ثنائية الجفاف والهدر في كردستان.. عجز بمياه الإسالة وتراجع بالإنتاج الزراعي والحيواني

50 ألف دولار هو أعلى مبلغ عرض على عائلة “مريم” لقاء بيع منزلهما في حي…

50 ألف دولار هو أعلى مبلغ عرض على عائلة “مريم” لقاء بيع منزلهما في حي روشنبيري بأربيل والذي كلف العائلة أكثر من 60 ألف دولار. تقول السيدة الخمسينية بغضب: “لم يدفعوا أكثر من ذلك وعلينا أن نقبل بالمبلغ ونتخلص من منزلنا خلال شهرين، فمع نهاية أشهر الربيع وظهور مشكلة شح مياه الإسالة لن يدفع احد نصف هذا المبلغ”.

مثل عائلة مريم، التي خرجت مع جاراتها في حي حيث تسكن في عدة وقفات احتجاجية خلال فترات انقطاع المياه التي تصل احيانا لعدة اسابيع، يحاول العديد من أبناء الحي بيع منازلهم فهم لا يريدون “تكرار مأساة العيش بدون مياه او الاضطرار لدفع اكثر من 100 الف دينار على تأمينها بسيارات حوضية”.

تقول مريم، وهي تشير الى منزلها الذي علقت عليه لافتة (للبيع) مع رقم هاتف الاتصال، وتضيف:”منذ سنوات ونحن نعاني من نقص المياه ويزداد الأمر سوءاً في فصل الصيف .. الأمر لا يطاق.. علينا التضحية بالكثير من الحاجات الضرورية لقاء توفير المياه”.

مشهد النساء اللواتي يتجمعن في وقفات احتجاجية وسط احد الأحياء السكنية الحديثة او الأزقة القديمة يتكرر في العديد من مناطق مدينة اربيل عاصة اقليم كردستان طوال أشهر الصيف، ويتحول احيانا الى تظاهرات يشترك فيها الرجال ويتم فيها قطع الطرق الرئيسية التي تربط أجزاء المدينة.

السيدة التي تدير عائلة تضم سبعة أفراد، بينهم من يعمل ميكانيكيا ويعود كل يوم بثياب متسخة، تتابع منتقدة حكومة الاقليم:”هذا الوضع يتكرر طوال أشهر الصيف والخريف ومنذ سنوات، والجهات المعنية تتحجج بمشكلة الجفاف او تكتفي باطلاق الوعود لايجاد حلول ولكن لا يحدث اي تغيير”.

تؤيدها جارتها (ن.ح) وهي مدرسة ثانوية، قائلة:”أينما مضيت في اربيل تجد الأبراج السكنية العالية وهي ترتفع، يبنونها ويؤمنون المياه لها بطرقهم الخاصة فلا تنقطع المياه عنها أبداً، ونحن أبناء المدينة ندفع الثمن”.

تضيف السيدة المتخرجة من كلية الزراعة، أن أشقاءها وبعض أقاربها في مناطق 92 و94 على طريق كركوك، والتي تعد مناطق راقية، كما في بنصلاوة وداره تو الشعبيتين يعانون من نفس المشكلة بسبب الجفاف وسوء ادارة المياه السطحية والجوفية.

الجفاف يعطل 300 بئر

وتواجه أربيل أزمة حادة في تجهيز الكميات المطلوبة للمياه خلال أشهر الصيف، نتيجة محدودية طاقة مشاريع انتاج المياه التي تعتمد على مياه الانهر وتعثر المشاريع التي تعتمد على المياه الجوفية نتيجة الجفاف، حيث تعتمد المدينة بنسبة 75% على آبار المياه الجوفية في تأمين حاجياتها، ومياه هذه آخذة بالتناقص السريع.

ويقول مسؤولون محليون ان مناسيب المياه السطحية والجوفية تتناقص بشكل سريع، مشيرين الى جفاف 300 بئر هذا العام، وتعرض أحد الأنابيب الرئيسة في مشروع يؤمن حاجات المدينة بالمياه بنسبة 40% خلال صيف عام 2022 إلى الكسر لثلاث مرات مما عرقل وصول إمدادات المياه.

