مظفر النواب.. رحيل ملؤه العودة

فقدت القصيدة العربية والشعبية المتمردة واحدا من ألمع فرسانها ومجدديها خلال النصف الثاني من القرن…

فقدت القصيدة العربية والشعبية الثائرة واحدا من ألمع فرسانها ومجدديها في النصف الثاني من القرن الماضي، فما إن أعلن يوم أمس الجمعة، عن وفاة الشاعر والمناضل العربي العراقي الكبير مظفر النواب، حتى ضجت منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المحلية والعربية بصوره ومفرداته ومواقفه “الحية” تجاه مجمل القضايا الوطنية والإنسانية والسياسية، ليصوب الكثير من المدونين والمثقفين، سهامهم نحو السلطات العراقية التي أوغلت في إهمال كبار المبدعين، وهو ما رفضته وزارة الثقافة رفضا قاطعا بتأكيدها التواصل مع النواب وعائلته قبل رحيله، بالإضافة إلى المبدعين الآخرين، دون أن توضح نوع ذلك التواصل أو مخرجاته.

ويقول فاضل ثامر الناقد الأدبي المعروف والرئيس السابق للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “الشاعر الراحل مظفر النواب علامة بارزة في تاريخنا الثقافي وهو مناضل وإنسان عاش حياته وهو يحلم بغدٍ أجمل وآمن لوطنه ودفع ضريبة موقفه النضالي سجناً ومطاردةً ومنفىً”.

وتوفي أمس الجمعة، الشاعر العربي العراقي الكبير مظفر النواب في مستشفى الشارقة التعليمي بالإمارات العربية المتحدة عن عمر ناهز 88 عاما.

ويضيف ثامر، أن “النواب ترك تراثاً شعرياً غزيراً باللغة الفصحى كما كان المجدد الحقيقي للشعر الشعبي، وكان لي شرف مزاملته في سجني نقرة السلمان والحلة، فهو كسب محبة الناس بسلوكه ومواقفه وانسانيته وشعره”.

وختم ثامر كلامه متهدجا بعبرة حزن مفاجئة “وداعاً أيها الشاعر الكبير.. وداعاً أيها المناضل الشجاع.. وداعاً أيها الإنسان..”.

وكتب الرئيس برهم صالح، النواب قائلا “يبقى حيّاً في ذاكرة الشعب مَن زرع مواقفه السياسية والوجدانية بشكل صادق، ولهذا فإن الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب لا يمضي إلى العدم. فهو حيّ في ذهن كل مَن ترنم بقصائده الخالدات. لروح المبدع الفذ المغفرة والرحمة، ولأسرته ومحبيه وقرّائه الصبر والسلوان.”.

وكان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي وجه بنقل جثمان النواب بالطائرة الرئاسية الى العراق، ليوارى الثرى في أرض الوطن، حسب بيان رسمي، ليتم تشييع جثمانه صباح اليوم السبت، إلى مثواه الأخير من مقر الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق.

إلى ذلك، دعت منظمة نخيل عراقي الثقافية، الحكومة العراقية ووزارة الثقافة الى إعلان الحداد الرسمي بوفاة النواب لما يمثله من قيمة وطنية وأدبية وثورية في تاريخ العراق المعاصر. 

يشار إلى أن مظفر النواب قد ولد في بغداد عام 1934 وهو سليل عائلة “النواب” العريقة، والمعروفة بعشقها للفنون والموسيقى وكان قصر العائلة المطل على نهر دجلة مقصد الشعراء والفنانين والساسة.

ودرس في كلية الآداب ببغداد في ظروف اقتصادية صعبة، بعد أن تعرض والده الثري إلى هزة مالية عنيفة أفقدته ثروته، وبعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958 تم تعيينه مفتشاً فنياً بوزارة التربية في بغداد، فأتاحت له تلك الوظيفة فرصة تشجيع ودعم الموهوبين من موسيقيين وفنانين تشكيليين.

في أعقاب الانقلاب الذي أطاح بحقبة عبد الكريم قاسم عام 1963 تعرض الشيوعيون واليساريون لحملات اعتقال واسعة فاضطر النواب لمغادرة العراق، متجها الى إيران في طريقه للاتحاد السوفييتي السابق (روسيا حاليا)، وألقت المخابرات الإيرانية القبض عليه فتعرض للتعذيب قبل أن يتم تسليمه الى العراق، وحكمت عليه محكمة عسكرية عراقية بالإعدام إلا أنه تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد.

وضع النواب في السجن الصحراوي المعروف باسم “نقرة السلمان” القريب من الحدود السعودية – العراقية، حيث أمضى عدة سنوات ونقل بعدها الى سجن الحلة الواقع جنوب بغداد.

