الحكومة تتفرج.. تلوث المياه يلاحق سكان الجنوب في ظل مشاريع منتهية الصلاحية وأخرى معطلة (تحقيق)

في صبيحة السادس عشر من شباط/فبراير 2022، أصيب مدرس اللغة العربية علي كاظم، بوعكة صحية…

في صبيحة السادس عشر من شباط/فبراير 2022، أصيب مدرس اللغة العربية علي كاظم، بوعكة صحية مفاجئة وهو يلقي محاضرة على طلابه في المدرسة. مغص معوي متواصل وقيء وإسهال، فنقله زملائه سريعا إلى مستشفى قضاء سوق الشيوخ جنوب الناصرية مركز محافظة ذي قار(360كم جنوب العاصمة بغداد).

تفاقمت وبنحو سريع حالتهُ هناك، وبعد سلسلة من الفحوصات المخبرية التي خضع لها، تبين بأنه مصابٌ ببكتيريا (السلمونيلة التيفية) أو ما يعرف في الأوساط الطبية بـ(التيفوئيد).

لم يكن علي بحاجة لكي يخبرهُ الأطباء بأن تلوث مياه الشرب هو السبب في إصابته، فالمياه التي تصل عبر شبكات الأنابيب من محطات التصفية والتنقية الحكومية:”تسبب للمرء مغصاً معوياً حاداً إن شرب منها، وتصاب عينه بالحرقة إن اغتسل بها” هذا ما يقوله.

بعد تلك الحادثة والخوف من قائمة طويلة من الأمراض الأخرى التي يسببها تلوث المياه كالكوليرا والتهاب الكبد الفيروسي ومشاكل الكلى، لجأ علي مع أسرته كما فعلت أسر كثيرة من قرية “النصر”، إلى شراء مياه الشرب من المحطات الأهلية التي تعمل وفق منظومة تعرف باسم RO لتصفية المياه.

بحسب حيدر حنتوش مدير قسم الوبائيات في دائرة صحة ذي قار، فان أهالي ذي قار اضطروا للتوجه الى استخدام المياه المنتجة في محطات أهلية للشرب وطهي الطعام منذ نحو عقدين في ظل عجز حكومي مزمن عن تأمين مياه صالحة للاستهلاك البشري.

ويلفت إلى أن المحافظة التي يقطنها أكثر من مليوني نسمة، تعاني ومنذ سنوات من مشكلة تلوث مياه الشرب، جراء صب مياه الصرف الصحي في حوضي نهري الغراف والفرات اللذين يغذيان محطات تنقية مياه الشرب الحكومية المتهالكة بسبب عدم تطويرها.

ويؤدي ذلك بحسب حنتوش إلى “ارتفاع معدلات الأمراض المعوية والاسهال المزمن والتهاب الكبد الوبائي من نوع (A-E) والتيفوئيد وتسجيل عشرات حالات الاصابة بمرض الكوليرا“.

ويضيف: “سجلت مديريتنا منذ شهر حزيران 2022، نحو 1800 إصابة بالإسهال المائي، و52 إصابة بالكوليرا بسبب ارتفاع نسب تلوث المياه“.

وتسجل سنويا العديد من حالات الوفاة ويدخل مئات الأطفال في وضع صحي حرج داخل المستشفيات بسبب أمراض معوية ناتجة عن تناولهم لمياه ملوثة، في محافظة تشتهر بحقولها النفطية الكبيرة وبكونها ثاني اكبر منتج للنفط في البلاد، لكنها تعاني من سوء البنية الخدمية ومعدلات فقر وصلت إلى ما يقارب 48% من مجموع السكان بحسب المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي.

يوثق هذا التحقيق، اعتمادا على نتائج فحوصات مخبرية ومصادر رسمية، عدم صلاحية ما تنتجه المحطات الحكومية من مياه للشرب و الطهي، ويؤكد نسب التلوث العالية في المياه الخام (لنهري الفرات والغراف) المغذية لشبكات ومحطات تصفية وتنقية المياه في الناصرية ويظهر تداعياتها على حياة السكان.

