رغم مخالفتها الدين والقانون.. لا أحد يوقف “الجلوة” أو نظام العقوبات العشائري السائد (تحقيق)

سبع سنوات وندى (23 سنة) تعيش مع عائلتها “غربة مريرة” في بيت مستأجر بمدينة بعقوبة…

سبع سنوات وندى (23 سنة) تعيش مع عائلتها “غربة مريرة” في بيت مستأجر بمدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى شمال العاصمة بغداد، يشدها الحنين لمنزل العائلة في المقدادية الذي غادرته قسراً ويستحيل العودة اليه وفق حكم “الجلوة” العشائري الذي فرض على عائلتها وقلب حياتها الهادئة وحولها الى صراع وخوف دائمين.

والجلوة نظامٌ قبليُ، يطبق غالباً في المناطق الريفية بعموم العراق، في وقائع القتل عادة، وقد يتعدى ذلك إلى جرائم السرقة، ويقضي برحيل ذوي الجاني وأقربائه حتى الدرجة الخامسة في بعض الأحيان من مناطق سكناهم، لمدة قد تتراوح بين خمسة إلى عشر سنوات أو أكثر بحسب العرف.

بدأت قصة ندى في صيف 2014 عندما سيطر عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على المقدادية ومناطق شمالي محافظة ديالى حيث تقع منازل وبساتين أقربائها من جهتي والدها وأمها وهم من طائفة السنة. فاضطروا للنزوح منها واللجوء إلى مخيم (الوند في قضاء خانقين).

كانت آمالها مع باقي أفراد عائلتها كبيرة في العودة إلى المنزل بعد التخلص من سطوة داعش، لكن حادثة تفجير وقعت خلال عمليات تحرير المنطقة بددت حلمهم، حين دخل ثلاثة من عناصر الحشد الشعبي الشيعي (والد وابناه) الى منزل يعود لعم ندى، كان مقاتلو داعش قد فخخوه وجعلوا منه كميناً، فانفجر والثلاثة بداخله ليقتلوا على الفور، ولتُحمِل عشيرتهم المسؤولية لعمها على الرغم من أنه منتسبٌ في الجيش العراقي، وتنظيم داعش كان قد استولى على منزله.

فضلاً عن مبلغ الدية الذي فرضته عشيرة القتلى والذي وصل إلى 75 مليون دينار (51 ألف دولار أمريكي) صدر الحكم العشائري بعدم شغل عائلات أعمام ندى فضلاً عن والدها منازلهم بموجب نظام “الجلوة” وإلا تأخذ بالقتل ثأرها، وقام أفراد منها بإحراق بساتينهم إمعاناً في رفض عودتهم.

“جمعنا الأموال ودفعناها لهم، لكن ذلك لم يكن كافيا فعلينا ترك منزلنا في المقدادية الذي لم يكن قد مضى على عودتنا اليه سوى أسبوعٌ واحد بعد التخلص من سيطرة داعش نهاية عام 2014” تقول ندى بصوت متقطع تغلبه الحسرة.

أجبر حكم الجلوة العائلة الى المغادرة مجدداً والعودة إلى المخيم الذي أتوا منه فلم يكن لديهم مكان آخر يذهبون إليه.

بعدها بأيام، عثر والدها على بيت لاستئجاره في المقدادية، لكن عشيرة القتلى رفضت تواجدهُ في المدينة، ليضطر إلى الانتقال بالعائلة إلى مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى. 

تمرر ندى يدها على صورة قديمة لها وهي في منزلها القديم وتقول في حديث لـ”العالم الجديد”: “خسرنا كل شيء، بيوتنا وبساتيننا، قتلوا منا ثلاثة رجال وامرأة بحجة انتمائهم لداعش. استغلوا سلطتهم للانتقام والثأر والنتيجة كانت تشرد عوائلنا في شتى أنحاء ديالى ومازال عمي في السجن بتهمة انتمائه لداعش وقتل افراد ينتمون للحشد الشعبي”.

