أزمة المياه والتغيّر المناخي في العراق تقود الى هجرة ونزاعات أهلية (تحقيق)

 عَرَض شُبان عراقيون (في كانون الأول/ ديسمبر 2020) اعمالاً فنية تُعبّر عن هُمومهم البيئية، كُتب…

 عَرَض شُبان عراقيون (في كانون الأول/ ديسمبر 2020) اعمالاً فنية تُعبّر عن هُمومهم البيئية، كُتب على إحدى اللوحات: “لم يعد لدينا ليلة مرصعة بالنجوم”، كانت تلك إشارة مجتمعية نادرة الى أزمة التغيّر المُناخي التي تهدد حياتهم، وبأن سماء العراق باتت تُمطر غباراً وملوثات، ولم تعد تهب بلاد ما بين النهرين مطراً وفيراً ينقذه من جفاف متوقع سيحطم المجتمعات المحلية والتنوع الثقافي وسلاسل الإنتاج الزراعي وسيُقسَر نحو نصف العراقيين على الهجرة في السنوات المقبلة.

تناقصت تدفقات المياه الى العراق على نحو متسارع ما بعد 2003، منذ بدء تركيا وايران باحتكار المصادر الهيدرولوجية لنفسها وحرمان بلاد الرافدين منها، فتقلصت المساحات الخضراء وتوسعت الاراضي المتصحرة فازدادت العواصف الغبارية (SDS) في عموم البلاد، وباتت تمتد الى 220 يوماً في السنة، حيث قُدّرت معدلات تركيز الغبار المتساقط بنحو 80 ملم/ م2/شهر، بينما معدل تساقط الامطار صار اقل بكثير من الغبار.

فالمنطقة الجنوبية والغربية من ايران ذات الاغلبية العربية، تعد منطقة النشاط الغُباري الأقوى، بعد ان عمدت السلطات هناك على تجفيف الانهر والروافد الداخلة الى العراق، كمسعى لاحتكار المياه وتحويلها الى اداة سياسية. وخلال السنوات العشر المقبلة، تتوقع المراصد البيئية الدولية ان تصل موجات العواصف الرملية والترابية (SDS) الى 300 عاصفة في السنة، فتضرب غالبية ارجاء العراق. ويمكن لهذا النشاط الغباري المُدمر ان يُنهي الحياة الزراعية والتجمعات السُكانية.  

التلوث يُسرّع الجفاف

وِجِدَ العراق تاريخياً بفضل نهري دجلة والفرات اللَّذين تقع عَليهما وعلى شبكة القنوات والروافد والانهر الصغيرة المتفرعة منهما غالبية مدنه، وحيث يعيش نحو ثلث سكانه في الأرياف، فيما يتكدس الثلثين في المدن. وبجفاف الشبكة المائية، فأن الوجود التاريخي لن تعد له قيمة وستتفكك وحدة البلاد بفعل الصراع البيئي ونقص الموارد وقسوة التغيرات المناخية. ويضع مؤشر الاجهاد المائي العراق عند مستويات النُدرة الخطيرة بـ(3.7) نقطة من اجمالي نقاط المؤشر البالغة خمس نقاط. بينما في 2040، فأن المستوى سيصل الى (4.6) ما يعني جفافاً تاماً وشمساً مُحرقةً وبيئةٍ سامة.

لا تعترف المؤشرات البيئية الحكومية بأن العراق يسهم بمشكلة احترار المناخ العالمي، بخلاف ما تقوله وكالة الطاقة الدولية (IEA)، بأنه مسؤول عن حوالي من انبعاثات غاز الميثان العالمية الناتجة عن استثمار النفط والغاز. والميثان، ملوث مناخي شديد الفعالية، مسؤول عن 25٪ من الاحتباس الحراري العالمي، ويحبس الحرارة بمقدار 83 مرة اكثر من اية ملوثات دفيئة أخرى.

وغالباً ما تَتَجول سحائب من الميثان في اجواء العراق بسبب الاستخراج غير النظيف للبترول. ففي يوليو/ تموز 2021، كشفت (Kayrros) وهي شركة مقرها في باريس، وتحلل بيانات الأقمار الصناعية لوكالة الفضاء الأوروبية لتعقب الانبعاثات، ان حقلاً غرب البصرة اطلق الميثان بمعدل 73 طناً في الساعة، عقب انبعاثين آخرين للميثان اواسط حزيران/ يونيو الماضي، بمنتصف المسافة بين البصرة وبغداد، بمعدل 181 و197 طناً في الساعة. وكفكرة تقريبية يعني اطلاق 180 طناً من الميثان/ الساعة، يوازي احتباساً حرارياً يُحدثه متوسط الانبعاثات السنوية لأكثر من 200 ألف سيارة في المملكة المتحدة، وفقاً لتعليق بلومبيرغ على الحادث.