ما لاحظناه خلال زياراتنا لثلاث محطات رئيسية لتصريف مياه الصرف الصحي في نواحي البطحاء وأور والاسكان الصناعي التابعة لمحافظة ذي قار، هو تدفق مياه المجاري الثقيلة في مسارات نهر الفرات، دون أثر لأي سعي حكومي لمعالجة المشكلة، ما يجعل احتمالات التلوث كبيرة جدا.

وهو ما تم التثبت منه من خلال فحص عينات من المياه الخام الواصلة للمحافظة، حيث اتضح أن فيها زيادة بتراكيز الألمنيوم بنسبة (0.6- 0.97 ملغم/ لتر) وهو ما يتجاوز بكثير التراكيز المسموح بها بموجب تعليمات نظام صيانة الانهار العراقية لعام 1980 والمحددة بـ0.05 ملغم/لتر. هذا بالإضافة إلى احتواء العينة على نسب مرتفعة من الحديد بتركيز (850 ملغم/لتر) بزيادة عن الحد المسموح به وهو (500 ملغم/لتر).

وثق معد التحقيق، 45 منفذاً لمياه الصرف الصحي جميعها، تلقي بمخلفاتها في نهري الفرات والغراف، على الرغم مما تحتويه من مواد عضوية ومعادن غير قابلة للذوبان ومواد سامة (قاتلة) وفقاً للخبير البيئي نوري المعموري، أبرزها كاليسيوم ومغنيسيوم ثاني اوكسيد الكبريت، النتريت والأمونيا والفوسفات.

ويؤكد المعموري: “كلما تفاقم شح المياه وقل منسوبها في الأنهر، وهو ما يحصل حاليا بسبب الجفاف، كلما ارتفعت كثافة وتراكيز هذه العناصر“.

ووفقًا لتقارير صادرة عن وزارة الصحة والبيئة العراقية في 2019، فان خدمات الصرف الصحي الآمنة تغطي فقط 30% من السكان في البلاد، ما يعني أن 70% من المياه الثقيلة تنتهي في الأنهار، وأكدت تلك التقارير أن أكثر من 5 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي تذهب إلى الأنهار دون معالجة، ما يشكل تهديدا للصحة العامة.

وكانت لجنة الصحة البرلمانية قد أصدرت في 2018 تقريراً عن أزمة تلوث المياه في ذي قار وبعض المحافظات، وخلصت الى ان ذلك التلوث مسؤول عن 25% من وفيات الأطفال التي تسجل في البلاد سنوياً.

وما يزيد من المشكلة أن محطات الإسالة تفتقر إلى إجراء اختبارات جرثومية على المياه لتحليل بكتيريا القولون والمسبحيات البرازية، وأحيانا تتوقف منظومة الكلور عن العمل (تصفية دون تعقيم) ما يعني وصول مياه ملوثة إلى منازل المواطنين.

مياه الشرب تلك كانت سبباً في اصابة مرتضى عدنان ذو الأربعة عشر ربيعاً بمرض الكوليرا والتي أدخلته مستشفى الحسين التعليمي وسط الناصرية مطلع تموز 2022

ولم يكن مرتضى المصاب الوحيد، بل شهدت قرى وأزقة الناصرية اصابات متعددة وصلت لذات المستشفى، وفقاً لوالده الذي يقول بأن “اعراض اصابة مرتضى تمثلت بإسهال شديد وقي غير مسيطر عليه”، موضحاً بأن “الاصابات ستستمر في الظهور في صفوف الأهالي مالم تسارع الحكومة بإنقاذهم من واقعهم المأساوي“.

مدير الموارد المائية في ذي قار، غزوان عبد الأمير، يتهم دوائر المجاري والبلدية في الناصرية بالتسبب بارتفاع معدلات تلوث المياه في أحواض الأنهر. وقال لتبرئة دائرته من المسؤولية “مهامنا تنحصر في توفير المياه الخام لمحطات تصفية مياه الشرب، بينما تتحمل دائرة الماء التابعة إلى وزارة الاعمار والإسكان والبلديات العامة، مسؤولية تصفية او تلوث المياه من عدمه“. 