تلقي نظرة على مجموعة من الدفاتر المدرسية من فترة دراستها الإعدادية وتتابع حديثها “تأخرتُ سنتين دراسيتين اذ ظلوا يلاحقوننا من مكان الى آخر لخمس سنوات كاملة، كنتُ خلالها اتنقل من مدرسة الى أخرى باستمرار حتى أكملتُ دراستي الإعدادية بشق الانفس”.

وإزاء الظرف الذي مرت به عائلتها، أرجأت التحاقها بالجامعة لسنتين، لأنها لم تكن تعرف ماذا سيحدث لاحقا.

تقول عن ذلك بشيء من الحدة “هل من الجرم أن نكون من طائفة مختلفة، نحن أيضاً من ضحايا داعش، تركنا بسببه بيوتنا وأملاكنا وعشنا في مخيمات عانينا منها الأمرين لكن ما كان ينتظرنا أسوء بكثير، ألم يحن الوقت لأن يعلو قانون الدولة فوق قانون العشيرة؟ مرت سبع سنوات ولا نعلم متى سنعود”.

نظامٌ عرفي

تمتد جذور الجلوة التاريخية الى أيام البدو والأعراب بحسب بعض المؤرخين، وظل يُطبق حتى يومنا هذا في العديد من الدول العربية كالعراق والأردن. غير أن الأخيرة حاولت تقليل الضرر لأقصى حد ممكن وذلك بتقنينها له ضمن وثيقة صدرت في 2021 ونصت على “اقتصار تطبيق الجلوة على القضايا العشائرية وهي (القتل) وأن المشمولين بالجلوة هم فقط (القاتل، والد القاتل، أبناء القاتل) من الذكور فقط لا غير. وتقلصت مُدة الجلوة الى سنة واحدة قابلة للتجديد حسب ظروف القضية التي يقررها الحاكم الإداري والمجلس الأمني في المحافظة”.

في حين أن مجلس النواب العراقي لم يسن بعد قانوناً يحد من تطبيق الجلوة على الرغم من وجود دائرة معنية بشؤون العشائر تابعة لجهاز الامن الوطني، يفترض بها أن تعالج هذه الأعراف العشائرية كما الصراعات لتقوية بنية الدولة وضمان سيادة القانون.

يشير جواد كاظم الجرياوي أحد وجهاء عشيرة الجرياوي في الفرات الأوسط، إلى أن الجلوة العشائرية يقتصر تطبيقها على جرائم القتل فقط لدى معظم العشائر، ويتم إيقاعها بعد أسبوع واحد من حدوث الجريمة، درءاً للفتنة وحقناً للدماء “اذ تمنع الجلوة المطالبة بالثأر، وتضع حداً نهائيا للمشكلة” يقول الجرياوي موضحاً.

ولا توجد اتفاقية للعشائر العراقية حددت بها مدة معينة للجلوة أو آلية معينة لتطبيقها، إذ أن ذلك مرهون بالعرف، وتختلف المدة من عشيرة إلى أخرى، والشائع هو سبع سنوات، وفقاً للجرياوي.

ويبين في حديثه لـ”العالم الجديد”: “قد تُقلص المدة إذا كان القاتل أحد أقارب المقتول من الدرجة الأولى أو الثانية ويتم ذلك بالاتفاق، أما إذا كان القاتل من عشيرة أخرى فيترك وأهله المكان بعد دفع الدية مع تحديد مدة أو بدون تحديدها ولهم أن يبيعوا أراضيهم ومنازلهم متى شاؤوا”.

ويعبر الجرياوي عن أسفه لقيام بعض العشائر بالمغالاة في تطبيق الجلوة وقيامها بحرق بساتين ومنازل القاتل وأهله وإبقاء أملاكهم وقفاً لا تُباع ولا تُشترى، وينتج عن ذلك عوائل مشردة لا تملك شيئاً.

وأغلب الذين يشملهم حكم الجلوة حسبما يذكر، هم سكان المناطق الريفية الذين يعتاشون على بيع محاصيلهم الزراعية “لذا فمن المغالاة حرق أراضيهم وأملاكهم أو حرمانهم من استغلالها أو التصرف بها”.