وزارة البيئة تؤكد ان البلاد تقع في قلب التأثيرات العنيفة للظاهرة التي ستؤدي في العقدين المقبلين الى تدمير البيئة العراقية وجعلها غير قابلة للحياة بسبب الزيادة المفرطة بدرجات الحرارة، قلة الامطار، نقص المياه السطحية والجوفية، الجفاف، اشتداد حِدة العواصف الترابية، التصحر، تعرية التربة، فقدان التنوع البيئي، وهذا كله يعني تراجعاً بالمساحات الزراعية وتحطماً لسلاسل الامن الغذائي، وما سيرافق ذلك من انشطة بشرية ضارة بهدف التقليل من آثار الانقلاب المُناخي.

الحرارة تَهدر الثروة المائية

يستهلك العراق ما يفوق 63٪ من موارده المائية على الزراعة دون ان يسد حاجته المحلية من المحاصيل، وغالباً يعتمد على الاستيراد من الخارج. ما يعني ان ثمة هدر مائي لا تقابله وفرة انتاجية.

رئيس لجنة الزراعة والمياه في مجلس النواب العراقي، سلام الشمري، يُشدد على إن “تقنيات الزراعة في العراق بدائية، حيث لم تستخدم وزارتي الزراعة او الموارد المائية التقانات الحديثة للري من اجل ترشيد الاستهلاك، لذا لدينا هدر كبير في المياه مع ضعف في الناتج الزراعي، ففي الدول المتقدمة زراعياً يصل ناتج الدونم الواحد الى 2.5 مليون طن، بينما في العراق 350 كلغم فقط”.

يقيس العراق مساحاته الزراعية على اساس (الدونم)، وهي اداة قياس عثمانية. تساوي في العراق 2500 متر مربع، أي اكبر مما يعادله في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وهو 1000 متر مربع.

تشكل الزراعة نحو 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، وتسهم بنحو 20٪ من سوق العمل، وغالباً في الارياف. وبسبب تأثيرات المناخ وتناقص المياه واشتداد النزاعات المسلحة، انخفض الانتاج الزراعي بنحو 40٪ منذ العام 2014. والتقديرات تشير الى ان ثلثي مُزارعي العراق كان بوسعهم الوصول الى مصادر الريّ قبل ذلك العام، لكن بعد ثلاثة اعوام (موسم 2017 – 2018)، انخفض الثلثان الى 20٪ فقط وفقاً للبنك الدولي. ما تسبب ايضاً بفقدان 75٪ من الثروة الحيوانية كالاغنام والماعز والجاموس بحسب التقديرات الحكومية.

وزيادة على الهدر الزراعي، يخسر العراق سنوياً نتيجة التبخر لأرتفاع درجات الحرارة نحو 14.7٪ من مخزوناته المائية، وهو معدل مرتفع جداً قياساً الى معدلات الاستهلاك الأخرى. فبحيرة الثرثار وهي الخزان المائي الطبيعي الأعظم في العراق تهدر تبخراً أكثر من 50% من مياهها المخزّنة، اما منطقة الاهوار وهي أكبر مسطحات مائية طبيعية واراضي رطبة تراثية في الشرق الأوسط، يهدر منها التبخر نحو 75 متر مكعب بالثانية يومياً وفقاً للإدارة المحلية لقضاء سوق الشيوخ (جنوب الناصرية) التي احتسبت ضياع 4,5 مليار متر مكعب من المياه جرّاء التبخر وارتفاع الحرارة في صيف 2017 فقط. وكأن العراق مرجل حراري غاضب يغلي بما يفوق نصف درجة الغليان.

فالارتفاع المُستمر لدرجات الحرارة في العراق نتيجة المُتغيرات المُناخية العالمية وانعدام الغطاء الاخضر محلياً وغياب الحلول الحكومية، تسهم بنحو فعّال بندرة الموارد المائية. ومن الملاحظ ان ارتفاع درجة حرارة العراق خلال السنوات المقبلة سيكون بمعدل درجتين مئويتين، اي اعلى من معدل ارتفاع درجة حرارة الكرة الارضية المقدر بـ 1.5 درجة، وفقاً للتقرير المرعب الذي اصدرته (IPCC).