وبشأن الفحوصات المخبرية الدورية التي يفترض أن تجرى على مياه الأنهر والمحطات، يوضح عبد الأمير، أن “دائرة الصحة في المحافظة معنية بفحص المياه بعد تصفيتها في المحطات، فيما تتولى دائرة البيئة مهام فحص مياه الأنهر الخام“.

وعاد ليتهم دائرة البلدية بإلقاء النفايات السائلة والثقيلة في الأنهار، فضلاً عن قيام المصانع والمطاعم بالقاء ملوثاتها في السواقي المفتوحة والمجاري التي تنتهي في مجريي نهري الغراف والفرات.

لمرات عدة، أقامت دائرة الموارد المائية في الناصرية، وفقًا لمديرها، دعاوى ضد دوائر حكومية لتجاوزاتها في حوضي النهرين، لكنها لم تكسب تلك الدعاوى بسبب اتجاه القضاء وتكييفه لتلك التجاوزات بأنها “دفع الضرر الأكبر بالضرر الأقل” أي أن التخلص منها في الأنهر أفضل من بقائها في المدن، ليبقى الحال على ما هو عليه دون معالجة لمياه الصرف الصحي، التي يصفها عبد الأمير بالخطيرة وتسببت بتلوث كامل لمياه نهر الفرات.

ويرى بأن الحل الأفضل لكبح جماح تلوث المياه هو تغيير مجرى مياه الصرف الصحي باتجاه المبازل الموجودة في أنحاء متفرقة من المحافظة ومن ثم معالجتها قبل ضخها مجددا في الأنهر.

ويوضح: “الكميات الكبيرة من الملوثات أفقدت الفرات قدرته الطبيعية على تنقية نفسه خصوصا خلال السنة الحالية 2022 التي شهدت انخفاض مناسيب المياه بشكل كبير بسبب الجفاف الذي تعانيه المنطقة“.

بدوره يؤكد مستشار وزير الموارد المائية، عون ذياب بأن تلوث المياه في ذي قار والمحافظات الجنوبية الأخرى يعود الى “توجيه مياه الصرف الصحي باتجاه الأنهر بدون معالجة بالإضافة الى انخفاض مناسيب المياه بسبب قلة الإطلاقات المائية الواردة من دول المنبع تركيا وإيران، وسوريا“.

ويلفت إلى أن مصادر تلويث الأنهار متنوعة ما بين مياه الصرف الصحي، النفايات الصحية ونفايات المستشفيات، المواد النفطية، الفضلات الصناعية، مخلفات ومواد القطاع الزراعي والفضلات السائلة والصلبة البديلة المختلفة التي ترمى مباشرة في الأنهر “وكلما اقتربنا من المدن، كلما زاد التلوث أكثر وقد يصل إلى 80%”.

ويصف ذياب التعامل مع ملف البيئة والمياه في العراق بـ”المتخلف” ويحذر الحكومة من كارثة “بيئية وصحية” في ذي قار، ما لم يتم إيجاد حلول لمشكلة مياه الصرف الصحي، ويقول “الأملاح في الأنهر تتحول إلى مركبات أكثر سمية، عندما تختلط مع ملوثات الصرف الصحي“.

هذه الملوثات تشكل خطرا كبيرا على حياة السكان، فتلك المياه تستخدم في الزراعة، واحيانا للشرب دون تنقية جيدة، كما ان عشرات الآلاف يسبحون في تلك الأنهر صيفا، وبالتالي تتلقى أجسادهم تلك الملوثات الخطرة”، يقول دكتور الصحة العامة في وزارة الصحة العراقية علي أبو الطحين.