عقوبة تطال من لا ذنب له

كان عالم (محمد. ج 28 سنة) ينحصر بين المدرسة الإعدادية ومزرعة العائلة الواقعة جنوبي النجف، التي كان يقضي معظم ساعات ما بعد الدراسة في مساعدة والده بحرث الأرض وبذرها أو حصد محاصيلها، حياةٌ هانئة وسعيدة بالنسبة إليه، لكنها تلاشت بعد قيام عمه بقتل نسيب له سنة 2010.

إذ توجب على العائلة رغم قطيعتها القديمة مع عمه الجاني، دفع ضريبة فعلته والامتثال لحكم الجلوة وترك كل شيء خلف ظهرها والبحث عن مكان آخر يبدأ فيه أفرادها حياتهم من الصفر.

يقول محمد، خلال حديث لـ”العالم الجديد”: “حاولنا اقناع أهل القتيل بأن لا شأن لنا بعمي، وأنه ليس من العدل ربطنا بما فعل، غير أنهم أصروا على اجلائنا من المنطقة بعد ساعات من حادثة القتل”.

لم تكن للعائلة أملاك كثيرة، فقد كانت تسكن داراً بداخل البستان، لذا خرج أفرادها بالثياب التي عليهم مع قليل من المال، هكذا يصف محمد آخر يوم له في النجف. ويذكر أنهم يسكنون ومنذ نحو إثني عشر سنة في ناحية غماس التابعة لمحافظة الديوانية.

يمد يديه أمامه ويفارق بين أصابعهما “اكثر من عشر سنوات” يقولها بذهول، لأنهُ فقد خلالها والده، وترك دراسته ليعمل في مقهى شعبي من أجل إعالة والدته وأشقائه الأربعة الذين أصبح مسؤولاً عنهم.

ينظر الى كفيه اللتين أبقاهما على ذات الوضعية “عشر سنوات ! يا ربي لماذا تحملت كل هذا واستمر في تحمله حتى بعد قتلهم لعمي ثأراً، أنا لم أقتل أحدا، حياتي اقتصرت على الدراسة ومساعدة والدي في الزراعة، لم أكن قد التقيت بعمي او أتكلم معه لسنوات اذ كان على خلاف دائم مع والدي… أي عدل هو هذا؟”.

ومع أن القانون العراقي يخلو من نصوص تعالج مسألة الجلوة بحد ذاتها، كما هو الحال بالنسبة للعرف العشائري العراقي، لكن أحكام القوانين تنطبق على الممارسات التي تجري تحت عنوان الجلوة كاستغلال الأموال الخاصة أو الاستيلاء عليها وأعمال العنف التي تصاحبها.

ويؤكد الحقوقي حيدر الربيعي، بأن القانون العراقي لا يعد الثأر كدافع للقتل ظرفاً مخففاً، ويخضع القاتل فيها لأحكام المادة 405 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 بالتالي يعد ما فعله قتلاً مع سبق الإصرار والترصد والتي تصل فيها العقوبة إلى الإعدام.

وأن العقوبة تتحول إلى السجن المؤبد وفقاً للمادة 405 من ذات القانون إذا حدث فعل الثأر أثناء واقعة القتل وليس بعدها، كأن يقتل أحدهم قاتل أخيه في ذات وقت ومكان الجريمة.

ويصاحب إيقاع فرض الجلوة عادة فرض دية عن القتل قد تصل الى مليارات الدنانير وأيضاً ما تعرف بـ(الفصليات) أي بتقديم عائلة أو أقرباء الجاني نساءً كزوجات لعائلة أو أقرباء المجني عليه لفض الخصوم.

وقد تفرض هذه الأحكام العشائرية دون وجود أدلة قاطعة تدين المتهم، بل وحتى في قضايا غير القتل، وهو ما حدث لـ(حسين.كـ) الموظف الحكومي، حسب تأكيده، حيث يروي أن شقيقه الأصغر كان يتبادل أطراف الحديث مع صديق له مساءً قرب المنزل في حي الشعب ببغداد، فإذا بهما يفاجآن بشخص غريبٍ يخرج مسرعاً من بيت الجيران واتضح لاحقاً بأنه كان سارقاً.