وغالباً ما تتجاوز الحرارة في العراق 53 درجة مئوية صيفاً، وخصوصاً في المناطق الجنوبية المُنتجة للنفط، ما يتسبب بهلاك المزروعات والجاموس وقتل التنوع الايكولوجي في مياه الاهوار، ويرفع من سُمية مياه الشُرب حين اصيب 140 ألف شخص في مدينة البصرة بالتسمم في صيف 2018. فضلاً عن اندلاع الاف الحرائق سنوياً، حيث سجل رسمياً في الاشهر العشر الماضية من 2021 نحو 26 ألف حريق.

موت منطقة التراث العالمي

يعد الجاموس، هو حيوان بري ضخم، أحد أهم الثروات النادرة التي يتميز بامتلاكها سكان الاهوار، لكنهم اليوم باتوا على وشك فقدانها الى الابد، فبسبب الملوحة وارتفاع درجات الحرارة نفقت اعداد كبيرة منه. وبحسب آخر التقديرات الحكومية ان عديد الجاموس تناقص من  1.2 مليون رأس الى اقل من 200 الف رأس.

لذا كافح العراق طويلاً من اجل ادراج الاهوار التاريخية على لائحة التراث العالمي في العام 2016، ولربما كانت وسيلة ناعمة لضمان تدفق مياه اكثر لحماية موقع اثري من الاندثار، لكن يبدو ان المنطقة الموغلة بالقدم الأن باتت على حافة الموت.

فنسبة الملوحة في انحاء مختلفة من الاهوار وصلت إلى 12 ألفاً و 600 جزء بالمليون، وهو “مستوى خطير من التلوث الفتاك نتيجة الجفاف”، الذي أدى الى “تسجيل هجرة واسعة للسكان المحليين في الأهوار الوسطى، وبات حيوان الجاموس عُرضة للانقراض”، وفقاً لحديث د. جاسم الاسدي، الاستشاري في منظمة طبيعة العراق المعنية ببيئة الأهوار. 

الزلازل تُسبب الجفاف

كما إن الزلازل والهزات الارتدادية التي باتت تضرب العراق منذ عامين ماضيين نتيجة اختلال الطبقات الارضية، جعلت مخزون الآبار والبحيرات “ينخفض إلى مستويات خطيرة”، كالانخفاض المتسارع لمنسوب بحيرة ساوة التاريخية في صحراء محافظة المثنى (جنوب غرب العراق). فالبُحيرة الآخذة بالجفاف تغذيها مكامن مياه جوفية تمتد تحت المنطقة الغربية.

ويُفسر مدير بيئة المثنى، يوسف سوادي جبار، ندرة المياه في (ساوه)، بأن “الهزات الارضية أدت الى غلق القنوات والمجاري الجوفية والعيون المائية التي تغذي البُحيرة”، فضلاً عن “التبخر الناتج عن الارتفاع الكبير في درجات الحرارة”، لذا باتت ” البُحيرة معرضة للجفاف الكلي”.

فمحافظة المثنى حيث توجد على اطرافها بُحيرة ساوة، تعاني من شح مائي مزمن، ولأن غالبية سُكان المنطقة يعتمدون على الزراعة، تسببت الندرة المائية بجعلهم تحت خط الفقر الوطني، لذا بدأت مجموعات ريفية تنزح عن المنطقة، بعد ان سَجل 22 موقعاً في المحافظة نقصاً مائياً في المناطق الاكثر نشاطاً وزراعة، حيث نزحت في العام 2019 وحده 132 عائلة عن المنطقة.

ويُعلل محافظ المثنى احمد منفي، ذلك بقوله: “يضربنا الجفاف وقلة سقوط الامطار منذ 10 أعوام، لذا اصبح مزارعونا عاطلون عن العمل (…) ولأن الدولة اخفقت بتوفير مياه كافية، ارتفعت نسبة الامية والبطالة، وباتت مؤشرات الفقر  تصل الى 52٪ هي الاعلى بين محافظات العراق”. أما مكتب وزارة التخطيط في المثنى، يشير الى ان بطالة الريف بلغت 75%، بينما في المدينة انخفضت الى 23٪. مع ارتفاع معدل حجم الاسرة الواحدة في المحافظة الى “ثمانية افراد”.