وتكشف التقارير التي صدرت عن وزارة الصحة والبيئة العراقية قبل ثلاث سنوات، عن أن 50% من مشكلات التلوث في نهري دجلة والفرات هي بسبب مياه المجاري ومخلفات الدوائر الحكومية والمصانع والمنشآت والمستشفيات التي تلقي مخلفاتها في مجرى النهرين.

ولم تقدم الوزارة احصائيات أحدث، لكن معظم من تم التواصل معهم لتزويدنا بأرقام جديدة، ذكروا بأن الحال لم يتحسن، فما تزال شكاوى تلوث مياه الشرب تتواصل في ذي قار والعديد من المحافظات الجنوبية.

ومع الانعكاسات السلبية لشحة المياه التي تعاني منها البلاد، بسبب السياسة المائية لدول الجوار كإيران وتركيا التي قطعت او قللت وارداتها المائية للعراق، تقدر وزارة الموارد المائية العراقية أن العراق سيواجه نقصاً بحوالي 10.5 مليارات متر مكعب من المياه بحلول 2035، وهو ما سيزيد من نسب تلوث مياه الشرب بحسب المتخصصين.

فلاتر قديمة ومشاريع متلكئة

كل (1 متر مكعب) من مياه الصرف الصحي والصناعي والفضلات يلوث ( 40-50 متر مكعب) من المياه الطبيعية الواردة عبر الأنهر الرئيسية، حقيقة لا يتجاهلها مدير بيئة ذي قار، كريم هاني، الذي يؤكد “اتساع مناطق التلوث ووصولها لجميع أنحاء الناصرية“.

وكما حدث مع دائرة الموارد المائية، فان مجموعة الدعاوى التي حركتها دائرة بيئة ذي قار، لم تفضِ إلى أحكام بحق تجاوزات جهات من القطاعين العام والخاص تتسبب بتلوث نهري الغراف والفرات.

ويذكر هاني بأن 23 محطة لتصريف مياه الأمطار والصرف الصحي، تعود لدائرتي المجاري والبلدية، تلقى بمخلفاتها في نهري الغراف والفرات بالإضافة إلى المصب العام والأهوار الجنوبية في المحافظة، ويقول بأسف: “لقد باتت مكباتٍ كبيرة للنفايات والسموم“. 

ملف تلوث مياه الشرب دفع النائبة عن محافظة ذي قار، نيسان الصالحي، إلى مطالبة الحكومتين المحلية والمركزية بفتح تحقيق ومقاضاة المؤسسات الحكومية والأهلية المتسببة بتلوث المصادر التي تزود الناصرية بالمياه الخام.

وقالت إن “صب مياه المجاري الملوثة في نهر الغراف الذي يعد المصدر الرئيس لمياه الشرب في عشرين وحدة إدارية بالمحافظة ينذر بكارثة حقيقة، تستدعي وقفة حكومية عاجلة”. وتشدد الصالحي على ضرورة إصدار قرارات حازمة لمنع التخلص من مياه الصرف الصحي قبل معالجتها.

وترجع النائبة وفق متابعاتها، سبب تلوث مياه الإسالة التي تصل الى البيوت، الى “التكسرات في شبكة الأنابيب الناقلة وتهالك محطات التنقية وعدم إبدال (فلاتر) التصفية“.

وتقول ان “الفلاتر الموجودة في المحطات قديمة، تعود إلى سنتين ماضيتين، في حين يفترض استبدالها كل 6 أشهر، كما أن محطات المياه تفتقر لمادتي الشب والكلور“.

لمواجهة تداعيات ارتفاع نسب التلوث تطالب الصالحي، بتنفيذ مشاريع مياه جديدة ذات كفاءة عالية لمعالجة الخلل الحالي وتغطية الزيادة المطردة في الاستهلاك نتيجة النمو السكاني، مشيرة الى تلكؤ مزمن في مشاريع المياه “مشروع الإصلاح الكبير الذي يغذي الوحدة الإدارية الأولى والرابعة في المحافظة ما يزال معطلاً على الرغم من اكماله واستلامه من قبل الحكومة المحلية، بالإضافة إلى مشروع ماء الناصرية الذي يفترض أن يوفر الماء لنحو 800 ألف نسمة من أهالي أقضية الناصرية وسوق الشيوخ والشطرة والبطحاء“.