وتتكرر مشكلة شح مياه الاسالة أيضا في مناطق كرميان التابعة للسليمانية، حيث تنقطع المياه عن الكثير من أحيائها لأسابيع فيما تزود احياء اخرى بثلاث ساعات من المياه كل بضعة أيام ما يثير احتجاجات مستمرة للسكان وسط المطالب بحلول جذرية من خلال انجاز مشاريع تؤمن حاجات السكان وتتجاوز مشكلة الجفاف.

وتأثر العراق كما كامل منطقة الشرق الاوسط بالتغير المناخي العالمي، وشهدت البلاد في العامين 2020 و2021 جفافا غير مسبوق منذ عقود، حيث تراجعت وبنسبة كبيرة معدلات المياه المتساقطة حتى في المناطق التي كان تعد في السابق مضمونة المياه، الى جانب تراجع كميات المياه التي تطلقها تركيا في نهر دجلة، بينما عدمت إيران الى قطع مياه وتغيير مجرى غالبية الانهر التي تنبع من ايران وتصب في العراق.

يقول سردار حسن، احد سكنة منطقة بنصلاوة، انه منذ عشر سنوات يعاني من شح المياه في الصيف، كان الأمر مقتصرا على بضعة اسابيع، لكن بات يمتد لأشهر طويلة من نهاية حزيران والى نهاية ايلول.

ويضيف، الموظف المتقاعد: “بعض سكان المنطقة يدفعون أكثر من 50$ لشراء المياه من الصهاريج لتامين حاجاتهم، والبعض الاخر يجلب المياه من اماكن بعيدة بواسطة (الجليكانات) لأنه لا يملك ما يدفعه”.

ويتابع :”تحاول الحكومة معالجة الامر عبر حفر آبار جديدة بأعماق أكبر، الامر سيستغرق وقتا طويلا ويبقى ذلك حلا وقتيا وليس جذريا في ظل التوسع العمراني الكبير”.

تهديد القطاع الزراعي

لا تقتصر أزمة نقص المياه على تأمين حاجات السكان من المياه بالمنازل فقط، بل يتعدى ذلك الى العجز عن توفير حاجات القطاع الزراعي والسياحي والصناعي والعديد من الانشطة الاقتصادية، فالشكوى من نقص مياه الري يتشارك بها معظم الفلاحين الى جانب مسألة ضعف الدعم الحكومي المقدم لهم.

وقد أدى تزايد حاجات السكان الى المياه مع تزايد أعدادهم من 30 مليونا الى أكثر من 40 مليونا خلال العقد الأخير، إضافة الى ظاهرة الجفاف بما فرضته من نقص بمياه الري،الى تراجع المساحات المخصصة للزراعة في العديد من مناطق العراق، وفقدان الكثير من الأراضي لخصوبتها وإنتاجيتها.

وتحول الأمر من حالة مؤقتة لموسم واحد الى ازمة مستمرة وضعت العديد من الفلاحين في العراق كما في اقليم كردستان أمام تحديات كبيرة، وهو ما دفع الكثير منهم الى التخلي عن زراعة بعض المحاصيل، فيما قرر آخرون التخلي عن عملهم في الزراعة وإقامة مشاريع أخرى على أراضيهم أو بيعها.

وهو ما فعله المزارع الستيني عبدالرحمن احمد، الذي قضى 50 عاما من عمره في الزراعة،فمنظر ثمار الخوخ المتساقطة على الارض قبل نضوجها اجبره على بيع ارضه الزراعية التي عاش هو وعائلته على ايراداتها لسنوات طويلة، وبعد أن فشلت جميع محاولاته في استخراج المياه من البئر المحفورة في أرضه.

لم يحاول عبدالرحمن طوال السنوات الماضية تغيير عمله كان يأمل مثل العديد من أقرانه ان تتحسن الاوضاع وتعود مزرعته كما السابق خضراء خصبة منتجة، لكن الامور ازدادت سوءاً مع تفاقم مشكلة الجفاف ووصولها الى بئره وفي ظل غياب الدعم الحكومي.

