مواطنو القيارة محاصرون بدخان آبار النفط.. شركة تنكث التزاماتها وحكومة عاجزة

حدث الأمر بسرعة، كان أفراد العائلة منخرطين في حديث مسائي عندما انهار أصغر الأبناء أحمد…

حدث الأمر بسرعة، كان أفراد العائلة منخرطين في حديث مسائي عندما انهار أصغر الأبناء أحمد (20 سنة) على أرضية الغرفة ويدهُ على صدره، تلوى قليلاً ثم ندت عنه حشرجة قبل أن يلفظ أنفاسهُ الأخير.

يستحضر الوالد هذه الذكرى الأليمة وهو ينظر إلى عمود دخان يرتفع من حقل النفط القريب من قريته (زهيليلة) التابعة لقضاء القيارة جنوبي مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد).

“أشتكى من ضيق في التنفس قبلها بأيام، لكننا لم نلق بالاً للأمر، فلم يكن في حسباننا أن شاباً مثله يمكن أن يصاب بنوبة قلبية”.

يشير الأب المكلوم ناحية حقول النفط مبدياً قناعته بأن ولده راح ضحية التلوث الذي تحدثه تلك الحقول التي تغطي بدخانها صباح مساء سماء القرية “ليس ابني الوحيد الذي مات بسبب ذلك، بل عشراتٌ غيره ولا تفعل الدولة شيئاً لنجدتنا”.

زهيليلة قرية كبيرة تقطنها نحو ألف عائلة وهي كما غيرها من القرى المتناثرة بالقرب من حقول نفط القيارة، تغطيها معظم الأحيان سحب هائلة من غازات منبعثة من الآبار التي لا تبعد سوى بضعة مئات من الأمتار فقط.

تتسبب تلك الغازات حسب السكان بمشاكل صحية عديدة تبدأ بموجات السعال والإختناقات البسيطة وتصل الى النوبات القلبية المفاجئة وحالات الإصابة بالسرطان.

يقول الناشط المدني المهتم بالبيئة والصحة العامة سعد الجبوري، أن ثمانية حالات موت مفاجئة لأشخاص لم يكونوا يعانون من أية مشاكل صحية وقعت في القرية منذ أن باشرت حقول النفط عملها في 2019. وذات الأمر حدث في القرى الأخرى، لكنه لا يملك أرقاما بالإصابات فيها “الأمر لا صلة له بجائحة كورونا، بل لا شك انه تلوث البيئة جراء السموم الغازية التي تبثها حقول النفط”.

وقعت وزارة النفط العراقية سنة 2010 عقدا لأستثمار حقلي نجمة والقيارة مع شركة “سون أنغول” الأنغولية. الحقلان يضمان خمسين بئراً وينتجان 40 ألف برميل في اليوم الواحد من الخام الثقيل قليل الجودة قياساً بما تنتجه الحقول العراقية الأخرى في البصرة أو كركوك.

المكان يضم أيضاً مصفى القيارة، وهو أقدم مصفى في العراق، أنشأته وافتتحته شركة النفط الانكليزية سنة 1950. ويقدر نشوان نوري مدير الاستكشافات النفطية في وزارة النفط ما تضمه آبار النفط في القيارة بنحو 2 مليار برميل نفط خام، و185 مليار قدم مكعب من الغاز المصاحب، و3 مليار قدم مكعب من الغاز الحر.   

وبحسب الناشط سعد، فان العاملين في شركة سون أنغول لم يبقوا في المكان بعد ابرام العقد سوى فترة قليلة بسبب الهجمات المنظمة التي كان عناصر تنظيم داعش يشنونها بقنابر الهاون على آبار الحقلين وتسببت بإحراق بعضها، وكانت “الحرائق تستمر أشهراً وهي تنشر سمومها لعدم امتلاك الإمكانيات الفنية لإخمادها”.

وتوقف الحقلان عن الإنتاج طوال سيطرة تنظيم داعش على الموصل، مركز محافظة نينوى، والتي امتدت من 2014 لغاية 2017، وأقدم التنظيم منتصف العام 2016على إحراق 34 بئراً لدى تقدم القوات العراقية لتحرير المحافظة، وأدى ذلك، وفقاً لموظفي دائرة البيئة، الى الحاق أضرار جسيمة بالتربة والثروة الحيوانية وبصحة أبناء تلك المناطق.