تهديد الحياة في الأهوار

لا تنحصر آثار التلوث على السكان في المدن والقرى، بل بات يهدد الحياة الطبيعية في الاهوار، وهو ما ينبه اليه المسؤولون في منظمة “طبيعة العراق” التي تعنى بشؤون البيئة.

ويرصد مدير المنظمة جاسم الأسدي، على طول الأنهر والجداول المرتبطة بأهوار (الجبايش والفهود والوسطى والحمار الغربي) مؤشرات متقدمة للتلوث المائي، وشيوع إصابة السكان بالأمراض المعوية وقطعان الجاموس بمرض الحمى القلاعية ونفوقها جراء ذلك فضلاً عن نفوق الأسماك.

هذا كله نتيجة ضخ فضلات مياه الصرف الصحي من عشرات المحطات” يقول الأسدي باستياء. ويحذر من تكرر مشهد إصابة الآلاف بالاسهال الشديد والتيفوئيد في البصرة ووقوع وفيات بسببهما.

ويعود للتأكيد “كميات الملوثات التي تلقى في الأنهر هائلة وتكاد تكون ثابتة، لا تتناسب مع حجم الاطلاقات المائية العذبة، وهو ما يخالف تعليمات قانون حماية وتحسين البيئة في الفرات الاوسط رقم 27 لسنة 2009“.

ولا يرى الأسدي أي حل سريع ممكن غير تحرك الحكومة العراقية للضغط على دول المنبع لإطلاق كميات كبيرة من المياه لإزاحة كميات أكبر من المواد السامة من الأنهر.

وتسجل منظمات ومراكز بحثية هجرة سكان الأهوار باتجاه مراكز المدن بحثاً عن المياه الصالحة للشرب، وهنا يؤشر الأسدي ان مشكلتهم لن تحل بالنزوح الى المدن، نتيجة تعرض مياه الأنهر إلى تلوث بيولوجي وانتشار بكتيريا القولون المتحررة من الفضلات البشرية “وهي خطرة جداً“.

ويتابع: “كذلك البكتيريا العنقودية والسبحية، فضلا عن المواد السمية الناتجة عن مياه الصرف الصحي، والتلوث الملحي الذي يقارب الـ7 الاف جزء بالبليون، وهي كارثة تهدد المواطنين والتنوع الاحيائي بالناصرية“.

ومما يزيد المخاطر: “اضطرار بعض سكان القرى والأرياف إلى استخدام مياه النهر بنحو مباشر للشرب دون معالجتها لعدم توفر محطات تحلية في مناطقهم“.

اتهامات متبادلة

في حي الفداء، المنطقة الواقعة وسط الناصرية، فوجئ أبو عمار في شهر تموز 2022 وهو رب لأسرة تتكون من خمسة أطفال بإصابة طفلين من عائلته بالتهاب الكبد الفايروسي نوع a والتيفوئيد، بسبب تلوث مياه الشرب الواصلة اليه عبر شبكات الاسالة. ليدخل معها في دوامة علاجهما وما تتطلبه من مصاريف.

خلال شهري نيسان وأيار 2022، أجرت مختبرات الصحة العامة، فحوصاً مخبرية لعينات أخذت من 358 محطة ومجمعا مائيا في ذي قار، وأظهرت النتائج فشل العينات وتلوثها جرثوميا وكيميائيا باستثناء 4 محطات فقط.

يقول مدير قسم الصحة العامة في دائرة صحة ذي قار الدكتور حسين رياض ان “العينات أخذت من أطراف محطات المياه ومراكز الضخ الرئيسية وأظهرت نسب تلوث عالية وأن المياه غير صالحة للاستهلاك البشري“.