ودفعت قلة المياه فلاحين الى ترك عملهم وحتى هجرة قراهم باتجاه المدن في محافظات الإقليم الثلاث، بحثا عن فرص عمل يعتاشون منها. وتشير إحصاءات محلية أن نحو 3 آلاف دونم من المزارع تعرضت للجفاف في منطقة كرميان ضمن الحدود الإدارية لمحافظة السليمانية.

واعلنت الدائرة العامة للزراعة في إدارة رابرين عن انخفاض إنتاج محصول القمح للموسم الماضي بنسبة بلغت اكثر من 70% بسبب شُح الأمطار ما أدى الى تدهور الزراعة الديمية المعتمدة على الأمطار خلال الموسم الشتوي لتتحول بذلك  168218 دونماً من الأراضي الديمية في رابرين الى أراض غير منتجة.

ذلك النقص في المياه دفع مزارعين مثل يوسف حسن إلى التخلي مع إخوته عن عمله السابق في زراعة القمح وبعض المحاصيل الأخرى، ليفتح محل لبيع الخضار والفاكهة المستوردة.

يقول حسن:”لقد تكبدنا خسائر لموسمين نتيجة استمرارنا في الزراعة في ظل نقص المياه وجفاف الآبار الارتوازية، لم نجد امامنا وسيلة لتقليل الضرر فتوجهنا للعمل في بيع الخضروات التي هي في الغالب مستوردة من تركيا وإيران”.

وفقا لوزارة الزراعة في إقليم كردستان، كان إنتاج إقليم كردستان من القمح يبلغ مليون طن سنويا، لكن الإنتاج في العام 2021 لم يتعدى 300 ألف طن، وفي حال استمرار حالة الجفاف سيضطر الكثير من مزارعي القمح إلى التخلي التام عن زراعته، خاصة أولئك الذين تبعد مصادر المياه السطحية مسافة كبيرة عن حقولهم أو لا يستطيعون تأمين الأموال لشراء منظومات الرش الحديثة، ما سيزيد ذلك من الفجوة الغذائية ويشكل تهديدا للأمن الغذائي.

وأدى تراجع المساحات الخضراء والمراعي نتيجة الجفاف إلى فقدان عشرات الآلاف من رؤوس الأغنام والماعز لمراعيها الطبيعية ما أجبر أصحابها الى شراء الأعلاف لتضاف تكاليف إضافية على تربيتها.

يقول عمر اسماعيل، الذي يعمل منذ اربعة عقود في مجال تربية الماشية، انه اضطر الى بيع 150 رأس ماشية وابقى على 50 رأسا فقط بسبب عدم قدرته على تحمل تكاليف العلف التي ارتفعت عدة مرات خلال اشهر قليلة نتيجة الجفاف.

اسماعيل يصف الوضع بالسيئ، ويقول وصل عمري الى 80 عاما ولم نواجه ازمة جفاف كهذه امتدت لأكثر من موسمين “كنت أعيل ثلاثة عوائل من خلال تربية الماشية وبيعها، وكانت الامور تسير على نحو جيد، الآن بسبب تكاليف العلف ربما أضطر لبيع ما تبقى لدي من ماشية”.

ولا يمكن لإسماعيل وغيره من مربي الماشية رفع اسعارهم كثيرا، لأن ذلك سيعني ارتفاع مماثل في اسعار اللحوم، وبالتالي توجه نسبة اكبر من المستهلكين الى اللحوم البيضاء او المجمدة المستوردة و”التي باتت تغزو السوق” كما يقول قادر علي، الذي يدير محلا للقصابة.

الهدر وسياسات دول الجوار

يرجع أكرم أحمد المدير العامة للسدود في الإقليم، ازمة المياه في اقليم كردستان الى سياسات دول الجوار فإيران وتركيا تقومان باستغلال المياه وخزنها على حساب العراق من خلال بناء سدود جديدة، ما ينعكس سلباً على مناسيب المياه في كردستان.

ويوضح ان تركيا وإيران أنجزتا العديد من السدود والمشاريع على الأنهر والروافد التي تعبر إلى إقليم كردستان،  لغرض تطوير بنيتها التحتية ودون مراعاة حصص العراق، ما ادى الى انخفاض تدفقات المياه  من هذه البلدان وهو ما قلل من حصة إقليم كردستان وتسبب مشاكل بعد انخفاض مستوى التخزين في سدوده.

