هل كان نابونوئيد السبب في سقوط بابل؟

لم يكن سقوط بابل على يد قورش الكبير في أكتوبر عام 539 قبل الميلاد حدثاً…

لم يكن سقوط بابل على يد قورش الكبير في أكتوبر عام 539 قبل الميلاد حدثاً تاريخياً عابراً فلا زالت الدراسات التاريخية المستندة على جهود علم الآثار مستمرة في مناقشة وتحليل أسبابه. وفي انهيار الامبراطوريات دوما ما يقع اللوم على الحاكم الاخير، ولا يختلف الأمر في قصة انهيار بابل فالملام الاول كان نابونوئيد الملك البابلي المثير للجدل.

ولو تتبعنا سيرة نابونوئيد نفسه تلك التي سردتها المصادر القديمة، لوجدنا أنه كان أحد رجال البلاط الملكي البابلي وقد وصل إلى البلاد قادماً من حران (في تركيا الآن) وتزوج من نكتوريس ابنة نبوخذ نصر الثاني وفي الخمسينيات أو الستينيات من عمره أصبح أحد رجال البلاط الملكي البابلي. الرواية التوراتية الموجودة في سفر دانيال تقدم لنا نابونوئيد كملك مجنون مولع بتفسير الأحلام التي يرها رسائل الهية ولا يختلف – وفقا للتوراة- عن سلفه نبوخذ نصر الثاني. نابونوئيد ايضا يوصف بكونه ملك مغتصب حل محل الملك البابلي (لبشي مردوخ) الذي قد يكون اغتيل جراء انقلاب عسكري قام به (بيلشاصر) ابن نابونوئيد نفسه. وحينما استوى نابونوئيد على العرش ترك بابل واتخذ من تيماء (في شمال المملكة العربية السعودية الآن) عاصمة ظل له ولم يدخل بابل قرابة العشر سنين وهذه الخطوة –كما يرى المختصون- لم تكن مسبوقة في تاريخ العراق القديم، إذ لم يسجل التاريخ أن ملكا ما ترك عاصمته واتخذ أخرى.

أما الأمر الآخرالذي يكاد يجمع عليه المؤرخون فهو أن نابونوئيد كان قد استفز البابليين في ميله الكبير نحو عبادة الإله سين (إله القمر المعبود في حران) مسقط رأسه والذي كانت السيدة الآرامية الأصل (اداد-هابي) والدة نابونوئيد الكاهنة العليا في معبد إله القمر (سين) العليا في حران قبل نفيها إلى بابل وزواجها من أمير بابلي، حتى وفاتها في 17 نيسان عام 546 ق.م هذا الميل هو الذي شجع البابليين (عبدة الإله مردوخ راعي مدينة بابل) من الترحيب بقورش الكبير.

لوح من البازلت بارتفاع 22 انج  يصور ملك بابل نابونوئيد (حكم من 556-539 قبل الميلاد)

وعلى أية حال، فالملك نابونوئيد الذي ترك أكثر من 3000 رقيم طيني عن عهده – أكثر من أي ملك بابلي آخر بالإضافة إلى النقوش الأثرية الموزعة هنا وهناك في أرجاء مملكة بابل ظل مثيرا للجدل، وفي دراسة حديثة نشرتها مجلة Archaeology Magazine الأمريكية المتخصصة، حاولت رفع اللوم عن نابونوئيد، إذ يرى عالم الآشوريات الكندي بول ألين بييوليو من جامعة تورنتو، أن دعوة نابونوئيد إلى عبادة القمر ربما كانت جزءا من مخطط كبير لتوحيد مملكته “ويرى بييوليو” أن نابونوئيد كان ملكاً ذو رؤية جديدة تخص مملكة بابل “، فقد كانت بابل واحدة من العديد من المدن التي ازدهرت في جنوب بلاد ما بين النهرين، لكنها في تلك الفترة لم ترتق إلى مكانة أور مدينة الإله (نانا) إله القمر الذي عرف لاحقا بـ(سين).

