من القوانين والعقوبات إلى الناصرية.. قمع الحريات في العراق يبلغ ذروته

لم تعد الحريات في العراق، في مأمن، من كافة الجوانب التشريعية والقضائية والأمنية، لتشكل حلقة…

لم تعد الحريات في العراق، في مأمن، من كافة الجوانب التشريعية والقضائية والأمنية، لتشكل حلقة تضيق يوما بعد آخر على الناشطين وأًصحاب الرأي، وكان آخر الشواهد هو القمع السريع لتظاهرات الناصرية يوم أمس الأربعاء، وتسببه بسقوط قتلى وجرحى، ما عده ناشطون ومراقبون “مؤشرا خطيرا” على مستوى الحريات العامة، من شأنه وضع المقبولية الدولية للحكومة الجديدة على المحك، وقد يواجه من قبلهم بموقف حاسم تحدده الساعات المقبلة، لتضاف هذه القضية إلى سلسلة متسارعة من محاولات “تكميم الأفواه”، ومنها العودة إلى المادة 226 من قانون العقوبات واستخدامها ضد ناشط مدني، في ظل محاولات برلمانية لتمرير قوانين من شأنها أن تحد من الحريات العامة من قبيل “حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي”، و”جرائم المعلوماتية”.

منذ أقل من شهر، جرت العديد من المحاولات للحد من الحريات في العراق، لكن أحدثها ما جرى في الناصرية، إذ يقول الناشط علي الدهامات خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “ما حصل اليوم من قمع لمتظاهري الناصرية يكشف بوضوح أن النهج الذي تنتهجه الحكومات هو نهج حزبي مدبر وليس اجتهادات شخصية لأفراد معينين تسلموا السلطة”.

ويضيف الدهامات أن “كل الأحزاب أثبتت أنها على النهج نفسه وآلة القتل والسرقة والدمار وتكميم الأفواه ثابتة على مر الحكومات، ولم يأت احد لتغيير هذا النهج”.

وعن موقف ناشطي ذي قار الحالي، يؤكد أن “هناك اتصالات مع المحافظة، والنتيجة ستعلن قريبا بخصوص موقفنا العام من الحكومة وما حصل من قمع للمتظاهرين”.

وانطلقت مساء يوم أمس، تظاهرات كبيرة في مدينة الناصرية للمطالبة بحقوق ضحايا تظاهرات تشرين وخاصة قطع الأراضي التي وعدوا بها، لكن سرعان ما جوبهت بقمع من قبل القوات الأمنية التي استخدمت الرصاص الحي ومختلف الآليات لإنهاء التظاهرة، ما تسبب بمقتل 3 متظاهرين وإصابة أكثر من 20 آخرين. 

واستمرت عمليات الكر والفر في الناصرية بين المتظاهرين والقوات الأمنية، وسط حالة من الهلع بسبب الاستخدام المكثف للرصاص الحي، ما دفع المتظاهرين إلى التوجه لمقار الأحزاب في المدينة وخاصة المرتبطة بالإطار التنسيقي.

كما أطلق المتظاهرون وسم “هاشتاك” بأسماء المحافظات العراقية لدعم الناصرية، وصدرت دعوات للخروج بتظاهرات في بغداد والنجف وبابل.

من جانبها، تتوقع الباحثة في الشأن السياسي نوال الموسوي خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “تولد هذه الأحداث مزيدا من التظاهرات، لأنها قد تتسبب بردات فعل شعبية”، مؤكدة أن “هذه الأحداث تمثل اختبارا صعبا لرئيس الوزراء”.

وتدعو الموسوي لـ”محاسبة جميع من أطلق الرصاص، وإجراء تحقيق على مستوى عال من الوضوح، خاصة وأن التظاهرات كانت شبابية وسلمية”، مشددة على “ضرورة أن تنتبه الحكومة لمن يستثمر هذه الأحداث بطريقة سلبية”.

وعلى خلفية هذه الأحداث، وجه رئيس الحكومة محمد شياع السوداني بإرسال لجنة أمنية عليا إلى ذي قار لإجراء التحقيق في أحداث التظاهرات، كما أصدر وزير الداخلية عبد الأمير الشمري، قرارا بإقالة قائد شرطة ذي قار الفريق الركن سعد حربية وتكليف العميد مكي شناع بدلا عنه.

