مريوان نقشبندي: قبس روحي من حلبجة

عندما  تدخل الى غرفة “مريوان نقشبندي” في الوزارة التي يعمل فيها، سرعان ما تجذبك منضدة…

عندما  تدخل الى غرفة “مريوان نقشبندي” في الوزارة التي يعمل فيها، سرعان ما تجذبك منضدة وضع عليها الكتب المقدسة للأديان المختلفة: نسخ من القرآن الكريم، والكتاب المقدس بعهديه (القديم والجديد)، كتاب الكنزا ربا للصابئة المندائيين، والكتاب الأقدس للبهائيين، الآفستا (الكتاب المقدس للزرداشتيين)، وكتبا صوفية.

 

وحين تتعرف عليه عن كثب، ستجد إن التعلم من التنوع اصبح منهجا لحياته العائلية، حيث يأخذ اطفاله ليشاركوا المسيحيين في الصلاة في الكنائس وينضموا الى مناسبات التعميد للصابئة المندائيين وفي جلسات الدعاء للبهائيين وفي مراكز ومعابد الزرادشتيين.

هذا الرجل الذي هو سليل عائلة صوفية شهيرة، كان صاحب فكرة تغيير تسمية اسم  وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية في أقليم كردستان العراق الى (وزارة الاوقاف والشؤون الدينية)، احتراما لطبيعة التعددية الدينية في الأقليم. كما كان له تثير في صياغة العديد من التعليمات والقوانين الداعمة لحرية الاديان واحترام التنوع.

 

ولجهوده المختلفة، سلّمته الهيئة الاستشارية لمؤسسة أديان (جائزة التضامن الروحي) لعام 2019 ، وكان قرار منح الجائزة قد اتخذ منذ عامين، لكن حالت الظروف دون تسليمها في حينه. وفي خطاب تسليم الجائزة أشارت رئيسة مؤسسة أديان الدكتورة “نايلا طباره”، الى أن المأسي التي عاشتها هذه الشخصية لم تدفعها سوى لمزيد من التمسك بالأيمان بالله، واحتضان جميع ابناءه قولا وفعلا، وأنه شخصية دافعت عن توقير الكرامة الانسانية بوصفها من أسمى مقاصد الدين. ودافعت عن هذه الرسالة بالقول والفعل.

 

كان للسلالة الصوفية النقشبندية الني ينحدر منها مريوان تأثير في صياغة وجدانه، وبناء شخصيته المنفتحة على تقاليد الأديان المختلفة،  وكان انتماؤه اليها هو السبب في اختياره لينضم الى وزارة الاوقاف بطلب من وزير الأوقاف آنذاك،  وبالتحديد بعد سنوات قليلة من تشكيل حكومة أقليم كردستان 1992 ، وخلال السنوات التي تلت ذلك عمل مع سبع كابينات وزارية من مختلف الأحزاب الكردية، القومية والعلمانية والاسلامية.

 

كان لإبناء وأحفاد الشيخ الأكبر للنقشبندية في عائلته قصص موحية بالانفتاح على الثقافات والأديان المختلفة،  وينقل عن جده الشيخ (حسام الدين النقشبندي) المرجع الإسلامي ذو النفوذ في منطقة هورمان وحلبجة، انه كان ذو صلات وثيقة مع بقية ممثلي الأديان.  وفي عام 1933 حين كان اليهود يواجهون صعوبات اجتماعية وربما رسمية لتوفير مستلزمات بناء معابد جديدة، قام بمنحهم اشجارا واخشابا من بستانه الخاص لتشييد أكبر معبد يهودي في مدينة حلبجة، وقد ظل المعبد قائما لحين قصف المدينة بالاسلحة الكيماوية عام 1988. 