وفي حوالي العام 2000 قبل الميلاد، بدأت بابل في اكتساب سمعتها كمركز ديني وحضري، في ذلك الوقت كان سكانها يتحدثون الأكادية، وهي لغة سامية حلت محل اللغة السومرية كلغة مشتركة لبلاد ما بين النهرين، ثم حلت فترة ما يعرف بالسلالة البابلية القديمة وصعود الحكام الاقوياء مثل حمورابي (حوالي 1810- 1750 قبل الميلاد)، إذ أصبحت بابل المدينة الأكثر نفوذاً في المنطقة، وفي تلك الفترة كان الإله مردوخ إلهاً صغيرا للعواصف، ثم أصبح راعيا لبابل وارتقى تدريجياً إلى موقعه كواحد من أقوى الآلهة بين آلهة بلاد ما بين النهرين، وفي أعياد مردوخ الخاصة في فصل الربيع التي تصادف عيد رأس السنة في بابل يتم نقل تمثاله من معبد إيساجيلا إلى أماكن مقدسة أخرى في بابل لتستمر هذه الأعياد مدة 14 يوماً من الطقوس الباذخة، وخلال هذا العيد يتم تجديد حق الملك المقدس في الحكم لمدة عام آخر.

وطوال القرن الثاني وأوائل الألفية الأولى قبل الميلاد، تضاءل وضع بابل كمدينة رائدة وعلى الرغم من الاستيلاء عليها من قبل الأجانب في بعض الأحيان، إلا أن هؤلاء الغرباء دائما ما تبنوا الثقافة البابلية، وتميعوا بين مواطني المدينة الناطقين باللغة الأكادية. وبعد أن عاشوا تحت حكم ملوك الإمبراطورية الآشورية الجديدة (911-609 قبل الميلاد) لعدة قرون، ثار البابليون بقيادة زعيم محلي يُدعى نبوبولاصر (حكم 626- 605 قبل الميلاد)، واستولوا على السلطة بعد حرب أهلية طويلة، ليبدأ عهد الإمبراطورية البابلية الجديدة. كان هذا إيذانا بفترة شهدت تحول بابل إلى عاصمة إمبراطورية غزت جيوشها الكثير من الأراضي التي كان يحكمها الملوك الآشوريون.

لوح من بوابة عشتار يصور مخلوقا أسطوريا يشبه التنين ويرتبط بمردوخ الإله الرئيسي لبابل

خلف نبوبولاصر ابنه نبوخذ نصر الثاني، المعروف بغزواته العسكرية، ومنها استيلاؤه على أورشليم، ومشاريعه البنائية كبنائه بوابة عشتار الشهيرة في بابل. وفي العقد الأخير من القرن السابع قبل الميلاد، غزت القوات البابلية البقايا الأخيرة للإمبراطورية الآشورية الجديدة في الشمال واستولت على حران (جنوب شرق تركيا)، مسقط رأس عائلة نابونوئيد، وفي ذلك الوقت جاءت آداد هابي، كاهنة الإله سين، إلى بابل.

تذكر بعض الألواح الطينية في عهد الملك نبوخذ نصر الثاني عن مسؤول بابلي مشاكس يدعى نابونوئيد، قام بضرب أحد الاشخاص، لكن ألواحاً أخرى تصفه بكونه دبلوماسيا ماهرا، ووفقاً للمؤرخ اليوناني هيرودوت، في القرن الخامس قبل الميلاد، ربما يكون نابونوئيد قد تفاوض على معاهدة سلام بين الميديين في إيران والليديين في الأناضول.

بعد عهد نبوخذ نصر الثاني الطويل، حل صهره نرغال شراصر لأربع سنين (من 560 إلى 556 قبل الميلاد)، وخلفه ابنه لبشي مردوخ، الذي حكم لمدة أسبوعين فقط، قبل أن يطيح به الانقلاب وينصب نابونوئيد الكهل على العرش. لم يتم اكتشاف سجلات البلاط للملوك البابليين الجدد. وبالتالي كان يجب على علماء الآشوريات استخدام نصوص أخرى كالمعاملات المالية والعقارية، لجمع الأحداث السياسية في ذلك الوقت. وعلى سبيل المثال، تشير العديد من الألواح الطينية إلى أن بيلشاصر ابن نابونوئيد كان قد استولى على العديد من ممتلكات لبشي مردوخ العقارية، ما جعله المشتبه الرئيسي والعقل المدبر للانقلاب، لكن السؤال حول من ساعده في ذلك؟ تجيب عالمة الآشوريات ماغورزاتا ساندوفيتش بجامعة وارسو البولندية التي درست مؤخراً الألواح الطينية التي توضح تفاصيل المعاملات العقارية والتي تحمل تصريح الملك نابونوئيد. وجد ساندوفيتش أن العديد من الرجال في هذه السجلات يحملون ألقابا عالية، وكانوا من النوع الذي يتوقع المرء أن يجده بالقرب من الملك.
لوح نابونوئيد من منطقة السلع -الأردن- تصوير البعثة الاسبانية