كما أصدر الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول بيانا أعلن فيه أن التظاهرات السلمية حق كفله الدستور العراقي وان هناك توجيهات واضحة لتوفير الحماية الكاملة للمتظاهرين، وبعد الأحداث الجارية في محافظة ذي قار، شدد القائد العام على أن القوات الأمنية هي المسؤولة عن حماية المتظاهرين السلميين، وان الحكومة تسعى الى تحقيق المطالب الجماهيرية، داعيا المتظاهرين إلى الابتعاد عن الاحتكاك مع القطعات الامنية والالتزام التام بتوجيهات الأجهزة الأمنية.

كما ترأس السوداني اجتماعا للمجلس الوزاري للأمن الوطني، وناقش فيه أحداث التظاهرات التي شهدتها مدينة الناصرية، وشدد على منع أية جهة من التدخل عبر تسييس التظاهرات أو استغلالها لأغراض شخصية.

بدوره، يذكر الباحث بالشأن القانوني محمد السلامي خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الوضع الاجتماعي والاقتصادي والخدمي وتوغل الفساد في دوائر الدولة أدى إلى استمرار عدم الثقة من الجمهور في أي تغيير يمكن أن يحدث على صعيد الحكومات”.

ويشير السلامي إلى أن “ما حصل في الناصرية احتجاج على الأوضاع الموجودة منذ عام 2010 في البصرة وذي قار وبغداد وغيرها”، مؤكدا أن “الوضع العام لا يبشر باستقرار اقتصادي وتنمية”.

ويلفت إلى أن “التظاهرات في الناصرية كانت في البداية بلا رصاص، ثم تحول الأمر في ما بعد إلى تصعيد بالسلاح من قبل القوات الأمنية ورصاص، كما تواردت أخبار عن أن بعض المتظاهرين كانوا يحملون بعض المواد الدخانية”.

ويكمل أن “الناصرية خلال الانتفاضة في عامي 2019 و2010 تحصلت على الحصة الأكبر من القتلى والمصابين”، داعيا “الحكومة المحلية لأن تقف عند هذه التضحيات وألا تستعمل أي سلاح وأن ترعى هؤلاء المتظاهرين لأنهم يستخدمون الحق الشرعي والدستوري”.

يذكر أن العديد من اللجان التحقيقية شكلت سابقا بشأن أحداث التظاهرات بدءا من تظاهرات تشرين الأول أكتوبر 2019 وما تلتها من أحداث في بغداد والناصرية وغيرها من المحافظات، لكن جميعها تم تسويفها ولم تسفر عن نتائج حقيقية أو إجراءات بحق المقصرين.

وشهدت الناصرية ما بات يعرف بـ”مجزرة جسر الزيتون”، حيث عاشت أقسى ليلتين بتاريخ 28– 30 تشرين الثاني نوفمبر 2019، إذ سقط خلالها 32 قتيلا و220 جريحا، وذلك في ذروة “انتفاضة تشرين”، حيث كان المتظاهرون يسيطرون على جسر الزيتون وسط الناصرية، بالاضافة الى الجسور والدوائر الاخرى، لكن جرى استخدام العنف المفرط بعد تكليف رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي، الفريق الركن جميل الشمري بترؤس خلية الأزمة في ذي قار، والذي تم اتهامه بتنفيذ المذبحة وفتح النار على المتظاهرين المعتصمين فوق الجسر، بهدف استعادة سيطرة القوات الامنية عليه.  

القمع بالقوانين

وبشأن القوانين التي طرحت في البرلمان واستخدام المادة 226 من قانون العقوبات، يعود الدهامات ليقول “إننا ندعو الحكومة أن تسحب القانون الذي أرسلته للبرلمان لأن من شأنه الحد من حرية التعبير، كما ندعو لتوقيف أو تجميد المادة 226 من قانون العقوبات التي أصدر بموجبها الحكم بالسجن بحق الناشط حيدر الزيدي”.

ويرى الدهامات أن “هذه المادة مرتبطة بالسلطات القمعية في النظام السابق”، وطالب بـ”تجميدها لأن حرية التعبير حق لكل مواطن ونحن في بلد يفترض أن يكون ديمقراطيا”، مشيرا إلى أنها “مادة فضفاضة ويمكن أن يركّبوا اتهاما ضد أي تصريح أو تغريدة بموجبها”.

ويتجه البرلمان إلى محاولة تمرير قانون حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي، حيث أدرجه مطلع الأسبوع الحالي في جلسته الاعتيادية قبل أن يرفع منها بضغط من بعض الكتل السياسية المدنية، ويأتي طرح هذا القانون بعد طرح قانون جرائم المعلوماتية الشهر الماضي والذي رفع من جدول الأعمال بضغط أيضا.