 

جمعت حضرة “بهاء الله” مؤسس الدين البهائي علاقة متينة مع جده الأكبر الشيخ (عثمان سراج الدين النقشبندي) الذي عاش في بلدة (طويلة) في منطقة هورامان. يشرح شوقي افندي في كتابه  “القرن البديع” هيام “بهاء الله” في الفيافي والقفار، مرتديا خرقة الزهاد السالكين الخشنة، مكتفيا بكشكول وغيار واحد من الملابس. وتسمى بإسم “الدرويش محمد” وآوى فترة من الزمن الى جبل سركلو.  يقول “اعتكف على قمة هذا الجبل وحيدا فريدا في مسكن خشن صنع من الحجارة كان الفلاحون يلوذون به اذا اكفهر الجو. وفي بعض الاحيان كان يأوي الى كهف كثيراً ما اشار اليه في الواحه الى الشيخ عبد الرحمن الشهير والواحه الى مريم احدى قريباته. وفي تفطنه الى مصيره  استعاد الى الاذهان مأساة الامام الحسين في كربلاء، وحال حضرة النبي محمد في مكة، وعذاب السيد المسيح على الصليب، ومحنة موسى على يد فرعون ، وكرب  يوسف في الجب الذي القاه فيه اخوته”.

 

في ذلك الوقت كان الشيخ (عثمان سراج الدين النقشبندي) ذائع الصيت، ومؤسسا لواحد من أكبر مراكز تعليم التصوف في العالم، وعندما عاش “بهاء لله” لمدة عامين في جبال كردستان متخفيا، ذهب الى (طويلة) والتقى بـ(جد مريوان الاكبر) وبقي هناك لمدة شهرين بين المتصوفة، ولفرط حب الشيخ الصوفي  لبهاء الله اطلق على احد ابناءه اسم “بهاء الدين النقشبندي”، ويعد الأخير من أبرز رموز شيوخ النقشبندية . وما يزال قبر جد مريوان الأكبر مزار للصوفية في بلدة (طويلة) لحد اللحظة الراهنة. وذكرى هذا اللقاء تلون حياته. فمسار اللقاء بين بهاء الله وشيخ النقشبندية ظل ملهما بالنسبة لمريوان، فقد تكلم بهاء الله من جبال كردستان مبشرا بوحدة الجنس البشري والاخوة الانسانية العابرة للانقسام الاثني والديني واللغوي والسياسي. وحين عاد بهاء الله الى بغداد، أعلن دعوته إنطلاقا من حديقة النجيبية. حيث قضى ١٢ يوما قبل رحلة النفي الى اسطنبول. ومن يومها يحتفل البهائيون بهذا الإعلان من حديقة الرضوان، و اصبحت تسمية العيد “عيد الرضوان”.

 

كانت الرياضة وليس التصوف هي شغف مريوان الأصلي في سنوات صباه، فقد كان لاعبا رياضيا بارزا في المدينة منذ كان طالبا في الاعدادية، ومن أبرز الانجازات التي يتذكرها فوز فريقه بكأس المدارس الإعدادية في محافظة السليمانية، ثم أصبح مدربا لفريق شباب مدينة حلبجة لكرة القدم، ومن فرط حبه للرياضة عرف كرمز رياضي  بين السكان، بحيث ما يزال الناس في مدينته اصلية يعرفونه بلقب “مريوان زيكو”، على اسم لاعب كرة القدم البرازيلي الشهير في ثمانينيات القرن الماضي.

 

لكن الرياضة أو التصوف لم تكن لتنقذه من مواجهة مأساة الإبادة الجماعية في حلبجة. كان في ريعان شبابه عندما قصفت جلبجة بالاسلحة الكيماوية من قبل نظام صدام حسين. والمدينة التي تبعد عن الحدود الإيرانية 8 – 10 أميال ظلت خط مواجهة في الحرب العراقية الإيرانية آنذاك ولمدة 8 سنوات 1980-1988. وجراء القصف تحولت المدينة خلال ساعات الى مقبرة جماعية. رأي العديد من اصدقاءه يصارعون الموت، وحتى أفراد آسرته، بما فيهم والده. وايضا عددا من لاعبي فريقه الرياضي للشباب يصارعون الموت.