يبدو أن عددا أقل من الرجال دون ألقاب كانوا رفاق نابونوئيد الأكثر قربا إليه، وشغل بعضهم مناصب في السلطة خلال عهد نبوخذ نصر الثاني، وعهد نرغال شراصر، كما يبدو أنهم احتفظوا بميزة القرب من الملك، ما يشير إلى أن رفاق نابونوئيد يمكن أن يكونوا حلفاء أساسيين في الإنقلاب الذي أجلسه على العرش، وكان عدد غير قليل من أعضاء هذه الحاشية الملكية من الآراميين، وهم مجموعة عرقية عاشت قبائلهم في ربوع الإمبراطورية البابلية الجديدة.

ومن المحتمل أن يكون نابونوئيد نفسه آراميا، فهو من مواليد مدينة حران الشمالية، حيث يعيش العديد من الآراميين، حيث كانت اللغة الآرامية، قد بدأت في هذا الوقت تحل محل الأكادية بسرعة باعتبارها اللغة الرائدة للإمبراطورية، إذ تقول ساندوفيتش: “يصعب التعرف على الآراميين في السجلات البابلية”. لقد أداروا شؤونهم في كثير من الأحيان في إطار مؤسساتهم القبلية، لذا فإن ظهورهم هنا بوصفهم شركاء للملك أمر مهم “.

وإذا حافظ نابونوئيد على روابط وثيقة مع الآراميين، فقد يشير ذلك إلى أنه ربما يكون مهتما بالحفاظ على قاعدة وقوة خارج النظام البابلي الرسمي. لاحظت ساندوفيتش أيضا أن هذه السجلات قد غاب عنها إلى حد ما كبير أسماء العوائل البابلية العريقة التي ارتبطت بالمعبد مردوخ، وهو الأمر الذي سيجلب صراعاً وانقساماً دينياً حاداً كما ترى ساندوفيتش.

مخطوطات البحر الميت

وفي السنوات الثلاث الأولى من حكمه، عزز نابونوئيد حكمه، وتصرح النقوش المنسوبة إليه أنه قام بحملة إلى الغرب، وقاد الجيوش إلى الأناضول والشام. ويبدو أنه كان قد تحالف مع الملك الفارسي قورش الكبير (559-530 قبل الميلاد) الذي شجعه نابونوئيد على التمرد ضد الميديين.

خلال المرحلة الأولى من حكمه، يدعي نابونوئيد أنه أعاد بناء أسوار بابل، وإعادة بناء المعابد في جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين. وكان مهتما بشكل خاص باستعادة الإهداءات والتماثيل الدينية القديمة، وأمر بحفريات تشبه عمليات التنقيب للبحث عنها. في السنة الثانية من حكمه، أعاد بناء معبد الإله سين في أور أثناء خسوف القمر. كما جعل ابنته الكاهنة الرئيسية هناك، وهو دليل على مدى تقديره لهذا الإله.

بعد ثلاث سنوات من الحكم، ومن دون أي تفسير واضح، تخلى نابونوئيد عن بابل وترك ابنه بيلشاصر وصيا على العرش، واختفى لعقد من الزمان ليقوم بحملته في شمال الجزيرة العربية، إذ يقول هانزبيتر شوديج، عالم الآشوريات بجامعة هايدلبرغ الالمانية “لا نعرف سبب قيامه بذلك، وهو بهذا العمر. كان من المنطقي أن يترك لابنه قيادة الجيش، ويظل هو في العاصمة للحفاظ على السلطة والإشراف على الشعائر الدينية فيها”. من المحتمل أن الاشتباكات مع كهنة مردوخ، وربما حتى مع ابنه، دفعت نابونوئيد إلى ترك بابل. وطوال غيابه الذي استمر لـ10 سنوات، لم يتم الاحتفال بعيد رأس السنة في بابل، ولم تتم مراسم تجديد السلطة للملك، وتراجعت مكانة الإله مردوخ في معبد إيساجيلا. قد تبالغ الروايات اللاحقة في المدى الذي انزعج فيه البابليون من ذلك، ولكن ربما كان ذلك مصدر قلق كبير للكثيرين من سكان بابل.