ويضيف: “دائرة صحة ذي قار تحصل عبر مراكزها الصحية المنتشرة في 14 قطاعاً، على عينات الماء من أطراف ومراكز الضخ الرئيسية وترسلها الى مختبر الصحة العامة بنحو يومي وتجمع الفحوصات وتعلن نتائج العينات“.

ويدافع الدكتور رياض عن دقة الفحوصات التي يجريها قسمه ويدعو دائرة ماء ذي قار إلى معالجة “الخلل الموجود قبل وقوع الكارثة”، مشيرا الى ان قانون الصحة العامة رقم 89 يؤكد مسؤولية وزارة الصحة ودوائرها على مراقبة نوعية مياه الشرب المجهزة للمواطنين.

وللتأكيد على وجود خلل، ذَكْر بإعلان دائرة ماء ذي قار في العام 2019 عن عدم امتلاكها كميات كافية من مادة الكلور في محطات التصفية والشبكات الخاصة بها في عموم المحافظة.”ولهذا تنتشر الأمراض المعوية، وتسجل المحافظة إصابات بمرض الكوليرا، ونضطر معها لاتخاذ إجراءات وقائية خاصة مع استمرار فشل منظومة مياه الشرب“.

مديرية ماء ذي قار التابعة لوزارة الإعمار والبلديات العامة، وهي الجهة المدانة وفقاً لنتائج الفحوصات المخبرية لدائرة الصحة، تقول عبر مديرها باسم جار الله، بأن المختبرات الخاصة بها لم تجد تلوثاً في الفحوصات التي تجريها على عينات من ذات المصادر التي اخذت منها صحة ذي قار عيناتها.

ويقر جار الله بوجود نسب من التلوث (لم يحددها على وجه الدقة) عازياً ذلك إلى تقادم المحطات التي قال بان أعمار البعض منها تزيد عن 50 عاماً. “وعلى أية حال فان تراكيز الكلور والشب التي تستخدم فيها، هي ضمن مواصفات ومحددات معتمدة من قبل وزارة الإعمار والاسكان والبلديات العامة” يقول جار الله بثقة.

لكن قائممقام قضاء الفهود جنوبي ذي قار زكي حسون، يرد على تصريحات مديرية الماء بالقول، إن “المياه المنتجة في محطات المحافظة اثبتت فشلها مخبرياً، وهي غير صالحة للاستهلاك إذ يسجل قضاء الفهود وحده ما بين 40-50 حالة تسمم يومياً بسبب المياه“.

وطالب بضخ اطلاقات مائية عبر “نهر دجلة على اعتبار أن مياه نهر الفرات مالحة وملوثة ولن تحل المشكلة في القضاء الذي يشهد ازمة تلوث مياه كبيرة منذ أشهر” وفقاً لكلامه.

فحوصات مخبرية

شكلت محافظة ذي قار مطلع شهر نيسان/أبريل 2022، لجنة مشتركة من دوائر الصحة والبيئة والماء، مهمتها تحديد صلاحية مياه المحطات للاستخدام البشري من عدمه.

معد التحقيق حاول وعلى مدى شهرين متتاليين الحصول على نتائج فحص العينات التي أجرتها تلك اللجنة لكن دون جدوى، وذلك لتكتم أعضائها عليها وإبعادها عن الإعلام. إلا أن مصادر رفيعة المستوى في ديوان محافظة ذي قار، زودته بها وكانت بالنحو التالي:

مياه نهري الغراف والفرات الواردة إلى محطات تنقية وتصفية المياه في ذي قار غير صالحة للشرب لكونها ملوثة، والمياه المنتجة في 30 محطة ومجمع مائي في عموم مناطق المحافظة غير صالحة للاستهلاك البشري، وهي من أصل 45 مجمعاً مائياً، وفق فحوصات شهر نيسان 2022. أما في شهر أيار  فقد أظهرت النتائج فشل عينات 17 مجمعاً مائياً في الفحص الجرثومي من أصل 26 مجمعاً. وفي شهر حزيران كانت نتائج العينات لـ35 محطة عدم صلاحية 21 منها بسبب ارتفاع نسب التلوث الجرثومي“.

