشر الى كل أنحاء العالم عن موقف حزب الرفاه (الأربكاني) أو حزب العدالة والتنمية (الأردوغاني) حينما جاؤوا الى حكم مصر من خلال الانتخابات بعد ربيع ثوري عربي. فقد أثبت الإخوان المسلمون وفي خلال عام واحد فقط أنهم بعيدون جدا عن تطبيق وعودهم وعن تحقيق شعاراتهم. فأبقى الإخوان على العلاقة مع إسرائيل ولم يلغوا اتفاقات (كامب ديفيد) كما كان يتوهم أنصار المشروع الاسلامي، وأبقوا على علاقات حميمية مع الولايات المتحدة التي هي (رأس حربة الكفر) في العالم، كما كان قاموس أصحاب المشروع الاسلامي يُعّرِف الولايات المتحدة.

لم يكن التنازل عن ثوابت المشروع الاسلامي هو السبب الوحيد الذي عجل في فشل دعوة المشروع الاسلامي، بل ان طبيعة الحكم وممارسات (الاسلاميين) وهم في سدة الحكم من عجل و ما زال يعجل في احتضار هذا المشروع في عالم ينزع الى السلم والحداثة واحترام حقوق الانسان وحرياته و استقلال قراره.

لقد كان نموذج الحكم الافغاني القائم على (شريعة إسلام طالبان) الدموي المتخلف، وانتشار فتاوى التكفير والقتل، وكذلك نشوء الحركات التكفيرية وقيامها بقتل معارضيها بدم بارد وبأساليب جريمة بشعة عاملاً آخر من عوامل فشل المشروع وفقدانه لبريقه الفكري الحالم الواعد. هذه الحركات التي تخرجت في مدرسة الإخوان المسلمين وتشبعت بأفكارها.

ولقد أثبت الإخوان المسلمون في خلال عام واحد من حكم مصر أنهم لا يستطيعون كسب جماهير مصر ولم يستطيعوا تلبية مطالبها وأهدافها، بل أبحروا ضد التيار الشعبي المصري، الذي أعلن في الثلاثين من حزيران رفضه لهم ولمشروعهم وعمل واستطاع إسقاطهم. وبذلك فقد سقط الاسلام السياسي مع الإخوان وعلى أيدي الجماهير الشعبية، هذا الاسلام السياسي الذي كان طوال أكثر من قرن من الزمن يبشر به على أنه هو (الحل السحري) و(الكنز العظيم) الذي لم يهتد إليه (الضالون) عن الطريق.

سقط الاسلام السياسي واختلفت المواقف السياسية المعتادة، بل لقد ظهرت مواقف أثارت الحيرة. فمن له مصلحة في سقوط الاسلام السياسي ومن هم أولئك الذين كان سقوطه ليس في مصلحتهم؟

لقد كانت أول من أيد سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر هي المملكة العربية السعودية ثم تلتها دول خليجية كالإمارات والكويت. واستاءت بل وعارضت سقوط هذا النظام كل من الولايات المتحدة والعديد من دول الغرب الأوروبي وتركيا ودول الربيع العربي مثل تونس وليبيا، وتحفظت إيران على حدث سقوطه. ولكن هذه المواقف يمكن تفسيرها ووضعها في مكانها الصحيح.

فالولايات المتحدة وإسرائيل والغرب بشكل عام كان يتمنى ظهور نظام سياسي في مصر شبيه بنظام تركيا (المسلم) الذي قدم إسلاما سياسيا متصالحا مع الغرب وإسرائيل ومحافظا على مصالحهم، واستياء هؤلاء جاء نتيجة فشل تكرار النموذج التركي في مصر وفتح الاحتمالات السياسية غير الواضحة على مصاريعها.

أما دول الخليج وخصوصا المملكة العربية السعودية فإن تأييدها لسقوط الاسلام السياسي يعبر عن ارتياحها لإزالة الإخوان المسلمين عن السلطة، حيث كان الإخوان وما زالوا يشكلون تحديا سياسيا لهذه الانظمة وباتوا يحاولون الاستيلاء على السلطة في دول الخليج، كما أظهرت التحقيقات عن محاولات انقلابية في كل من دولة الامارات والكويت. ومشروع الإخوان يقف على الضد من إسلام سلفي تقوده السعودية، لذلك سارعت المملكة السعودية لتكون أول من بارك سقوط نظام الإخوان، ولا يخفى ان التيار السلفي المصري ممثلا بـ(حزب النور) شارك بشكل واضح بسقوط نظام الإخوان.

أما خوف دول الربيع العربي، التي تحكمها قوى (إخوانية) تابعة الى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، من سقوط الإخوان في مصر فهو خوف (مبرر) لأنها تخشى نهاية مشابهة لها في دولها، علما أن الاخبار تتواتر عن نشوء (حركات تمرد) في كل من تونس وليبيا تشبه (حركة تمرد) المصرية التي أسقطت حكم الإخوان في مصر.

وأما تحفظ إيران على أحداث مصر فانه الآخر له مبرراته؛ إذ أن ايران يمكنها أن تتفاهم مع نظام يتخذ من الاسلام شعارا سياسيا أكثر من قدرتها على التفاهم مع نظام سياسي تقوده قوى لا تؤمن بالإسلام السياسي ولا ترفع شعاراته. فإيران مثلا تحتفظ بعلاقات قوية مع السودان الذي يرفع نظامه هذه الشعارات على الرغم من الجنايات التي يمارسها بحق شعبه.

لم يمت الاسلام السياسي تماما ولكنه اليوم يعاني من مرحلة الموت السريري. فهو يحتضر وموته أصبح مؤكدا، ذلك بعد أن سقطت شعاراته في عقر داره، في مصر التي لها التأثير الأكبر في اتجاهات بوصلة التحرك الاسلامي في العالم.

 

* باحث وأكاديمي عراقي

إقرأ أيضا