نابونوئيد -من تيماء- تصوير وزارة الثقافة السعودية

يواصل علماء الآثار دراسة القرائن التي قد تفسر قرار نابونوئيد الغامض بالخروج من بابل، ففي الأردن وعلى صخرة ترتفع 400 قدم فوق الوادي الكبير في موقع السلع يصور نقش على صخرة حملة نابونوئيد على الأراضي الغربية التي تسميها التوراة أراضي الأدوميين – مملكة إدوم. قادت عالمة الآثار روسيو دا ريفا من جامعة برشلونة الإسبانية فريقاً من المتسلقين الذين أجروا دراسة مفصلة للنقش المتهالك هناك، يصور النقش نابونوئيد وهو يرتدي قبعة مخروطية، ويصلي إلى رموز سماوية تمثل ثلاثة آلهة: سين (القمر)، عشتار (نجمة) وشمش (الشمس). النص المرافق للنقش تضرر للحد الذي لا يمكن قراءته، لكن دا ريفا تعتقد أنه يحيي ذكرى الانتصار البابلي على القوات التي احتلت قلعة أدوميت في موقع السلع حيث تقع عاصمة أدوم في الوادي الكبير الممتد من البحر الميت إلى البحر الأحمر. الصخرة الواقعة على قمة جبل من المستحيل رؤيتها إلا من قبل أولئك الذين يصعدون سلماً ضيقا يؤدي إلى بقايا القلعة في السلع. وربما كان الاستيلاء على مثل هذا الموقع المحمي جيداً مصدر فخر لنابونوئيد وجيشه. وربما، كما تقترح دا ريفا، وضعوا النقش ليذكر الأدوميين بقوة بابل.

على بعد 350 ميلاً إلى الجنوب الغربي من السلع وفي السعودية قام فريق سعودي ألماني مشترك بقيادة أرنولف هاوسليتر من المعهد الأثري الألماني بالتنقيب في واحة تيماء منذ عام 2005. وقبل بداية التنقيب كان وجود نابونوئيد في تيماء معروفا فقط في السجلات الأدبية، لكن التنقيبات كشفت عن مبان ونقوش تعود إلى فترة إقامته هناك، وكذلك عن عدد من القطع الأثرية التي تحمل اسمه وسجلات رسمية وكذلك مسلة مجزأة إلى حد كبير، ولكنها تشبه الآثار التي أقامها نابونوئيد في بابل. كان ذلك مفاجأة لعالم الآثار الألماني هانزبيتر شاوديج، الذي ترجم النصوص البابلية الجديدة الموجودة في تيماء، حيث يقول: “اعتقدت أنه خلال إقامتهم في الصحراء ستكون نقوشهم معبرة عن تفكير أكثر استقلالية”، “لكنهم يكررون شكل النقوش الموجودة في بابل”.

يقدم نقش ملكي وجد في صيف عام 2021 وعلى بعد 200 ميل جنوب شرق تيماء بالقرب من مدينة الحي السعودية دليلا آخرعلى نشاط نابونوئيد في المنطقة. النقش الذي تأثر بالطقس الشديد يشبه نقش آخرعثر عليه في المنطقة في عام 2012 ويظهر نابونوئيد وهو يمجد رموز الآلهة سين وشمش وعشتار، بالإضافة إلى رمز رابع يشبه الأفعى. وهذان النقشان هما الوحيدان لنابونوئيد اللذان يتميزان بوجود رمز الأفعى الذي قد يكون ذا أهمية خاصة للسكان المحليين في المنطقة والذي يفتخر نابونوئيد بغزوهم.

وبالعودة إلى أسباب غياب نابونوئيد عن بابل لمدة 10 سنوات، كونه مهتما بتوسيع قوة الإمبراطورية إلى الجنوب ومحاولة السيطرة على طرق التجارة المهمة الواقعة إلى الغرب من شبه الجزيرة العربية، تقدم المصادر القديمة تفسيرات أخرى -بصرف النظر عن فكرة وصفها له بالملك المجنون- إلا أنها كانت توحي أيضا بأن نابونوئيد ظل يعاني من بعض الأمراض التي كان يأمل بمعالجتها أثناء إقامته بعيداً في الصحراء، كما تقدم الشظايا من مخطوطات البحر الميت المكتشفة في كهوف قمران بالضفة الغربية في فلسطين تقدم نسخة من هذه القصة، حيث تعتبر بعض أجزاء هذه المخطوطة عملا أدبيا يعرف باسم “صلاة نابونوئيد”، والذي ربما يكون قد ألفها اليهود المقيمون في بابل، وتشير الصلاة إلى أن الملك عانى من مرض جلدي شديد وهرب من بابل، ربما لتجنب تلويث معابدها المقدسة بجسده النجس، وبمجرد وصوله إلى الصحراء، صلى إلى إله يهوذا من أجل إغاثته وشفائه.

