مراكز الشرطة في بغداد.. طبيب يداوي الناس وهو عليلُ

لم يكن جمال محمد، الرجل الستيني النحيل، مدركا لما سيعانيه في إحدى مراكز الشرطة شمالي…

لم يكن جمال محمد، الرجل الستيني النحيل، مدركا لما سيعانيه في إحدى مراكز الشرطة شمالي العاصمة بغداد، عندما قرر ان يقيم شكوى ضد زوجته وشقيقته بتهمة “تهديده” وممارستهن لـ”الدعارة”، لكن ما ان وطأت قدمه المركز حتى اكتشف انه كان على خطأ كبير، وان ما جاء لأجله انقلب “ضده”، نتيجة لسوء المعاملة والتنمر الذي تعرض له من قبل الضابط وعناصر الشرطة، الذي باتوا ينطرون له بـ”ازدراء” ويسخرون من رجولته، بل ويحثونه على “غسل عاره”.

كأي مواطن يريد تقديم شكوى، جلس محمد أمام ضابط يحمل رتبة نقيب في مركز الشرطة، وبدأ يسرد ما يتعرض له من تهديد من قبل زوجته وشقيقته، وأبلغه بانهما يعشن في اقليم كردستان العراق، ويمارسن “الدعارة”، وأبرز له رسائل نصية تفيد بتعرضه للتهديد من قبلهن والابتزاز، لانه هددهن بتقديم شكوى ضدهن.

حاول محمد، وهو يتحدث لمراسل “العالم الجديد” على انفراد، ان يسلك الطرق القانونية في مواجهة ما يمر به من أزمة، دون اللجوء الى الطرق الاخرى، والتي غالبا ما تكون “القتل” حسب العرف الاجتماعي، لانها “قضية شرف”، وبدا محمد من خلال حديثه انه غير بعيدا عن تلك السياقات العشائرية.

مر محمد خلال مرحلة تقديمه الشكوى بالعديد من الانتهاكات، ابرزها نظرات “الاستهزاء والاستصغار”، وعدم التعامل بجدة مع شكواها التي يروم تقديمها، حتى ابلغ الضابط مراسل “العالم الجديد” في حديث جانبي “هذا مو رجال، المفروض يقتلهن اثنينهن ويخلص، مو يجي يقدم شكوى”.

وتعليقا حول هذا الامر، يقول عضو مفوضية حقوق الانسان انس العزاوي في حديث لـ”العالم الجديد”، إن “للمفوضية فرقا مختصة ترصد العدالة الجنائية، وهي في كل محافظات العراق، ومعنية بزيارة السجون ومراكز الشرطة بشكل دوري وتنسيق ورصد كل ما يتعلق بحالات الاساءة التي يتعرض لها المواطنون الذين يرومون تقديم شكاوى، بل وتشمل حتى تفقد السجناء بدءا من ملابسه وطعامه وتوفر مستلزماته الصحية وحتى زيارة عائلته له”.

ويردف أن “حالات الاساءة للمواطنين في مراكز الشرطة، يجب ان يبلغ عنها الشخص او يقدم شكوى للمفوضية، لكي يتم التعامل معها مع الجهات المشتكى عليها بشكل مباشر من قبلنا”، مبينا أن “هذه الحالات تحتاج توثيق مع الشكوى التي يقدمها المواطن لمفوضية حقوق الانسان، مثلا اسم المركز او الشخص الذي قام بتوجيه الاهانة، ونحن بدورنا نتصرف مع المركز او دائرة الاصلاح، لكن من دونها لا يمكن ان نثبت شيئا، علما أننا نسمع مثل هكذا حالات ونقوم بتقديم شكوى للمدعي العام بشرط وجود إساءة مثبتة بهذا الخصوص”.