وتجاوزت نسب بكتريا القولون البرازية (E.coli) وبكتريا القولون المعوية الـ(Coliform) في العينات المفحوصة من مياه الشرب الـ90 مستعمرة لكل 1 مل، بينما تنص المواصفات المعتمدة على أن تكون صفر ملغم/لتر  وفق المواصفات القياسية رقم 417 لسنة 2009 للجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية.

كما أن نتائج العد البكتيري T.P.C، لمياه الشرب في المحطات المفحوصة قد تجاوزت الـ295 خلية/ مل خلافًا للنسب المسموح بها، فضلاً عن خلوها بنحو تام من مادة الكلور بينما تنص المواصفات على ألا تقل نسبة الكلور عن 5-2 ملغم/ لتر داخل المشروع و 0.3 ملغم/لتر عند أبعد نقطة في الشبكة، وهو الحد الأدنى الواجب توفره للوقاية من الأمراض الانتقالية عن طريق المياه، وبلغت نسبة العكورة في المحطات المفحوصة أكثر من 130 NTU.

وأظهرت النتائج التي اجراها الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط، فشل 1790 نموذجاً من أصل 2306، وتجاوزت نسبة الفشل 77.6 وفق الفحوصات البكتريولوجية، ما يعني أن 77.6 من المياه المنتجة من محطات انتاج المياه في المحافظة والتي تقدر بـ656,985م3/ في اليوم، فاشلة ولا تصلح للاستهلاك البشري، وهي النسبة الأعلى من بين جميع المحافظات العراقية الأخرى.

وتشير وثائق فحوصات وزارة التخطيط إلى أن العينات المفحوصة فشلت في الفحص الجرثومي الذي يحدد صلاحية المياه من الناحية الصحية، وفحص الكلورين الذي يحدد تواجد المادة المعقمة والضرورية لحماية المياه من الملوثات الجرثومية، وفحص العكورة الذي يحدد سلامة التعقيم ومدى كفاءته.

وهذا ما أكده مصدر طبي في دائرة صحة ذي قار، بالقول ان “التحاليل المخبرية أثبتت عدم صلاحية المياه للشرب ولطهي الطعام ولا في استخدامها في أفران الخبز والصمون، وأن نسبة التلوث تجاوزت الـ80% موزعة ما بين التلوث البكتريولوجي، والكيميائي والفيزيائي“.

إلى ذلك أظهرت وثائق حصل عليها معد التحقيق صادرة عن ديوان الرقابة المالية في العام 2019، تؤكد عدم صلاحية مياه الشرب المنتجة في معظم المشاريع والمحطات والمجمعات المائية في ذي قار.

وأن الفحوصات التي أجريت أثبتت فشل 831 نموذجاً من أصل 1022، وفيما يخص نتائج فحوصات النماذج التي أخذت من مياه الاسالة اثبتت فشل 2366 من أصل 2945 نموذجاً.

إصابات متنوعة

مدير قسم الوبائيات في دائرة صحة ذي قار، حيدر حنتوش ينبه الى ان التلوث في المياه يعني ان المواطن عرضة للإصابة “بالاسهال الشديد والكوليرا وارتفاع نسب الإصابة بالتهاب الكبد الفيروسي والحمى التيفية“.

ويصف حنتوش المياه الواصلة إلى منازل المواطنين بأنها “مياه خام” وكأنها منقولة من النهر مباشرة، في اشارة الى فشل عمليات التصفية “الأمر الذي أجبر المواطنين إلى اعتماد المياه المعقمة بأجهزة الـRO، وهي أيضا غير آمنة على اعتبارها سهلة التلوث وتنقل إلى المنازل بواسطة عاملين غير مختصين وغير مرخصين رسمياً بالتالي يشكلون وسائط ملوثة“.

وينصح حنتوش الأهالي باستخدام أقراص مادة الكلور أو غلي المياه لتعقيمها قبل استخدامها للشرب وطهي الطعام، ودعا المتمكنين مادياً إلى الاعتماد على المياه المعقمة والمعبأة التي تباع في الأسواق“.