لم يتعرف أحد على ذلك السارق، والبست التهمة بشقيق حسين فقد وجدوا من يقول إنه شريك في السرقة، دون أن تشفع له شهادة صديقه أمام كبار العائلتين، وفرض على عائلته دفع مبلغ 150 مليون دينار، 102 ألف دولار تقريباً وترك المنزل، ليستأجروا واحداً صغيراً في أطراف العاصمة.

يبدو التأثر في صوت حسين وهو يقول “لم يسرق أخي شيئا، أعرف ذلك جيداً، ولو أننا لجأنا الى القانون لأحضروا أناساً تشهد ضده فالاعتراض هنا غير مجدي وخطير طالما تصر تلك العائلة انك متهم. والنتيجة أننا تركنا بيتنا الذي عشنا فيه وكبرنا، وهم تفضلوا علينا على انهم محسنين بإبقائنا في بغداد بحكم وظائفنا الحكومية”.

نظامٌ قاسٍ

(هناء.ح) أم لولدين (حسين 27 سنة وعلي 30 سنة)، تسكن مدينة الحلة مركز محافظة بابل، تذكر بأن الجلوة قلبت حياتها وحياة أسرتها رأساً على عقب وكان ذلك في سنة 2010، يوم كانت العائلة تسكن في ناحية الشوملي.

إذ كان حسين يصطاد الطيور في أحد الأيام مع عدد من أولاد عمومته ببندقية صيد هوائية، لكنه وقع في المحظور وأصاب عن طريق الخطأ رقبة ابن عم له وأرداه قتيلاً على الفور.

تقول هناء “شهد جميع من كان هناك وقتها على أن القتل لم يكن متعمداً، مع ذلك دفعنا دية بمقدار 7 مليون دينار (نحو 5 آلاف دولار) اقترضناها، واجبرننا على ترك منزلنا وأرضنا وانتقلنا إلى الحلة”.

هناك مرت الأشهر بلا عمل وتراكمت الديون عليهم، لذا اقترح زوجها التصالح مع شقيقه وأن يترك حسين ليعيش عند أخواله لضمان سلامته، ويعود باقي أفراد العائلة إلى حياتهم السابقة، لكن هناء رفضت العودة وترك ابنها خشية أن تلوحه يد الثأر وهي بعيدة عنه.

وتفاقم الأمر عندما طلبت الطلاق بسبب إصرار زوجها على العودة بدون ابنهما، وهو ما حصلت عليه في النهاية وتولت هي حضانة أبنائها الأربعة، وهجر الولدان مقعدي الدراسة ليتمكنا من اعالتها مع شقيقتهما، أحدهما أصبح منتسباً في الجيش والآخر في شركة أمنية.

يقول حسين “كنتُ احلم بدخول كلية الهندسة لكن الحادث حال بيني وبين حلمي، فأنا منذ اثني عشر عاماً اتحمل تبعات موت ابن عمي الذي وقع بالخطأ. تركتُ دراستي واتجهتُ الى اعمال البناء سنوات عديدة رغم صغر سني فلم اكن اتجاوز حينها الـ16عاماً”.

تطوع بعدها في صفوف الجيش العراقي اثناء الحرب ضد داعش عام 2014 ليعيل امه واشقائه، شارك في معارك تحرير الموصل والرمادي وواجه الموت عدة مرات. أما شقيقه علي، فتوقفت أحلامه بدخول كلية القانون عند الصف السادس الإعدادي، فمشاكل العائلة أجبرته على ترك الدراسة والعمل في احدى الشركات الأمنية بالبصرة.

لا تشعر هناء بالأسف على قرارها رغم كونها تصف الجلوة بالنظام القاسٍ لأنه يشمل أشخاصاً لمجرد انهم أقرباء للجاني “لكن يبدو أنني كنت محقة في رفضي العودة، فولداي آمنان، وكونا أسرتين، والبنتان سعيدتان، واحدة في كلية الهندسة والأخرى في كلية الصيدلة”. 