لكن تراجع كميات المياه التي تصل اقليم كردستان ليست المشكلة الوحيدة، فالنمو السكاني والتوسع العمراني والهدر في الاستخدام ايضا عوامل مساعدة على تعميق ازمة المياه. وتتأثر إمدادات المياه بالنمو السكاني، فمع ازدياد السكان يرتفع معدل الاستهلاك اليومي للمياه خاصة في ظل عدم توفر سياسات واجراءات فاعلة من قبل الحكومات والجهات المعنية لتقليل الهدر، ورفع التجاوزات من قبل بعض اصحاب المشاريع والاهالي، الى جانب قلة الوعي المجتمعي بشأن ترشيد الاستهلاك لاستدامة هذا المورد .

ووفقا لفرمان رشاد، المسؤول في منظمة ستوب للتنمية، فان هدر المياه في الإقليم يصل إلى 850 ألف متر مكعب من مجموع الإنتاج اليومي البالغ ثلاثة ملايين و126 ألف متر مكعب، بكلفة تصل إلى 340 مليون دينار.

ويشير فرمان الى خطورة ظاهرة التوجه الى حفر مزيد من الآبار، مبينا ان عدد الآبار في أربيل وحدها يبلغ 1240 بئراً، فضلاً عن حفر 1200 بئر للمشاريع السكنية والاستثمارية الجديدة، وهذا تحدي خطير.

ويقول إن “عمق الآبار في عام 2000 لم يكن يتجاوز 250 متراً، أما اليوم فإن الوصول إلى المياه يتطلب الحفر بعمق 650 متراً. وان معدل انخفاض المنسوب كان يسجل 50 إلى 60 سنتمتراً قبل عشر سنوات، لكن اليوم يبلغ خمسة إلى ستة أمتار، وهذا مؤشر مخيف”.

المتحدث باسم دائرة الماء والمجاري في إقليم كردستان آري أحمد، ذكر في تصريحات صحفية أن حكومة الإقليم تؤمن نحو 330 لترا من الماء العذب للفرد يوميا، وهو ما يتجاوز كمية المياه التي يتم توفيرها للفرد الواحد في دول المنطقة التي تبلغ في المتوسط 250 لتراً.

ويقدر مسؤولون بحكومة الإقليم نسبة ما يتم هدره من قبل الفرد الواحد بما بين 10% إلى 30%.

وكشفت منظمة “ستوب” في بحث عن هدر المياه في الإقليم، ان الهدر يصل إلى 850 ألف متر مكعب من مجموع الإنتاج اليومي البالغ ثلاثة ملايين و126 ألف متر مكعب، منبها إلى أن “الإقليم سيواجه أزمة مياه غير مسبوقة إذا ما استمر في التعامل بالصيغة الحالية في إدارة ملف المياه”.

ووفقا لإحصائيات وزارة التخطيط في إقليم كردستان يبلغ عدد سكان الإقليم حاليا 6 ملايين نسمة بينهم 2,254 مليون نسمة في محافظة أربيل، و2,268 مليون بمحافظتي السليمانية وحلبجة، و1,648 مليون في دهوك، الأمر الذي يظهر أن الكثافة السكانية في محافظة أربيل هي الأعلى مقارنة بباقي المحافظات، ما يشكل ذلك ضغطا على الموارد والخدمات.

ويتفق الناشط في مجال البيئة إبراهيم خالد، مع الرأي القائل بأن تفاقم أزمة المياه يرتبط ايضا بعامل الهدر في الاستخدام من قبل المواطنين والمزارعين كما اصحاب المشاريع.

ويقول خالد انه رغم التزايد النسبي في اعتماد طرق الري الكفوءة سواء بالرش أو التقطير وبخاصة في بساتين زراعة الخضراوات كالطماطم مقارنة بالاعوام الماضية، إلا أن فلاحا من بين كل أربعة فلاحين مازال يستخدم طرق الري السيحية التقليدية.