تنصل عن الوعود

“الضرر مستمر” يقول أبو محمد (46 سنة) وبيده حزمة أوراق فيها إمضاءات وبصمات يد العشرات من مواطني القيارة المتضامنين معه في شكوى قضائية يستعد لرفعها ضد شركة سون أنغول “لعدم تنفيذها التزاماتها تجاه أهالي المنطقة وتخلفها عن خلق توازن” بين ما يسببه استخراج النفط من حقلي النجمة والقيارة من ملوثات وتنفيذ مشاريع تشجير وبناء مراكز صحية ومستشفيات كما هو مفترض.

“كانت هذه وعود قطعت لنا وتعهدات تقدمت بها الشركة قبيل مباشرتها باستخراج النفط” يواصل أبو محمد الذي لم يتجاوز بعد عقده الرابع ومع ذلك يبدو بدشداشة البيضاء والغترة والعقال الذي يحرص على ارتدائه كباقي رجال المنطقة، أكبر عمراً لاسيما مع خطوط الشيب الظاهرة في لحيته وشاربيه الكثين.

يمد حزمة الأوراق مع القلم لجاره، يشير بإصبعه الى المكان الذي يتعين عليه كتابة أسمه مع توقيعه، ثم يتابع وهو يعدد مستخدماً أصابعه: “أولاً قالوا بأنهم سيوظفون ابناءنا في المشروع بنسبة 50% من فرص التوظيف في الشركة كتعويض لأهالي المنطقة، وثانياً أنهم سيستثمرون أكثر من مليون دولار سنويا في القيارة لمشاريع اجتماعية كبناء مراكز صحية ومتنزهات ومشاريع تشجير وغيرها من المشاريع التي لم تلتزم الشركة بأي واحدة منها إلى الآن. وبدلا من ذلك تخنقنا بملوثات النفط كل يوم”.

ويُجمع مواطنو القيارة، بأن الشركة الأنغولية “سون أنغول” ومنذ بدأ عملها في حقول القيارة النفطية وحقل نجمة لم تراع البروتوكلات التي تمنع الانبعاثات السامة التي تسبب أمراضاً خطرة وتدمر البيئة القريبة.

وكان الأهالي قد تقدموا بشكوى لقاضي محكمة التحقيق في القيارة بتاريخ 23 أيلول/ سبتمبر 2020 ضد الشركة الأنغولية والشركات العراقية المتضامنة معها ومنها شركة أرض العراق، طالبوا فيها بتعيين مواطني القيارة من الخريجين وذوي الدخل المحدود وأبناء الشهداء في حقلي النفط وعدم اقتصار ذلك على أبناء العائلات المتنفذة في الناحية، وفقاً لما ورد في الشكوى التي حصلنا على نسخة منها.

وطالب الأهالي في شكواهم أيضا، بتعويض مادي لكل عائلة في القيارة جراء “إنبعاثات الغازات التي أصبحت مصدراً ينذر بالخطر” وفقاً لما ورد نصاً في الشكوى.

لا علاقة مباشرة بين الوفيات والملوثات

رغم تلك الشكاوي والتضامن الي يبديه الكثير من العاملين في الحقل الصحفي مع مطالب أهالي القيارة بمعالجة التلوث وتحسين بيئة المنطقة وخدماتها، ينفي الطبيب ايثار الطائي وجود علاقة علمية مباشرة بين مرض السرطان والنوبات القلبية وبين ملوثات النفط في القيارة، لكنه لا يستبعد أن تكون الملوثات خصوصا الغازات السامة والكيروسين وغيرهما من المواد التي تخرج من النفط أثناء التكرير “سبباً في تزايد الأمراض بمختلف أشكالها ولاسيما التنفسية”.

مؤخراً بدأ الطبيب إيثار بالتركز على أسئلة معينة يوجهها لمرضاه المصابين بأمراض خبيثة، كمحل السكن، بعد أن لاحظ أن نسبة كبيرة من المصابين يعيشون في مناطق تتأثر بانبعاثات الحقول القريبة منها أو الموجودة فيها. لكنه يشدد على أن الأمر يستلزم دراسة شاملة لتقييم الأمر تتولاها جهات بحثية للتوصل الى حقائق علمية وتدارك أجهزة الدولة الأضرار قدر المستطاع.

لكن ناشطين مدنيين، يؤكدون تزايد معدل الإصابة بمرض السرطان في القيارة سنة بعد أخرى وباتت تسجل من 7 إلى 8 حالات شهريا وأحيانا أكثر من هذا العدد وهو رقم كبير بالنسبة لبلدة يسكنها قرابة 80 ألف نسمة.

لا تعلق مديرية صحة نينوى على ذلك، وردها المتكرر بشأن الحديث عن ارتفاع معدلات الإصابات السرطانية في نينوى بنحو عام “أن اعداد الاصابات متوافق مع النسبة السكانية” دون تفاصيل إضافية.