مزيداً من النزوح في بيئة متدهورة

لأول مرة، وبدءاً من العام 2020، منظمة الهجرة الدولية (IOM) التي تراقب وتتابع تَنامي مصفوفة النزوح الداخلي في العراق بسبب النزاعات المُسلحة، بدأت تُنتج مصفوفات رقمية وتقارير هجرة مُستقلة خاصة بالنزوح على اساس التغيّر المُناخي وندرة المياه وخصوصاً في مناطق وسط وجنوب العراق. فبات من المؤكد في العام 2019، نزوح 21.314 شخصاً من 9 محافظات وسطى وجنوبية بسبب شح المياه وارتفاع نسبة الملوحة وتفشي الامراض المنقولة عبر المياه في 145 منطقة. وقبل ذلك رُصد نزوح 20.000 شخص من التجمعات الزراعية في العام 2012. بيّنما أكدت منظمة (يونسكو) إن أكثر من 100 الف نسمة من سكان شمال العراق نزحوا عن قراهم بسبب النقص المائي الحاد بين عامي 2005 و2009.

سكان عدة قرى في ديالى (شمال شرق) يستعدون للنزوح عن أراضيهم التاريخية التي توارثوها عبر أجيال، بسبب شح المياه وموت المزروعات التي يعتاشون منها، ومثلهم سكان قرى أخرى في محافظة واسط (جنوب غرب وتبعد 100 كلم عن ديالى) حيث سيتركون الزراعة وتربية الجاموس، والحال نفسه بقرى في محافظتي ذي قار وميسان.

تشكل المحافظات الأربع شريطاً زراعياً طويلاً بمحاذاة نهر دجلة، ومحصورة شرقاً بالأراضي الإيرانية التي تتدفق منها الأنهر والروافد المغذية للنهر والاهوار.

وتعد محافظة ميسان (جنوب شرق) حتى الآن، اكثر المناطق تضرراً بالجفاف وسجلت نزوحاً جماعياً لقرى عنها وفقاً لمصفوفة (DTM)، حيث سُجل فيها 58 منطقة تضرر ونزوح. ويشكو السكان وهم خليط من فلاحين مستقرين بأراض زراعية، وصيادو اسماك ومربو جاموس يعيشون في الاهوار، من تدني مستويات المياه الواصلة إليهم فضلاً عن رداءتها. ويتساءل سالم وهو شاب يمتهن صيد الاسماك في اهوار ميسان: “الدول التي تملك المياه تريد نفط العراق، ونحن بلاد نفطية وكمواطنين لم نستفد منه شيئاً وحياتنا متوقفة على المياه، فلماذا لا تعطي لهم الحكومة النفط مقابل المياه؟”، ويضيف “بدون ماء لا يوجد لدينا حياة”.

ويُخشى ان تتسبب نُدّرة المياه باختفاء أقدم مجموعة دينية من سكان العراق الأصليين، فالصابئة المندائيون وهم أصغر واندر اقلية في البلاد وتستقر في البصرة وميسان، باتوا مهددين بالانقراض بسبب التغيّر المُناخي، فالجماعة التي تعود جذورها الى (يوحنا المعمدان)، تعتمد على وفرة المياه اعتماداً مقدساً في ديانتها التي تشترط ان تكون هناك مياه عذبة متدفقة، وبنضوب الأنهار الجارية فأن القلة الصامدة من الاقلية النادرة ستضطر الى الهجرة الى خارج البلاد. ويؤكد د. قيس السعدي، وهو باحث وشخصية مندائية رفيعة، ورئيس الرابطة المندائية في المانيا، ان “عدد من تبقى في العراق لا يتجاوز 6 آلاف فرداً من الطائفة، اي 10٪ من عدد الصابئة العراقيين في عموم العالم”.

ويتشاطر كريم حطاب، رئيس اتحاد فلاحي ميسان، الرأي مع سالم فتى الاهوار، بقوله: “حتى الاسماك في الاهوار انتحرت (…) والثروة الحيوانية انتهت، ولا توجد مياه كافية، لذا لِمَ يبق الفلاحين والصيادين في ارض ميتة؟، اغلبهم نزحوا الى المدينة، وفي المدينة لا يوجد عمل. فالبطالة هناك في تزايد يوماً بعد آخر”.