وينبه إلى أن ذلك يسبب هدرا كبيرا في مياه الري وبالتالي التأثير سلبا على سعة المساحات المزروعة، فضلا عن ضعف إنتاجية تلك الحقول، مشيرا أيضا الى تزايد أعداد أحواض تربية الأسماك دون دراسة للحاجة الفعلية وكميات المياه المتوفرة خاصة مع وجود أحواض غير قانونية تتجاوز على الحصص المائية .

وتشير البيانات الصادرة عن مديرية الموارد المائية بشأن معدل الاستهلاك السنوي للمياه في الاقليم إلى أنها تصل إلى مليار متر مكعب، يتم هدر نحو 400 مليون متر مكعب منها، اضافة الى عدم وجود آلية لتدوير المياه العادمة كما هو معتمد في الكثير من البلدان.

وبسبب قلة المياه المتوفرة والهدر الحاصل، قررت مديرية الزراعة في گرمیان منع زراعة الأرز هذا العام  بعد ان تم اعتبار عام 2022 عام جفاف، حيث ان الأرز يزرع في الأراضي المغمورة بالمياه وهذا شرط لنجاح زراعته، وعكس ذلك سيتكبد المزارعون خسائر كبيرة.

كما ان توفير المياه لزراعة الأرز من شأنه التأثير على المساحة المخصصة لباقي المحاصيل الى جانب التأثير على حصة الاهالي من المياه مما يزيد الامور سوءاً.

وفي دهوك تراجعت ايضا المساحات المخصصة لزراعة الأرز. يقول الحاج مصطفى صابر، أحد المزارعين في عقرة:”خلال الازمة الاقتصادية ومشكلة دفع رواتب الموظفين في كردستان في العام 2014 قمنا بزراعة الأرز وحققنا مردود مالي جيد، خاصة ان الأرز الكردي مرغوب في السوق المحلية، وفي السنوات اللاحقة وسعنا من الانتاج وحولنا الكثير من اراضينا من زراعة القمح والشعير الى زراعة الارز، لكن الأمور تغيرت في السنوات الاخيرة بسبب الجفاف”.

يوضح صابر، ان انتاجهم بدأ بالتراجع كما ونوعا في السنوات الثلاث الاخيرة نتيجة نقص المياه “فحينما يصل الشلب الى مرحلة الحصاد يحتاج الى كميات كبيرة من المياه مما نضطر الى التناوب على المياه من يوم الى اخر او لعدة ساعات لتأمين ما تحتاجه”.

ويشير الى ان الكثير من الفلاحين هذا العام، لم يحرثوا أراضيهم خشية تأخر الأمطار، أو قللوا المساحات المزروعة نتيجة خشيتهم من عدم توفر المياه.

وبين الجفاف العالمي وتراجع الحصص المائية من دول الجوار والهدر المحلي، يحذر متخصصون في مجال أنظمة التبريد وتأثيرها على البيئة، من الدائرة المغلقة التي يؤثر كل عامل فيها على العوامل الأخرى، فتراجع الغطاء الأخضر يعني اتساع رقعة الصحراء وارتفاع في درجات الحرارة وبالتالي زيادة في الطلب على الكهرباء لأغراض التبريد ومعها زيادة الحاجة الى المياه التي تؤثر على توفير الغذاء.

التوسع العشوائي في البناء

ويبرز عامل آخر وبشكل حاسم في مشكلة نقص المياه، ويتمثل بالتوسع العشوائي للأحياء السكنية وأحيانا في مواقع ذات طبيعة بيئية حساسة،فذلك يدفع الى مزيد من هدر الموارد الطبيعة وانخفاض نسبة المناطق الخضراء،الى جانب ما يتركه من أثر في شبكات الري الصغيرة التقليدية التي تروي الاراضي منذ عشرات السنين.

في هذا الصدد يقول فرمان رشاد ان المشاريع السكنية والعمرانية خلال العقد الماضي كان لها أثر بالغ في تناقص المياه الجوفية بنحو 100 في المئة “في أربيل وحدها سيتم إنجاز نحو 50 مشروعاً سكنياً لغاية العام 2025، ويصل مجموع وحداتها السكنية إلى 50 ألف وحدة، فضلاً عن حفر الابار من قبل اصحاب المزارع في أطراف المدينة واذا لم تعالج الحكومة ذلك فإننا سنكون أمام خطر حقيقي”.