لم يقف محمد مكتوف الأيدي، بل أصر على ان يسلك مجرى القانون لحل قضيته، وعاد مرارا الى مركز الشرطة، وفي كل مرة يأخذون إفادته ويدونون رسائل التهديد التي تصله، إذ بعضها عبارة عن تسجيلات صوتية، لكن تأخر رفع أوراقه الى القاضي المختص، واستمرار تدوين الإفادة تلو الأخرى، أفقده الشعور بضرورة سلوك هذا الطريق.

ما تعرض له الرجل الستيني، وبحسب الباحث الاجتماعي والنفسي محمد المولى، فان “موضوع الأذى النفسي، عن طريق الكلام الجارح والافعال والهمسات وجميع انواع التنمر، له تأثيرات نفسية كبيرة على اي شخص ولا يختص بموضوع معين، حيث هو بكافة افعاله مستهجنة وبحاجة إلى علاجات واقعية”.

ويؤكد المولى في حديث لـ”العالم الجديد”، أن “علاج هذه الحالات، هي عن طريق الوعي المجتمعي مع تشخيص الحالات لايجاد الحلول المناسبة لها، وفقا للبيئة الاجتماعية وخلافه ستكون جميع المرافق الاجتماعية في خطر ولن يكون هناك تصحيح لما نعانيه من أخطاء”، مشددا “يجب أن يكون هناك تصحيح عبر تقبل وتصحيح الأخطاء، لإيقاف هذا التنمر وخلافه لن يصل اي فرد من المجتمع إلى مرحلة البوح بما لديه، وسيكون هناك اضطراب نفسي مع انتشار عامل فقدان الثقة الذي نعول عليه في بناء مواطن صحيح متوازن نفسيا واجتماعيا”.  

أما قانونيا، فان الخبير القانوني علي التميمي، فيؤكد في حديث لـ”العالم الجديد”، أن “قانون أصول المحاكمات العراقية الجزائي النافذ، نظم عملية اقامة الشكوى سواء كان الطلب مقدما إلى قاضي التحقيق او إلى المحققين في مراكز الشرطة او المحقق القضائي، وفيما يخص مراكز الشرطة، فانهم اذا اساؤوا معاملة المشتكي، فبالامكان اقامة الشكوى ضد الضابط او المحقق الذي يقوم بذلك امام قاضي التحقيق، وهنا يقوم بدوره بفتح دعوى ضد هذا الضابط نتيجة للاهمال واساءة المعاملة وليس ذلك فقط، بل يقوم القاضي بمفاتحة وزارة الداخلية لاتخاذ الإجراءات القانونية ضد هذا المحقق ونقله إلى مكان اخر ومعاقبته اداريا”.

ويوضح “هناك بعض المواطنين لا يعرفون هذه الإجراءات، وايضا بعض الضباط ليس لديهم الثقافة القانونية الكافية بحيث يجهل انه في حالة القيام بمثل هكذا اعمال، هو يعرض نفسه للعقوبة والمساءلة القانونية وحتى المحاكمة وربما حتى إنهاء الخدمة”، متابعا ان “تثقيف بعض الضباط في الشرطة مهم جدا، لأن هذا الضابط هو سلطة تنفيذية وليس قضائية وَليس سلطة إصدار قرارات، بل هو منفذ للقرارات الصادرة من محكمة التحقيق، ولهذا من الافضل بالنسبة للمواطنين الذين يتعرضون للاساءة ان يقوموا بتقديم الشكوى مباشرة إلى المحكمة، حتى يطلب القاضي من مركز الشرطة إجراء التحقيق”.

انتهى الحال بمحمد الى ترك شكواه ضد زوجته وشقيقته، بعد يأسه من مركز الشرطة وتلقيه الكلام الجارح الذي كان يسمعه، فضلا عن عدم الارتياح لوجوه في المركز من قبل الضباط واغلب الاحيان ما يتم إبلاغه ان “الضابط مشغول”، ما دفعه الى التراجع عن الدعوى والعودة الى الجدل مع “نساء بيته” دون أي حلول تذكر، بحسب كلامه.

إقرأ أيضا