لذا يقترح كلاً من مركز رصد النزوح الداخلي (IDMC) والمجلس النرويجي للاجئين (NRC) في تقرير طارئ تسمية اولئك المكافحين ممن يصرون على البقاء في اراضيهم التي تتعرض لندرة مياه وآثار تغيّر مناخي في ثلاث محافظات جنوبية (البصرة، ميسان، ذي قار) بـ(Stayees) والتي يمكن ان تعني (الصامدين) أكثر مما تعني (مقيمين)، وهذا مؤشر على ان المشكلة باتت تتفاقم وتهدد وحدة الأسر، فهناك عائلات بكاملها قد تفككت وانقسمت بين نازحين و(Stayees) ما قد يترتب عليه من مخاطر اجتماعية مستقبلية.

التغيّر المناخي يُعزز النفي الديموغرافي

ويمكن ان تكون محافظة ديالى الواقعة على الحدود الايرانية (شمال شرق)، نموذجاً آخر، يجمع بين عوامل التغيّر المناخي والحصار المائي، فتلك المنطقة تملك حوضاً زراعياً خِصباً، لكنها الآن مُدمرة بيئياً، فإيران أغلقت نهر سيروان (يُسمى محلياً نهر ديالى) الذي يُغذي المدينة وبساتينها.

يقول حيدر عبد اللطيف، رئيس شعبة زراعة بعقوبة، ان “للجفاف اضرار بليغة جداً بظل حرارة تتجاوز 50 درجة مئوية، ما عرّضَ المزروعات الى ضربة شمس قوية أدت الى تيبّس الغطاء السطحي العلوي للأشجار والنباتات واحتراقها”.

عشرات القرى الان في محافظة ديالى باتت منكوبة، ويعاني سكانها شح المياه والتصحر وموت المزروعات. ابو محمد (55 عاماً)، وهو مزارع مخضرم من (قرية الاميلح) وهي واحدة من 25 قرية في بلدة المنصورية يستعد مواطنوها للنزوح عنها، يصف الاوضاع المتردية هناك: “الروافد جفت تماماً، ليس لدينا ماء لا لسقي الارض ولا حتى للاستعمال الشخصي، بُتنا نعتمد على مياه الابار وهي مالحة وسيئة للغاية”، مشدداً “القرية كلها ستضطر الى الهجرة والنزوح الى مناطق اخرى”.

هجرة الزراعة ستؤدي الى تجريف البساتين وبيعها لتصبح اراض جرداء، وهو ما بات شائعاً في عموم العراق، ما يعني المزيد من تقلص المساحات الخضراء التي تخفف من تسارع الانهيار المناخي وارتفاع الحرارة. فيما يعتقد مسؤولون محليون في ديالى، بناءً على ما يراه سكان القرى، بأن الحكومة الاتحادية تهملهم عمداً لاجبارهم على الهجرة من اجل إحداث تغيير ديموغرافي مستقبلاً، وتغيير التنوع الثقافي السُكاني في مناطق شرق ديالى المحاذية لايران.

العسكرة والعُنف المُناخي المُسلح

تعترف الحكومة الاتحادية ببغداد، في وثيقة التنمية الوطنية (2018 – 2022)، بأن العراق بات ضمن “دائرة علاقة سلبية مزدوجة بين البيئة والنزاعات المسلحة”، بالنهاية ووفقاً للوثيقة الحكومية ان “ذلك أدى الى تلوث بيئي وأضرار جسيمة القت بتأثيراتها على الاقتصاد والمجتمع والفرد“.

أُستخدم تدمير البيئة المحلية والمياه كواحدة من اسلحة النزاع المسلح في العراق، لا سيما من قبل تنظيم الدولة الاسلامية (ISIS)، فهناك كميات ضخمة من المياه اهدرت على شكل فيضانات مصطنعة، اتلفت بها مساحات زراعية كبيرة وضاع مخزون مائي بلا فائدة، فعم الجفاف في مناطق شمال بغداد حتى مدينة الموصل، وتقلّصت الاراضي المزروعة الى النصف في العام 2018. بالتالي الجفاف بفعل التغيّر المناخي والنزاع المسلح (شمالاً) ارغم 400 عائلة في ذي قار (جنوباً) على النزوح والهجرة الى مناطق بديلة في العام نفسه.