يعلق رمضان محمد، المختص بالسياسات المائية وإدارة المياه الجوفية، على تبعات التوسع العمراني في الإقليم، قائلا ان التوسع الحاصل بالاعتماد على المياه الجوفية، سيؤثر حتماً في الطبقة الأولى الحاملة للمياه، ويؤدي إلى انخفاض منسوب المياه الديناميكي.

ويضيف: “مدى خطورة ذلك ترتبط بنوع الحوض وطبيعة الكثافة السكانية ونوع الاستخدام.لكن من المفترض الاحتفاظ بالمياه الجوفية كاحتياط ثابت، طالما هناك إمكانات للاعتماد على المياه السطحية وإن كانت مكلفة”.

ويحذر الخبير المائي، من أن الاعتماد على المياه الجوفية بشكل مكثف سيترتب عليه مخاطر كبيرة على المدى البعيد، مبينا أن المياه السطحية المتمثلة بالأنهر لم تستغل بالشكل المطلوب في اقليم كردستان ربما بسبب “بعد مصدر الأنهر عن مراكز المدن الرئيسة بنحو 30 إلى 40 كيلومتراً”.

وبحسب وزارة البلديات في إقليم كردستان، فإن مصادر المياه الجوفية تراجعت بنسب كبيرة خلال العشرين سنة الأخيرة، مقدرة الانخفاض بمقدار 500 متر.

انخفاض مناسيب السدود

يمتلك الإقليم ثلاثة سدود رئيسية وأخرى صغيرة، بعضها ما زال قيد الإنشاء، وأكبرها هو سد دوكان بمحافظة السليمانية الذي شيد عام 1959، يليه سد دربنديخان، والثالث في محافظة دهوك الذي اكتمل انجازه في العام 1988.

تعاني السدود الثلاثة من انخفاض حاد في مناسيبها، ففي شهر تموز الماضي انخفض منسوب سد دوكان إلى أقل من النصف، أي أقل من ثلاثة مليارات متر مكعب حيث تبلغ طاقته التخزينية سبعة مليارات، لتتراجع إطلاقاته المائية من 250 إلى 90 متراً مكعباً، ويرجع معنيون أسباب الانخفاض إلى الجفاف فضلا عن قطع إيران لمياه الزاب الصغير الذي يعتمد عليه السد بعد أن شيدت على النهر داخل أراضيها ثلاثة سدود جديدة.

وتراجع منسوب مياه سد دهوك، الذي تقدر طاقته التخزينية بنحو 50 مليون متر مكعب، بشكل حاد ليبلغ 16 متراً، ولتظهر آثار قرية قديمة للمرة الأولى منذ بنائه عام 1988، بعد أن تراجع مخزونه خلال الصيف من 25 مليون متر مكعب إلى 19 مليوناً، بحسب إدارة السد.

وتواجه دهوك التي تسجل عادة معدلات مطرية جيدة، مخاطر جفاف المئات من آبارها، وتشير بيانات صدرت عن مديرية المياه الجوفية فيها إلى جفاف 15 بئراً خلال النصف الأول من العام 2022 فقط مع انخفاض منسوب 25 بئراً، فيما أصبحت 800 بئر مهددة بالجفاف الكلي من مجموع أربعة آلاف بئر.

وتستخدم 60%من الآبار في دهوك للزراعة، والنسبة المتبقية تؤمن المياه للسكان، وبحسب أرقام رسمية قد تصل نسبة انخفاض مياه الآبار في بعض المناطق إلى 70%.

مبنى مدرسة قرية غاري كسروكة التي غمرتها المياه عام 1985 وتظهر لأول مرة بعد انخفاض مياه سد دهوك

ويقدر نشوان شوكت، المهندس البيئي في محافظة دهوك،نسبة انخفاض مياه السد بنحو 60%، مبينا أن قلة الأمطار على مدى موسمين متتاليين وارتفاع درجات الحرارة بما يفوق سرعة المعدل العالمي بسبع مرات، ادى الى تراجع غير مسبوق في مياه السد، كما الحال في مياه بحيرة سد الموصل القريبة.