وتعد هذه القوانين، وفقا لناشطين وإعلاميين، مقيدة لحرية الرأي وتفرض عقوبات بالسجن والغرامات الكبيرة على كل من يحاول إبداء رأيه، في خطوة اعتبرت مخالفة للدستور العراقي الذي كفل حرية التعبير عن الرأي. 

وبالمقابل، فإن حكما صدر بسجن الناشط حيدر الزيدي ثلاث سنوات، بتهمة الإساءة لمؤسسات الدولة وفقا للمادة 226، وذلك بسبب منشورات له ضد بعض الجهات في الدولة ومنها الحشد الشعبي.

وتعليقاً على الموضوع، يذكر النائب محمد البلداوي خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “هناك المئات من القوانين لم يتم تعديلها أو إجراء تغييرات عليها منذ فترة طويلة، وقسم منها هي قرارات مجلس الثورة التي كانت في وقتها بمثابة قرار برلماني وتعتمد كتشريع يتم العمل بتطبيقه”.

ويكشف أن “هناك توجها برلمانيا لتعديل القوانين، وقد وجهنا أكثر من كتاب إلى دائرة التشريع البرلمانية لدراسة القوانين حتى ما صدر منها”.

ويؤكد البلداوي “عزم البرلمان في السنة التشريعية الثانية على المضي قدما في إقرار مجموعة من القوانين التي تخدم أبناء الشعب العراقي وتستطيع من خلالها الحكومة أداء الخدمة ومعالجة حالات الفساد”.

وبشأن المادة القانونية التي حوكم بموجبه الناشط حيدر، يوضح أن “قانون العقوبات العراقي موجود أصلا قبل أن يأتي حكم البعث إلى الوجود، لكن في المحصلة اليوم هناك إجراءات وهناك قانون يحمي الجميع، فمثلما يحمي الحريات يعاقب على التجاوزات”.

ويضيف أن “البرلمان عازم أصلا على تشريع قانون يعنى بحرية الرأي والتعبير وهو  موجود في البرلمان وقرأ القراءة الأولى وسنجد عليه مجموعة من التعيينات التي ترعى في جنبتها الحقوق والحريات الخاصة بحقوق الإنسان”.

جدير بالذكر، أن القضاء العراقي ما زال يعتمد على المادة 226 من قانون العقوبات العراقي في ملاحقة الناشطين والإعلاميين، وهي تنص على: يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس او الغرامة من أهان بإحدى طرق العلانية مجلس الأمة أو الحكومة أو المحاكم أو القوات المسلحة أو غير ذلك من الهيئات النظامية او السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية.

وهذه المادة وردت في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، إلى جانب 3 مواد أخرى تختص بمعاقبة من يهين السلطة أو رئيسها، تبدأ بالتسلسل 225 وتنتهي بالتسلسل 228، لكن لغاية الآن لم يجر مجلس النواب تعديلا على قانون العقوبات بهدف إلغاء بعض المواد التي توصف بأنها “ديكتاتورية”.

من جانبه، يؤكد السلامي في حديثه بهذا الشأن، أن “مشروع القانون المزمع التصويت عليه فيه محددات تحجم من حرية الرأي ولا يحتوي على حماية للحريات الشخصية، ومن هذه المحددات أن القانون ينص على عدم إمكانية التظاهر بعد الساعة العاشرة ليلا، كما يمنع التظاهر في الساحات العامة”.

ويتابع أن “الشاب المحكوم حيدر الزيدي كان يناقش وجهة نظره عن قضية عامة وليست خاصة، منتقدا مؤسسة حكومية لها مساهمة في قمع المتظاهرين، فعندما يناقش أي مواطن أوضاعا عامة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها فإنه يمارس حقه الدستوري”.

ويجدد السلامي المطالبة بـ”إلغاء المادة 226 لأنها لا تليق بدولة ديمقراطية إنما تعيد البلد إلى الدكتاتورية”.

يذكر أن هذه المواد في قانون العقوبات العراقي، والخاصة بإهانة السلطات، كانت تستخدم بشكل واسع خلال فترة النظام السابق، وسبق أن أصدر الحاكم المدني للعراق بول بريمر في 10 حزيران يونيو 2003، أمرا بإيقاف استخدامها، لكن أمر بريمر ألغي فيما بعد من قبل الدولة العراقية.

وكشفت “العالم الجديد” في تقرير سابق عن وجود أكثر من 3 آلاف قرار لمجلس قيادة الثورة المنحل، ما زالت سارية المفعول لغاية الآن ولم يتم إلغائها أو استبدالها، رغم دخول البلد مرحلة جديدة بتحول النظام إلى ديمقراطي بعد عام 2003.

إقرأ أيضا