الخشية من اصابة أفراد عائلتها بمشاكل صحية بسبب تلوث مياه الشرب، دفع الموظفة الحكومية “أم علي” للاعتماد كليا على شراء المياه من محطات “التناضح العكسي” والمعروفة باسم RO والتي تنتجها في الغالب شركات أهلية وتباع للمستهلكين. تقول “لم أجد بديلا افضل رغم اننا لا نثق بها تماما“.

عدم توفير مياه صالحة للاستهلاك وعدم قدرة آلاف العوائل على شراء المياه المعقمة، يجعل المستشفيات تمتليء بالمصابين، وفق ما يكشفه مصدر طبي مسؤول في دائرة صحة ذي قار، ناقلا أرقام يصفها بالصادمة للإصابات التي سجلتها مستشفيات المحافظة في النصف الأول من 2022 بسبب تلوث المياه.

ويعدد: “15000 حالة إصابة بالإسهال المائي والمزمن، وكذلك 860 إصابة بمرض التيفوئيد، و70 إصابة بالتهاب الكبد الفيروسي، و11 إصابة بالكوليرا“.

ويشير المصدر الى أن 80-90% من الإصابات نجمت عن شرب مياه (الإسالة) المنتجة في محطات تصفية المياه بالناصرية.

تلك النتائج كانت أقل من التي اطلع عليها معد التحقيق والواردة في تقرير للجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط لسنة 2020، إذ سجلت 401 إصابة بالتهاب الكبد الفيروسي و7 حالات وفاة، كما سُجلت 33010 إصابة بالإسهال للفئة العمرية أقل من 5 سنوات، بينها 10 حالات وفيات.

هل مياه RO تشكل حل؟

منذ سنوات تعودت عائلة أبو حيدر المؤلفة من ثمانية اشخاص، على استخدام مياه RO الأهلية. يقول حيدر الذي بلغ الثامنة عشرة من عمره “لا اذكر منذ متى نشتري هذه المياه للشرب والطهي بدلاً عن مياه الإسالة، يقول والدي انهم اضطروا لذلك منذ سقوط النظام العراقي السابق في 2003“.

ويبلغ سعر العبوة البلاستيكية من سعة 20 لتراً 500 ديناراً (نحو 34 سنتاً) وهو مبلغ قد لا يتوفر للكثير من العوائل محدودة الدخل التي تضم عدد كبير من الأفراد وتستهلك يوميا عدة عبوات، وهو ما يحملها ما بين 20-30 الف دينار اضافي شهريا.

لكن هذه المياه أيضا قد لا تكون آمنة تماما، فالمحطات الأهلية التي تنتجها تعمل بعضها “بدون موافقات حكومية رسمية وبمعدات بدائية تفتقر إلى المواصفات الصحية والبيئية المطلوبة، وعمالها يفتقرون إلى أدنى شروط السلامة الصحية”، بحسب مدير قسم الوبائيات في دائرة صحة ذي قار.

ويعتمد غالبية أهالي الناصرية على مياه RO أسوة بسكان محافظتي البصرة والمثنى، إذ يبلغ مجموع المحطات الحكومية التي تنتج مياه الـRO 78 محطة، فيما توجد مئات المحطات الأهلية أيضا والتي غالبيتها تعمل بطريقة غير رسمية وخلافا لضوابط دائرة المياه.

يقول علي اسماعيل، وهو خريج جامعي يقع منزله قرب مصب للمياه الآسنة في الناصرية “هذه كارثة مستمرة، لا تتوقف عن الفتك بنا، الأمر لا يتعلق بالاسهال الشديد والتيفوئيد بل بالسرطات القاتلة التي ترتفع الاصابات بها جراء السموم التي تحيطنا. نحن نعيش ونموت ببطء وسط هذه البيئة القاتلة ولا احد يكترث“.

 

إقرأ أيضا