يؤكد الضابط المتقاعد من قسم شؤون العشائر التابع لمديرية الامن الوطني بشير بدر أنه لم يشهد خلال مسيرته المهنية تدخلاً للدولة في حل نزاعات الجلوة العشائرية وإرجاع المجليين الى مناطقهم ويعزو ذلك الى عدم وجود نص قانوني يحكم هذه الممارسات.

يضيف بدر “حتى وان أخذ القانون مجراه بحق الجاني تبقى الأعراف والاحكام العشائرية سارية في معظم الحالات فنجد أن القاتل مثلاً قد صدر بحقه حكمٌ بالإعدام وأهله مرغمون على دفع الدية وترك المكان حفاظاً على حياتهم”.

ثمن باهظ

وخلافاً لما يشاع بان نظام الجلوة لم يكن مفعلاً في عهد النظام العراقي السابق قبل 2003، يقول (عباس.فـ) (37 سنة) والذي يعمل في مهنة الحدادة، وخضع منذ 25 عاما مع عائلته لحكم الجلوة، أنه متبع في العراق في مختلف الأزمنة ولم تقدر أي من الأنظمة المتعاقبة على وقفه، لأنه “جزء من تقاليد وأعراف البلاد ذات الطابع القبلي في معظم أجزائه”.

القاتل والمقتول، كانا ابنا عمين لوالده، وهكذا شُملت عائلته بالجلوة لتنتقل من قضاء الرفاعي التابع لمحافظة ذي قار إلى منطقة قلعة سكر 100 كم عن مدينة الناصرية مركز المحافظة.

يلتقط من ذاكرته احداث تلك الأيام حين كان صبياً “تركنا أرضنا ومواشينا ورحلنا. مازلت أذكر كيف بكت جدتي حين أخبرونا بأن علينا الخروج فقط بالملابس التي علينا ونترك كل شيء نملكه”.

أهل المجني عليه، قتلوا شقيقاً للجاني، وحصلوا منهم على امرأتين كـ(فصلية)وهو نظام عشائري آخر يستخدم لفض النزاعات، ويتمثل بتقديم ذوي القاتل امرأة تتخذ كزوجة لواحد من أقرباء الطرف الآخر (المجني عليه).

على الرغم من ذلك، بقيت عقوبة الجلوة نافدة، بل وقام عباس بعد وفاة والده ببيع أرض العائلة في الرفاعي بثمنٍ قال انه كان بخساً، لكون العائلة كانت قد يئست تماماً من العودة.

يقول عباس وهو يعصر يداً بأخرى “اتصل بي أحد المستثمرين وأبلغني أنه سيشتري الأرض دون تعريضي للمشاكل، مقابل ان أحصل على ربع ما تستحقه من قيمة، وان ذلك أفضل لي من ان تظل مهجورة دون ان نقدر على استثمارها، وأنا اقتنعت بذلك”.

يتمتم بكلمات غير مفهومة مع نفسه، بدا كأنه يندب حظه، ثم يضيف “بعد فترة من بيعي للأرض، اكتشفت أنها تحولت مع أراضٍ مجاورة إلى موقع مستثمر من قبل شركة نفطية.. خدعني المستثمر، وهو ما فاقم ظلم الجلوة علينا”.

الجلوة في إقليم كردستان

وفي إقليم كردستان تطبق العشائر هناك بدورها الجلوة مع اختلاف في التطبيق من عشيرة لأخرى. يتحدث آشتي طالباني أحد وجوه العشائر في الإقليم عن هذا النظام العشائري بقوله:

“يقتصر تطبيق حكمها عند عشائرنا الكردية على القاتل وأقاربه من الدرجة الأولى والثانية ولمدة لا تتعدى السنتين إن حدث صلح بين عائلتي القاتل والمقتول، ولذوي المقتول حرية التصرف بأراضيهم ومواشيهم، والقانون بطبيعة الحال يأخذ مجراه دوماً بحق القاتل”.