وتفيد الإحصائيات الحكومية بشأن معدل الأمطار التي هطلت العام 2022 بأنها تراجعت إلى أقل من النصف مقارنة بالأعوام الماضية، حيث بلغ معدل الأمطار في عموم مناطق اقليم كردستان في شتاء عام 2021ما مقداره 758 مليمترا، بينما كان المعدل في نفس الوقت من عام 2020 يتجاوز 1800 مليمتر.

ووفقا للتقارير الدورية الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة الدولية الفاو، وبرنامج الغذاء الدولي، والبنك الدولي، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، فان معدل سقوط الامطار ومستوى المياه لفصل شتاء العراق لعام 2020 –2021 كان ثاني ادنى معدل منذ 40 عاما.

لتدارك خطورة تراجع التساقطات المطرية بسبب الجفاف، يطالب الخبير المائي رمضان حمزة، باقصى استفادة ممكنة من المياه السطحية، ووضع استراتيجية لبناء سدود “إذا لم تكن لتخزين المياه فعلى الأقل يمكن تساهم في رفع المناسيب، ومن ثم تركيب أنابيب لتوزيعها على اتجاهي الضفتين”، لافتا الى ان أغلب مشاريع تأمين المياه تتبناها منظمات غير حكومية “وهذه غالباً تكون تخصيصاتها وإمكاناتها محدودة ولا يمكن التعويل عليها لبناء بنية تحتية مكتملة لمدد بعيدة المدى”.

خطوات نحو المعالجة

في محاولة لإيجاد حلول مناسبة لأزمة نقص المياه المستفحلة في احياء اربيل السكنية، كشفت وزارة البلديات والسياحة في إقليم كردستان عن تخصيص أربعة مليارات و707 ملايين دينار للتحضير لمواجهة مشكلة المياه في أربيل والمناطق المحيطة بها.؟

ووفقا للوزارة سيتم تنفيذ العديد من مشاريع المياه مثل مد خطوط الكهرباء إلى الآبار، وتوفير المضخات الأفقية داخل المدينة، وصيانة مولدات الآبار، وشراء المعدات الضرورية لمشروع ماء الإفراز الثالث الذي يغذي المدينة بأكثر من نصف حاجتها من المياه، واستئجار الناقلات لتوزيع المياه في أربيل وضواحيها.

وضمن الحلول المطروحة لمعالجة المشكلة، أشار نائب محافظ أربيل هیمن قادر، الى خطتين، الأولى قصيرة المدى وتتمثل في حفر المزيد من الآبار، والثانية طويلة المدى عبر مشروع استراتيجي ينهي المشكلة بشكل جذري لكنه يحتاج الى تخصيصات مالية كبيرة.

لكن الكثير من أهالي مدينة اربيل التي تعاني نحو ربع أحيائها من انقطاع المياه لأيام واحيانا أسابيع، يرون ان الجهود الحالية للحكومة لا تتناسب مع حجم المشكلة، وهم يخشون من استمرار الأزمة في المناطق الجديدة وتلك التي يغلب عليها الطابع الشعبي والمكتظة بالسكان وهذا ما يدفع البعض منهم للانتقال الى العيش في التجمعات السكنية (compond)بما فيها العمودية التي توفر المياه بشكل شبه دائم.

وهو ما تفكر به مريم،لكن ذلك سيتطلب تأمين ضعف المبلغ الذي يمكن ان تبيع به منزلها الحالي اضافة الى تأمين مبلغ شهري للخدمات يبلغ في المتوسط 50 دولارا، كما سيكون ذلك على حساب خسارة مساحة معيشة خاصة بعائلتها تمتد لـ200 متر مقابل شقة لا تتعدى مساحتها الـ120 مترا.

أُنجزت المادة في إطار برنامج تدريب ضم صحافيات وصحافيين من العراق واليمن وغزة، تحت اشراف الجامعة الامريكية في بيروت وبدعم منظمة دعم الاعلام الدولي (IMS).

إقرأ أيضا