قد يكون مصدر هذه القصة أسطورة حضرية نشأت في بابل أثناء غياب نابونوئيد. توحي هذه الصلاة أن الملك هرب إلى الصحراء من أجل مناجاة إله سين لعلاج مرض يشبه الجذام، حيث تشير أعمال بابلية أخرى إلى قدرة إله القمر (سين) على شفاء أمراض الجلد. وبحلول عام 543 قبل الميلاد، عاد نابونوئيد إلى بابل دون أن يتضاءل إخلاصه لأله القمر.

الواح مسمارية و اسطوانة قروش - تسجل اعمال نابونوئيد - محفوظة في المتحف البريطاني

في السنوات الأخيرة من حكمه، أمر نابونوئيد بسلسلة من النقوش والمنحوتات التي أكدت على افضلية الإله القمر (سين)، ومن الأمثلة الأكثر وضوحا على إخلاصه هي النقوش التي تحتفل بترميمه لمعبد الإله القمر (سين) في حران وتسجل السيرة الذاتية لوالدة نابونوئيد، أداد هابي التي قيل إنها توفيت عن عمر يناهز 102 عاما قبل نهاية عهد ابنها، تصف النقوش خدمتها لإله القمر (سين)، بينما تتهم في نفس الوقت كهنة بابل بعدم احترامهم لهذا الإله، ولم تذكر النقوش الإله مردوخ في أي مكان، وبدلاً من ذلك تشير إلى أن عبادة الإله القمر (سين) كانت في ازدياد، ربما باعتباره الإله الوحيد الذي يمكن أن يوحد الشعوب المتنوعة والبعيدة التي تعيش تحت الحكم البابلي، إذ يقول العالم الكندي بوليو: “كان القمر يُعبد في كل مكان”. “في الصحاري التي قضى فيها نابونوئيد 10 سنوات، بمسقط رأسه في الشمال وفي بلاد الشام”.

تشير الوثائق في ذلك الوقت إلى صعود قورش الكبير كتهديد لبابل، حيث انتصر على الميديين، وحل محلهم كمنافس رئيسي لبابل، تسجل بعض هذه الوثائق أن نابونوئيد أمر بجمع وإحضار تماثيل الآلهة الراعية لجميع مدن الإمبراطورية الرئيسية إلى بابل كإجراء وقائي ضد الغزو الفارسي، أما الأيام الأخيرة لنابونوئيد فتسجلها ثلاثة نصوص مسمارية، تؤكد أن الأيام الأخيرة من عهده لم تكن كريمة معه، وتسجل أيضا مسيرة جيش قورش الكبير إلى بابل، ودخول قائده جوبارو إلى بابل نفسها في أكتوبر 539 قبل الميلاد.

يقول بوليو: “لقد استغرق الأمر أسبوعين فقط”، “ربما كان ذلك أسرع انهيار لإمبراطورية في التاريخ.” ووفقاً لهذه الروايات، سئم أهل بابل من حكم نابونوئيد ورحبوا بالفرس بأذرع مفتوحة. وتقول النصوص أن قورش الكبير أعاد مردوخ إلى وضعه الشرعي كأهم إله في بابل ونفى نابونوئيد.

في هذه الروايات المسمارية عن الفترة الفارسية، تم التذرع بردة نابونوئيد كتفسير لسقوط بابل، لكن اثنين على الأقل من الزعماء المتمردين الذين ثاروا ضد الفرس في القرن الذي تلا سقوط بابل نصبا نفسيهما على أنهما “أبناء نابونوئيد”، ما يشير إلى أن ذكرى الملك لا تزال تتمتع ببعض الذكر الحسن لدى البابليين، وأن البعض منهم يرى أن نابونوئيد لم يكن ملكاً مجنوناً، أو حاكماً غائباً، أو متعصبا لعبادة إله القمر، ولكن ببساطة باعتباره بابلياً حاول إعادة إنتاج إمبراطورتيه لضمان بقائها.

لقراءة الدراسة باللغة الأصلية انقر هنا

إقرأ أيضا