ويلفت طالباني إلى أن الصلح غالباً ما يحدث وتندر الحالات التي لا يرجع فيها أقارب القاتل الى أراضيهم “يسعى وجهاء العشائر دائماً الى عقد الصلح حقناً للدماء، عندها يرجع كبار السن والنساء والأطفال بينما ويبقى الشباب احياناً خارج المنطقة لمدة لا تتعدى السنة أو السنتين كحد اقصى”.

سردار (20 عاما) من إدارة منطقة كرميان القريبة من السلمانية، لديه تجربة قائمة مع الجلوة، ويعدها وسيلة سلام أكثر مما هي وسيلة انتقام لكونها تبعد طرفي المشكلة عن بعضهما لمنع مزيد من القتل وفقاً لما يرى.

ويروي بتأثر، خلال حديثه لـ”العالم الجديد”، حادثة أدت إلى جلاء عائلته “صدم شقيقي بدراجته النارية سيارة ضابط، واقتصر الحادث على وقوع أضرار مادية، فتعهد أخي باصلاح الضرر، لكننا تفاجأنا ليلتها بقدوم الضابط ثملاً إلى منزلنا ومعه بندقية كلاشينكوف واخذ يطلق النار على منزلنا ولم يكن أمام أخي سوى الخروج ببندقيته وأطلاق النار عليه فأرداه قتيلا”.

سلم الشقيق نفسه الى مركز الشرطة، وفرضت عشيرة الضابط المقتول ساعتها الجلوة على عائلة سردار بترك أرضها ومنزلها في كرميان، ليذهب أفرادها للسكن في السليمانية.

وبعد مرور شهرين من واقعة القتل، عقدت عشيرة سردار مع الأخرى اتفاقية صلح، أفضت إلى عودة نساء وشيوخ وأطفال أسرة سردار فقط، وإبقاء الشباب خارج المنطقة لمدة سنتين.  “جرت الامور على خير، وانا أسكن منذ عودة اهلي الى ارضنا، في شقة مع صديق يعمل في السليمانية وأزور اهلي سراً بين الفينة والأخرى لئلا تحدث فتنة في المنطقة”.

لا أساس ديني أو قانوني للجلوة

يبين الشيخ محمد الزهيري، وهو رجل دين وطالب في الحوزة العلمية بالنجف، بأن الجلوة العشائرية لم تُجوَّز سابقاً من أي مرجع ديني، بل على العكس تماماً، فإن القاتل في الدين ليس عليه سوى الدية.

ويقول لـ”العالم الجديد”: “تتنافى هذه الأعراف تنافياً تاماً مع الدين الإسلامي وتخرج في الغالب عن المعقول فالقاتل إما أن يدفع ديةً محددة أو يأخذ القانون مجراه بحقه دون الحاق أذىً بذويه واقاربه ولا يجوز اجبار أحد على ترك مسكنه بما فيهم القاتل إن دفع الدية أو اتخذت بحقه الاجراءات القانونية”.

وفي إطار القانون، تبين الحقوقية والناشطة في مجال حقوق الانسان هناء ادور أن الجلوة العشائرية تعد انتهاكاً صارخاً لحقوق الانسان وعدم معالجتها يعتبر مخالفاً للمادة 43-ثانياً من الدستور العراقي التي تنص على “تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزز قيمها الإنسانية النبيلة، بما يساهم في تطوير المجتمع، وتمنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان”.

وتشدد ادور على ان ترك هذه الظاهرة دون علاج هو مؤشر واضح لضعف السلطة التنفيذية في الدولة وهذا ما يساهم في زعزعة السلم المجتمعي ويتيح الفرصة لارتكاب جرائم إرهابية تحت غطاء عشائري.

وعلى الرغم من ان مجلس القضاء الأعلى اتخذ في 2018 موقفاً حازماً من بعض الاحكام العشائرية التي تسبب رعباً وتهدد السلم المجتمعي باعتبارها عملاً ارهابياً ويعاقب مرتكبها وفق قانون مكافحة الإرهاب لعام 2015، إلا انه لم يتطرق الى الجلوة العشائرية بشكل صريح ولم يصدر أي قرار بخصوصها.

إقرأ أيضا