كما يمكن أن تكون ندرة المياه محركاً للعنف والصراع، لا جزءاً منه فقط، فمنذ ان استخدمت جماعة (ISIS) المياه لمنع تقدم القوات الحكومية نحو مناطق نفوذها، عبر غمر الاراضي الشاسعة المفتوحة بالمياه والتسبب بفيضانات، باتت تعاني مناطق اسفل بغداد من الجفاف، فاندلعت نزاعات قبلية على مصادر المياه في جنوب البلاد، فمناطق العراق السُفلى تصلها كميات اقل من المياه بجودة رديئة بعد ان تقطع مئات الاميال. لذا غالباً ما يندلع قتال دام بين العشائر على حصص المياه، او قتل موظفين حكوميين يتولون توزيع تلك الحصص.

وعليه فأن العسكرة الجديدة القائمة على التدهور البيئي، والتي يُمكن تسميتها بـ”العُنف المُناخي”، تمثل مستوىً عالٍ من الخطورة مع تزايد نسب الفقر والبطالة، الزيادة السكانية غير المنضبطة، عجز الدولة عن خلق وظائف جديدة، تنامي مؤشرات الفقر وطنياً، وتراجع نصيب الفرد العراقي من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) بظل الانكماش الاقتصادي نتيجة جائحة (COVID 19)، فمن الممكن ان تُجند الجماعات المسلحة والميليشيات مزيداً من العاطلين عن العمل والمزارعين الغاضبين، وارتفاعاً بمعدلات الجريمة، وتفاقم اليأس الاجتماعي وتزايد الانتحار، فتستمر حالة عدم الاستقرار في العراق.

لا تشريعات صديقة للبيئة

عموماً، يعاني العراق من ضعف في حزمة التشريعات والقوانين المتعلقة بالمياه او صيانة البيئة، فهو لا يمتلك قانوناً وطنياً لإدارة الموارد المائية او الحفاظ عليها، رغم وجود مسودة مشروع قانون مُعطلة منذ العام 2016، كما إن قانون وزارة الموارد المائية رقم (50) لسنة 2008، لا يمكن اعتباره قانوناً وطنياً لادارة المياه، بل لائحة ادارية لمهام الوزارة.

وبالرغم من مشاركة العراق في المؤتمر التاريخي للمناخ في باريس 2015، إلا ان الصراع السياسي في البلاد منع بغداد من الانضمام الى (اتفاق باريس للمناخ) حتى أوائل العام 2021، وهذا مؤشر على ان ملف البيئة يأتي في ذيل الاهتمامات الحكومية.

فترتيب العراق وفقاً لمعيـــار كفـــاءة الأداء البيئي جاء بالمرتبة  116 من مجمـــوع 180 دولة، لذا حاول العراق مؤخراً بمعونة دولية ان يعالج اخفاقاته البيئية، عبر إطلاق خطة التكيّف الوطني لمكافحة تغيّر المناخ أواخر 2019 على مدى (36 شهراً) بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة وبتمويل مخفض لا يتناسب وحجم الكارثة البيئية بقيمة 2.5 مليون دولار أميركي منحها صندوق المناخ الأخضر. لكن بعد مضي 21 شهراً (حتى آب/ اغسطس 2021)، لم تتحقق أياً من اهداف الخطة، وبات العراق يُصنف كخامس أكثر الدول عرضة على مستوى العالم لشح المياه والغذاء وارتفاع درجات الحرارة، بحسب تقريرGEO6  لمنظمة الأمم المتحدة للبيئة، فيما يظل السكان يحاربون جاهدين دون خبرة للتغلب على التغيّرات المناخية القاسية والجفاف والحصار المائي الذي تفرضه تركيا وإيران.

منظومة إنذار مائي مُبكر

للدلالة على مخاطر التدهور والتحطم البيئي الذي يعاني منه العراق، أُطلقت أداتين بحثيتين رقميتين لمراقبة الازمة المائية وتحليل التحديات البيئية والامنية والاقتصادية. فالإداة الأولى وهي الأهم والمخصصة للعراق فقط، أطلقتها منظمة الهجرة الدولية (IOM) ومعهد (DELTARES) وهو معهد مستقل للبحوث التطبيقية في مجال المياه. والأداة الرقمية (IRAQ – water crisis risk webtool) عبارة عن موقع الكتروني تفاعلي يوفر نظرة عميقة ومعلومات دقيقة حول التغيرات الكَمّية والنوعية للمياه في وسط وجنوب العراق.