لا تنتظر “أم سعد” أبحاث المتخصصين لتعرف من تسبب لأبنها البكر سعد (27 سنة) بسرطان الرئة، فهي واثقة من أن غازات الحقول النفطية السامة هي التي أصابت أبنها، لكن “لاشيء بوسعي فعله، وحتى الرحيل عن القيارة قد فات أوانه” تقول وهي تنظر في صورة ابنها.

ولتهالك البنية التحتية الصحية في مدينة الموصل بسبب حرب تحريرها من داعش بين 2016-2017 وتدمير مستشفياتها ومراكزها الصحية تضطر أم سعد لمرافقة ولدها قاطعين مسافة 400 كيلومتر إلى العاصمة بغداد، مرة واحدة كل شهر ليتلقى الجرع الكيماوية الضرورية لمقاومة المرض.

تمتلئ عيناها بالدموع ونبرتها باليأس “ابني لم يكن يعاني من أي شيء. الطبيب في بغداد قال بأن التلوث هو السبب. ونحن ليس بيدنا حيلة تجاه هذا الموت”.

تلفت أم سعد إلى أنها تعرف مرضى آخرين مثل أبنها في عدة قرى تابعة للقيارة لكن عائلاتهم فقيرة لاتملك حتى ما يغطي نفقات السفر الى بغداد أو البصرة أو أربيل حتى توجد مستشفيات لعلاج مرضى السرطان. وتقول بأسف “هم يموتون بصمت”.

لم يتسن لنا التواصل مع أي من موظفي الشركة الأنغولية، كما لم ترد وزارة النفط على إستفساراتنا، واكتفت مديرية صحة نينوى من خلال تواصلنا مع إداري فيها بنفي ما وصفه بشائعات تتحدث عن ارتفاع معدلات السرطان في نينوى بنحو عام، وقال بأن أعداد الإصابات المسجلة تتوافق مع النسبة السكانية، دون منحنا أية أرقام.

وعمليا يصعب تحديد اعداد ومعدلات الاصابة بالسرطان في نينوى، لغياب مراكز متخصصة للعلاج في المحافظة، ولجوء غالبية المصابين الى العلاج في بغداد واربيل مباشرة دون المرور بمستشفيات الموصل التي تفتقد للأجهزة والعلاجات كما للأطباء المتخصصين.

 

هدر وتلوث

قرب رابية محيطة بأحد الآبار شرقي حقل القيارة لف جدعان أبو علي وجهه بطرف غطاء رأسه، ثم قال مازحاً “هذا ليس بسبب كورونا، بل لأن الهواء ملوث هنا”. ثم تابع وهو يشير إلى الآبار “أغلب العاملين ولاسيما في مصفى القيارة يعانون من أمراض تنفسية، وأنا واحد منهم، لدي ربو مزمن، وهذا أهون ضرر لأنني سمعت بأمراض أسوء بكثير أصيب بها بعض أبناء المنطقة جراء الملوثات النفطية”.   

يسكن جدعان في قرية البو عيثة، كبرى قرى القيارة، ويقول بأن رائحة زيت الغاز تكون مرصودة بنحو أكبر خلال ساعات الليل، ويضيف “بدلا من استخدامه في توليد الطاقة أو ضخه داخل الأرض مجددا يحرق في الهواء ليتحول إلى سموم قاتلة”.

وتهدر حقول النفط في القيارة كميات من الغاز المصاحب وهذا أمرٌ شائع في مختلف حقول النفط في عموم البلاد، إذ يعد العراق من أكثر البلدان الحارقة للغاز المصاحب، وهنالك 17 مليار متر مكعب من الغاز تحرق سنوياً، وفقاً لآخر إحصاءات البنك الدولي.

وينتج عن تكرير النفط في القيارة مخلفات غازية وملوثات حذرت منها دائرة البيئة في نينوى في دراسة أعدتها قبل نحو سنتين أشارت فيها إلى أن “المخلفات الغازية الهيدروكاربونية الناتجة من العملية الإنتاجية والتي تبلغ أكثر من 5% بالمئة في مصفى واحد فقط، لها تأثير مباشر على البيئة سواء كانت قريبة أو بعيدة من موقع المصفى وقد تسبب أضرارا جسيمة بالإنسان والنبات والمعدات بالمصفى خصوصا القرى القريبة منها إلى جانب المخلفات السائلة”.