أنضم (مريوان) للهاربين من جحيم القصف الكيمياوي الى السليمانية،  وكما حاصر تنظيم داعش الأيزيديين في سنجار بعد أكثر من اكثر من 26 عاما، وكان هناك منفذان للهرب، أما بإتجاه جبل سنجار او بأتجاه سوريا، كان للهاربين الأكراد من آلة الأبادة الجماعية ممران : الاول بإتجاه أيران المجاورة حيث تصاعدت الوفيات بسبب تأثير الغازات السامة التي يحلمها مسار الريح بإتجاه الشرق أنذاك، وهناك من اختار الطريق الى الشمال حيث السليمانية، ينتظره المكان البديل الذي شيده نظام صدام تحت تسمية “حلبجة الجديدة” قريبا من السليمانية،  والذي كان اشبه بسجن او مكان احتجاز للناجين من هول الفظاعات الجماعية.

 

وإنها لمفارقة إن يكون معه في مسار الرحلة جنود عراقيون تاهوا في ظل فوضى الحرب والخراب الماثلة، سيرا على الاقدام 30 كيلوا مترا الى حين الوصول الى قضاء “سيد صادق” الذي يبعد مسافة 60 كيلوا مترا عن السليمانية، ثم كانوا يركيون السيارات بإتجاه مركز المدينة. يقول “كنا أشبه بالمحتجزين في المدينة الجديدة”،  حاول ميروان ان يتعايش مع حاضره الجريح، وانضم الى ناد رياضي في السليمانية لكي يحتوي الألم بالرياضة، و لعب ودرب مع فرق أخرى شهيرة في المدنية الجديدة، الى أن حدثت انتفاضة الشعب الكردي بعد حرب الخليج عام 1991”. أتاح هذا التحول السياسي العودة الى مدينته المنكوبة مع من عاد من سكانها الأصليين، ليجدوا مع الحجارة المتناثرة والبيوت المهدمة خيطا يجمع ذكريات تبددت بسبب قسوة نظام  سياسي شمولي حكم البلاد بالحديد والنار.  كانت المدينة التي يحدها من الشمال جبل هورامان ويحدها من الشمال الشرقي شهرزور ومن الشرق جبل شتروى ومن الشمال الغربي بحيرة دربندي خان، كنصف دائرة تجعل منها شبه جزيرة بين الماء والجبال، تحولت هذه القطعة من الجنة الى مدينة أشباح، الى مكان صامت كالقبر ينبغي تشجيعه على الكلام من خلال عودة النازحين والهاربين وزراعته برموز الحياة.  وهكذا شيد مع عائلته العائدة الى حلبجة منزلا جديدا، وزرع أشجارا، وكانت هناك مناطق من حلبجة ما تزال الى وقتنا الراهن، ميتة حرفيا، لا يمكن زراعتها بسبب استمرار تأثير القصف الكيمياوي. لكنه لم يستسلم مع بقية السكان الذين حاولوا أعادة الحياة للمدينة الميتة.

 

على الرغم من أن كلا منا لا يستطيع إعادة عقارب الساعة للوراء وتغيير مجرى الزمن، لكن يمكنه على الأقل مواجهته بالوقوف مجددا مثل شجرة تنتصب في مواجهة الريح. وهذه هي أحدى القصص عن مواجهة الريح يرويها “مريوان نقشبندي”، قصة ناج من الإبادة الجماعية في حلبجة تحول الى صانع سلام.

 

 اليست هذه رسالة عظيمة لقبس روحي ينبعث من حلبجة الى كردستان، الى العراق، والى العالم أجمع؟.

 

 

Image

 

Image

 

Image

 

Image

 

Image

 

إقرأ أيضا