قلادة الموت: عن رواية جسد الصمت والهذيان

تأهيلُ المعاقين تدريبٌ على الموت، لا على الحياة. هذه الفكرة هي ما يمكن استخلاصه في المحصلة النهائية من رواية «جسد الصمت والهذيان» للكاتب إبراهيم الغالبي. 

الرواية تحكي قصة شاب تصيبه شظية في العمود الفقري، خلال انتفاضة عام 1991، لتبدأ بعدها مسيرة صراعه الداخلي للتأقلم مع وضعه الجديد، بعد أن فقد قدر المشي والإحساس بقدميه. كان يستغرب لوقت طويل كيف أمكنه الاستمرار في الحياة على هذا الحال، في حين عليه رفض هذا الواقع الجديد، بحسب رأيه، وان يفعل شيئاً \”غير الاستسلام الذليل والقبول بحياة بلا أي معنى\”، بعدما أكدوا له مراراً أنه سيبقى على كرسي متحرك طوال حياته. 

تحاول الرواية تسليط الضوء على المناطق المعتمة والمسكوت عنها في حياة شديدي الإعاقة، بما تشهده من نقاشات داخلية أو بين الشخصيات، وتنازع الهواجس والمشاعر القاسية، وأحاسيس اليأس والحرمان والخسارة والضياع. حتى أن الأمر يصل ببطلها، «فلاح» أن يُمني نفسه بسيناريوهات سلسة للموت، لكي يتخلص من هذا الوضع الذي تركه عالقاً بين الموت والحياة. حيث تتحول العجلات والكرسي المتحرك إلى جزء من الجسد، تصل معه إلى حد التماهي. وكثيراً ما تغزوه مشاعر الخيبة والاكتئاب، يترجمها إلى حديث طويل مع النفس. مونولوجات تصوّر شدّة التأثر في نفسه، وإحساسه العميق بالألم، واشمئزازه من قدميه الميتتين، ما يدفع به أحياناً إلى كآبة قاتمة.

ومع ذلك القنوط الذي يحاصره، يحاول التشبث بقشة واهية، ويوافق على الذهاب إلى مستشفى عسكري في بغداد متخصص في حالته، لعله يجد هناك علاجاً ينقذه من موته الطويل هذا. لكنه يكتشف هناك أن لا علاج ينتظره، بل تأهيل فقط. \”التأهيل يعني الالتزام. هذا كل شيء هنا، سلسلة من الأوامر والطقوس العسكرية يجب القيام بها… سيتم تأهيلي بحيث أستطيع الاعتماد على نفسي مستقبلاً\”. في حين أخذ وجوده في المستشفى يغذي في داخله هواجس الفزع من المستقبل، يرى من هم أسوأ حالاً منه، مشاعر الوحدة والغربة والحنين التي تحاصره، والتفكير بالتخلص من الحياة. 

سجالاته مع نفسه، وأسئلته المعتادة لتسفيه واقعه، أخذت بالضمور مع انضمامه لفريق كرة السلّة داخل المستشفى، حتى اكتسب وجهه لوناً متوهجاً من السعادة. ومن ثم تتفتح الأزهار في حياته عندما يتعرف على أمينة مكتبة المستشفى، ويتفقان على الزواج. لكن الهواجس لا تتركه، فيفكر أن الأمر ربما كان خدعة ايجابية بهدف انتشاله مما هو فيه، إلا ان لا شيء يؤكد هذه الأفكار.

يعرض أحياناً خلال الحوارات لحقائق عقلية وعلمية، من شأنها ترويض النفس وتعويدها على تقبل الوضع الجديد، كاللذة الروحية أو النفسية وتعاليها على اللذة المادية، ويأخذ بالبحث والحوار والمساجلة للتأكد من كونها حقيقة وليست وهماً. ومن هذا المنطلق تبرر إحدى شخصيات الرواية فعل انتحار نزيل في المستشفى، بأنه \”لذة أخيرة لروحه\”، وأن \”استقبال الموت طوعاً الشيء الوحيد الذي نفعله مع أجسادنا المحطمة\”، بل يذهب بعيداً في تجسيد أقصى حالات القنوط، بنظرته لهذا الفعل على أنه \”كنس قمامة وإلقائها في مكب النفايات\”.

مع تطور العلاقة بأمينة المكتبة تكتسي الأشياء في نظر فلاح هيأة أخرى، كما لو أنه كان يحلم. يتحول إلى كائن شديد الاستشعار، مثل كتلة إحساس لا تخفى عنها دقائق الأمور. ثم يتم الزواج، ويسكن في شقتها ببغداد. لكن السرور لم يدم طويلاً لأنه سيموت، ربما مسموماً بيد زوجته، لتكتمل قلادة الموت التي بدأت بتطويق عنقه مع إصابته. 

يستعيد بعد موته شريط عمره، لكن ما يمثل أمامه هو سقوط القذائف وإصابته بالشظية، ما يشي بأن موته الحقيقي كان في تلك اللحظة، وربما كان كل ما جرى مجرد أوهام وخيالات. ليصحو على صوت أخيه يطلب منه مرة أخرى الذهاب إلى المستشفى في بغداد، وليدخل القارئ في مفارقة التكرار.

alidawwd@yahoo.com

إقرأ أيضا