أدبيا، تعتبر قصيدة “قراءة في دفتر المطر” التي نظمها النواب عام 1969 أولى محطات الشهرة لديه، لينتقل بعدها إلى مساحة أوسع في عالم الشهرة عند الجمهور العربي بنظمه ملحمة شعرية حملت عنوان “وتريات ليلية” الّتي كُتبت خلال 1972-1975، مؤكدا فيها التزامه التامّ بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية، وأصبح تغنيه بها سمة ظاهرة في شعره.

ليشتهر بعدها أكثر في نظم الشعر السياسي المعارض والناقد للأنظمة العربية، دون أن تأخذه رحمةً بها بلجوئه إلى استخدام مفرداتٍ جريئة جدا، كما يقول في إحدى قصائده واصفا حكام العرب بها “أولاد القحبة! لستُ خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم، إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم”.

السهم الأخير

الى ذلك، يرى الأكاديمي والسياسي المستقل ليث شبر خلال حديث لـ”العالم الجديد “، أن “هذا النظام بني على أساس طائفي محاصصاتي قائم على الفساد والمناصب والمغانم، ومثل هكذا أنظمة لاتهتم إلا بمن يحقق مصالحها وجل هؤلاء من الفاسدين وضعاف النفوس ومتملقي السلطة، لذلك فإن هذه الحكومات لن تهتم بأي شأن إبداعي وفني، خاصة إذا كان معارضا لها”.

ويردف شبر، أن “الاهتمام الحكومي لن نجده إلا في بيانات التأبين، فيما تقام مراسيم العزاء لمن له صدى شعبي لتسجيل الحضور، بينما هناك إهمال واضح ومؤلم حينما يكون هذا الفنان وذاك المبدع على قيد الحياة، وإن كان يمر بمعاناة أو مرض”.

ويستطرد “مظفر النواب ما هو إلا نموذج صارخ لهذا الإهمال المتعمد للفن والأدب ولكل المبدعين، لذلك أنا أؤكد أن النظام كله مؤسس على تهميش المبدعين والفنانين والأدباء والعلامات المضيئة، لأنه نظام ظلامي ومظلم وظالم وفاسد، ويمكن أن نجد أوصاف هذا النظام وثلته الحاكمة في قصائد النواب”.

يشار إلى أن العديد من المبدعين ورموز الأدب العراقي، توفوا في دول المهجر، وكان من بين آخرهم الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة، التي توفيت بالولايات المتحدة في أيار مايو من العام الماضي، دون أي اهتمام حكومي، كما كشفت عن ذلك عائلتها في حديث سابق لـ”العالم الجديد”.

وبعد عمارة بشهر واحد، توفي الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف في لندن، الذي أُثير حوله جدل كبير قبيل وفاته بأيام، بعد أن طالب وزير الثقافة حسن ناظم الاعتناء به، ما دفع العديد من الجهات السياسية المستاءة من مواقف الشاعر، الى مهاجمة الوزير.

من جانبه، يرد وكيل وزارة الثقافة والسياحة والاثار عماد جاسم خلال حديث لـ”العالم الجديد”، على جملة اتهامات لها بإهمال المبدعين، قائلا إن “هذه الاتهامات غير صحيحة، وبعيدة عن الواقع، فوزارة الثقافة تعمل وتتواصل مع كافة المبدعين في داخل وخارج العراق”.

ويضيف جاسم، أن “وزارة الثقافة لديها لجنة خاصة تهتم بالمبدعين في الداخل والخارج، وهناك تواصل مع عدد كبير من المبدعين المغتربين، كذلك كان لدينا مشروع ونجح، وهو قدوم 14 فنانا تشكيليا للعراق، وكانوا سعداء جداً في العودة للوطن، وهناك مؤتمر وملتقى للفنانين المغتربين سيعقد قريبا”.

ويتابع “لأول مرة في وزارة الثقافة تم تأسيس قسم معني اسمه (قسم التنمية الثقافية)، وهذا القسم مهامه التواصل مع الجمعيات والمنظمات والمبدعين المغتربين”، مبينا أن “الوزارة كانت على تواصل دائم ومتابعة مستمرة لصحة ووضع الشاعر الكبير الراحل مظفر النواب، وكان وزير الثقافة مستمر الزيارة له في منزله والتواصل مع عائلته عبر الهاتف بشكل دائم”.

ويشير إلى أن “أكثر من مرة تواصلنا مع وزارة الصحة العراقية، من أجل رعاية بعض الفنانين والمبدعين في الداخل، لكن هناك بعض الصعوبات بهذا الأمر بسبب التخصيصات المالية، لكن رئاسة الوزراء تدعم توجهات وزارة الثقافة للاهتمام بالفنانين والمبدعين في داخل وخارج العراق”.

يشار إلى النواب عاد إلى العراق في العام 2011، واستقبله خينها رئيس الجمهورية الراحل جلال طالباني، وظل بعدها يتنقل بين بيروت ودمشق التي استقر فيها طويلا خلال سنوات هروبه من العراق في مطلع سبعينيات القرن الماضي.

 

أقرأ أيضا