اما الأداة الثانية (WPS)، هي أداة تنبيه عالمية عن مخاطر الازمات المائية وجفاف المناطق الرطبة، اطلقها تحالف حكومات ومنظمات دولية في العام 2018، للريادة في تطوير الأدوات والخدمات المبتكرة التي تساعد على تحليل ومعالجة المخاطر الأمنية المتعلقة بالمياه حول العالم.

لكن حتى مع وجود تلك الاداتين التي لا يعرف عنهما السكان المتضررون شيئاً، لا يمتلك العراق منظومة انذار مبكر وطنية لمخاطر التغير المناخي المتسارعة، كما ان الحلول الحكومية ظلت تعتمد على استنزاف المزيد من الخزين المائي الاستراتيجي المتناقص، وتقليص حجم المساحات الزراعية والغاء الزراعة الموسمية، والاعتماد على الاستيراد من الخارج. وابرز اعتراف بالكارثة المستقبلية، ما اقرّ به رئيس الجمهورية برهم صالح بأن “التكاليف البشرية المحتملة للتغيرات المناخية هائلة بتضرر سبعة ملايين عراقي فعلياً من الجفاف والنزوح الاضطراري”.

التغير المُناخي: أداة للأبتزاز السياسي

التغير المناخي بات يُستخدم كأداة سياسية او وسيلة للابتزاز، مثلما يفعل الاتراك والايرانيون مع العراق. فطهران قامت بتدمير البيئة الريفية في منطقتها الغربية التي تسكنها غالبية عربية مُعارضة محاذية للعراق، عن طريق تجفيف الانهار والروافد من اجل “استنقاذ” المياه الداخلة الى بلاد ما بين النهرين، بحجة إنها تعاني من موجات جفاف داخلية حادة استدعت نقل المياه الى مدن ايرانية اخرى، وعلى هذا الاساس ترفض التفاوض مع بغداد.

وهو ما يشير اليه وزير الموارد المائية رشيد الحمداني، بأنه “طلبنا مراراً من ايران التعاون معنا واعادة فتح المجاري المائية نحو العراق، على قاعدة مبدأ تقاسم الضرر، لكن للاسف الايرانيين لم يستجيبوا (…) وطلبنا ان تنظم اتفاقية فنية مائية مستقلة عن الاتفاقية السياسية المبرمة بين البلدين في العام 1975، لكنهم لم يستجيبوا ايضاً، لذا الوزارة اتخذت قراراً بتدويل مشكلة المياه مع ايران ورفعها الى المجتمع الدولي والى المحاكم الدولية”.

ولم تجد الحكومة حلاً لمواجهة الابتزاز والتعنت الايراني والتركي والغضب المناخي، سوى بخفض حصة الفرد العراقي من المياه الى اقل من 250 متر مكعب بدءاً من صيف 2021، بعدما كانت تقدر بـ2400 متراً مكعباً في العام 2004، فالوفرة المائية تناقصت بقسوة خلال 15 عاماً فقط حتى وصلت الى اقل من 500 متراً مكعباً في العام 2019. ويعتبر متحدث عن وزارة الموارد المائية، عون ذياب: ان “هذا التقليص لا يشكل قلقاً، الكثير من دول الجوار تعتمد هذه الحصة لمواطنيها”.

ومن المفارقة، ان يحتفل العراق هذا العام بمرور قرن على تأسيس دولته الحديثة بالتزامن مع تحديات بيئية تهدد وجوده، فخلال 100 عام فقط باتت منظومته البيئية على وشك الانهيار، وتناقص مستوى تدفق المياه في انهاره التاريخية الى اقل من عشرة اضعاف، فبعد ان سجل في العام 1920 تدفقاً بـ1350 متر مكعب/ ثانية، بات اقل من 150 متر مكعب/ ثانية في العام 2021. لذا يبدو ان الشُبان الحالمين الذين رسموا لوحات وصمموا اشكالاً فنية متفائلة لمستقبل بيئي أفضل في العراق، تنتظرهم سنوات قاتمة مليئة بالتحديات المُناخية الصعبة.

صفاء خلف: كاتب وصحافي استقصائي وأحد المساهمين بتأسيس “العالم الجديد”

التحقيق أُنجز بدعم من مؤسسة (Candid Foundation).

إقرأ أيضا