أما التوصيات التي خرجت بها الدراسة فقد ركزت على جوانب ثلاثة نظرا لطبيعة المنطقة ووجود الحقول النفطية فيها، تمثلت في إخراج أو إنشاء معامل التكرير خارج حدود التصميم الأساس للمدن والاقضية والنواحي وفق التشريعات والمحددات البيئية، وإبعادها عن المصدر المائي مثل الأنهار والبحيرات والآبار الجوفية، وإنشاء مساحات خضراء داخل هذه المعامل وخارجها للتخلص من غاز ثاني أوكسيد الكاربون الزائد.

 

متنفذون يغطون على تجاوزات الشركة

ولم تكتفِ شركة سون أنغول الأنغولية بعدم الإيفاء بإلتزماتها تجاه سكان ناحية القيارة لتقليل حجم ما تسببه لهم من أضرار صحية وبيئية بل عمدت الى الاستيلاء على أراض زراعية محيطة بالحقلين استخدمتها في تشييد خندق.

مدير ناحية القيارة صالح الجبوري يعلق على ذلك:”إضافة الى تقصير الشركة الأنغولية في تدارك تداعيات الانبعاثات الملوثة بمشاريع تنموية وخدمية للناحية، بدأت مؤخرا باقتطاع مساحات واسعة من الأراضي الزراعية دون تعويض الأهالي، وإذا أراد المزارعون استحصال حقوقهم أو تعويض خسارتهم عليهم أن يذهبوا الى المحكمة المختصة بقضايا شركة نفط الشمال في كركوك وهذا أمر يصعب على فلاح بسيط فاستسلم لإرادة الشركة”.

وعن الإجراءات الحكومية فيما يخص تعسف شركة سون أنغول يقول الجبوري:“الشركة تعمل بغطاء متنفذين في الحكومة تجمعها مصالح مشتركة. لهذا نجد ان التبعات القانونية ليست بحسبان الشركة”. ولم يشر مدير الناحية إلى أسماء أو العناوين الوظيفية لمن وصفهم بالمتنفذين.

ويستعرض الحقوقي بسام الطائي أبرز ما ينص عليه قانون حماية وتحسين البيئة العراقي لسنة 2009 من خلال تعريفه للكارثة البيئية وتضمين مواد منه عقوبات عدة توقع على المتسبب بالضرر البيئي تتمثل بالحبس والغرامة المالية وتعويض المتضررين والعقوبة التي قد تصل الى حد الإعدام في حال موت مواطن. لكن كل ذلك يظل حبرا على ورق ما لم تكن هناك قوة تعمل على محاسبة المتجاوزين وتحرص على تطبيق القانون على الجميع.

أما الناشط البيئي مصعب سرمد، فيرى أن ” التلوث الذي تعيشه نينوى بعد حرب تحريرها من داعش سنة 2017 يحتاج الى تدخل على المستوى الوطني للحد من انتهاك حق الناس في العيش في بيئة سليمة وهذا يشمل عموم المحافظة وليس ناحية القيارة فقط”.

وبالنسبة للأخيرة فهو يعتقد بأن وجود حقول نفط ومصفى بالقرب من التجمعات السكنية يشكل مخالفة بيئية كبرى، فلا يمكن ضمان عدم تعرض السكان الذين تنتشر منازلهم على بعد كيلومترين فقط للأضرار بسبب الغازات مهما كانت التعهدات المقدمة.

ويشير إلى أنه يمكن التخفيف من الأضرار نسبياً من خلال “إجراء الصيانة للوحدات الانتاجية بشكل دوري، واستخدام أجهزة تستخلص الكبريت من النفط، مع الزام الشركة المستثمرة بإنشاء غطاء نباتي يحيط المكان بأسره”.

ناجي شهاب حمد من سكان ناحية القيارة، ذكر بأنهُ وقبل مباشرة العمل مجددا في حقلي نجمة والقيارة في 2019، كان ينام صيفاً في سطح منزله، لكن ذلك أصبح ضرباً من الجنون بعد عمل الشركة بسبب الضباب الدخاني الذي قال بأنه يجثم فوق المدينة وقراها.

ويضيف موجها كلامه لدوائر الحكومة المعنية “لا حاجة لدراسات وكشوفات وتشكيل لجان للتأكد مما نقوله، يكفي أن يأتي موظف واحد فقط، ويمرر اصبعه على سطح اي جدار في أي مكان من القيارة، سيجد فوراً أن هناك طبقة من السواد”.

يتابع حمد، بعد أخذ نفسٍ عميق: “تلك السموم تتراكم في صدورنا، نحن نستنشقها ليل نهار، وحتى المياه الواصلة إلى منازلنا تتلوث بالسواد في بعض الأحيان، الأمراض المزمنة تفتك بنا، فمتى تستجيب الحكومة وتنجينا من موتنا البطيء”.

إقرأ أيضا