“العالم الجديد” تخوض في أسباب تعاظم “وحش الانتحار”.. وبابل في الواجهة

لم يعرف الانتحار عمراً محدداً ولا نوعا جندريا في بابل، فعام 2022 كان يقطف الضحايا…

لم يعرف الانتحار عمراً محدداً ولا نوعا جندريا في بابل، فعام 2022 كان يقطف الضحايا أطفالا ومراهقين ومسنين وشبانا، رجالاً كانوا أم نساءً، مرة ينهي حياتهم بسلاح الفقر والعوز ومرّات بسلاح الضغوط النفسية، لكنه، على ما يبدو، كان مفتونا بالنساء أكثر، فمعظم الحالات التي سجلت كانت الضحية فيها امرأة.

وتنفرد “العالم الجديد” بإحصائية رسمية عن عدد حالات الانتحار في بابل، منذ كانون الثاني يناير وحتى منتصف كانون الأول ديسمبر 2022، إذ سجلت المحافظة 28 حالة انتحار بواقع (حالتين كل شهر)، بينها لمراهقين وكبار في السن، لكن العدد الأكبر من الضحايا كان من حصة النساء، لاسيما الطالبات ممن يضعن حدا لحياتهن بعد فشلهن في النتائج الامتحانية.

وكانت مفوضية حقوق الإنسان، كشفت أواخر العام الماضي، أن العراق سجل منذ عام 2003 إلى 2014، ما نسبته 3.6 بالمئة من حالات الانتحار لكل 100 ألف نسمة، ولكن الأرقام ارتفعت بعد 2014 إلى 4.2 بالمئة لكل 100 ألف نسمة، ومن ثم تقلص العدد ليصل إلى 3.8 بالمئة في عام 2019، ثم ارتفعت النسبة من جديد نتيجة المتغيرات التي حدثت.

وبالعودة إلى بابل، فإن شهر تشرين الأول أكتوبر 2021، سجل عددا غير مسبوق بحالات الانتحار، فخلال 30 يوما فقط، وضع ستة أشخاص حداً لحياتهم لأسباب ودوافع مختلفة، وفي تفاصيل الحوادث التي أوردتها الإحصائية، فإن أعمار المنتحرين المختلفة تراوحت بين 14– 61 عاماً، فيما استعملت طرائق مختلفة لإزهاق الأنفس أغلبها الشنق.

أصغر المنتحرين في تشرين الأول أكتوبر الماضي، كان بعمر الرابعة عشرة، من سكنة مركز المدينة، في الصف الثاني من المرحلة الثانوية، شنق نفسه بواسطة حبل ملابس، بينما كان أكبر المنتحرين سنا في الحادية والستين من العمر، ويسكن مركز المدينة أيضاً. وذكرت الإحصائية أن بين الحالات الستة كانت حالتان فيها الضحية امرأة، مؤكدة أن إحدى الشابتين من مواليد 2001 أحرقت نفسها بعد سكب مادة النفط الأبيض على جسدها.

وتقول الباحثة الاجتماعية نجلاء كامل، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “الانتحار يمثل نتيجة نهائية للضغوط الاجتماعية، التي تنتجها العادات والتقاليد والأعراف، فضلاً عن العلاقات الأسرية المرتبكة، والضغوط المتعلقة بالممارسات المجتمعية، التي تضع الذوات محل انتقاد ورصد دائمين”.

وتضيف كامل، أن “أسلوب الانتحار يختلف بين الذكور والإناث، تبعاً لمجموعة من العناصر الثقافية والضوابط الاجتماعية، إذ تعاني الإناث من الضغوط والمحددات الأسرية، مع تعرضهن للعنف، والانتقاد المستمر، فضلاً عن رسم مستقبلهن المفترض، عبر إرغامهن على اختيار الشريك، وإرغامهن على انتقاء المظهر الخارجي المناسب، كل ذلك يؤدي إلى إتباع أساليب خاصة في الانتحار، يقف في مقدمتها الحرق والشنق”.

وحول انتحار الذكور، ترى الباحثة أنهم “أقل عرضة للضغوط المجتمعية أو ضغوط العائلة، لكنهم يتعرضون لضغوط لها تماس مباشر مع العامل الاقتصادي، فالشاب غير المتزوج يسعى جاهداً لأسلوب حياة يضاهي ما يتمتع به الشباب الأغنياء، الذين يمثلون أقلية مؤثرة، ما يؤجل من زاوج الشباب في كثير من الأحيان”، لافتا إلى أن “المتزوجين أكثر عرضة لضغط الزوجة والأبناء، في ما يتعلق بتلبية المتطلبات الأساسية، فضلاً عن مطالبة الزوجات بعد عام 2003 بالخصوصية والخروج من منزل عائلة الزوج”، مشيرة إلى “انفراد الذكور بأساليب انتحار، تبدأ باستخدام الأسلحة النارية، مروراً بالغرق في الأنهر والشنق”.

ولم يعاقب المشرّع العراقي على الانتحار ولا على الشروع فيه، بل عاقب على فعل الإسهام في الانتحار فجرّم من يحرض أو يساعد على الانتحار وذلك في المادة 408 من قانون العقوبات. وتنص المادة 408 من قانون العقوبات على أن “يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات من حرض شخصا او ساعده باية وسيلة على الانتحار اذا تم الانتحار بناء على ذلك. وتكون العقوبة الحبس اذا لم يتم الانتحار ولكن شرع فيه”.

إلى ذلك، يؤكد الطبيب النفسي وسام الذنون، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “للانتحار أنواعا عدة، النوع الأول هو الانتحار الاندفاعي، الذي يمثل مفاجأة، ونتيجة لحدث آني، وهذا النوع من الانتحار ينتشر عادة بين النساء، اللاتي يتعرضن في كثير من الأحيان للضرب أو للضغوط الشديدة واليأس الحاد، ليظهر الانتحار على هيئة حرق للجسد، غير مهتمة للآلام الشديدة التي ستعتري جسدها، وأضاف أن هذا النوع من الانتحار هو الأكثر انتشاراً في المجتمع العراقي”.

ويبين الذنون، أن “النوع الثاني هو الانتحار المخطط له”، مشيراً إلى أنه “ينتشر عادة بسبب الاكتئاب، الذي ينتج عن ضغوط اجتماعية واقتصادية متراكمة، يشعر الفرد أنه غير قادر على حلها، فيخطط لإنهاء كل ذلك بإنهاء حياته”.

أما النوع الثالث، بحسب الطبيب فهو “الانتحار المزمن، الذي يترافق عادة مع كبار السن، الذين يشعرون بيأس شديد، فلا يعالجون أنفسهم من الأمراض، ولا يتغذون جيداً، فيبدأ الجسد بالضمور شيئاً فشيئاً إلى أن تأتي مرحلة الوفاة”.

ويعزو أهم الأسباب النفسية للانتحار، إلى “اليأس الذي يتفرع لثلاثة أنواع، يأس لحظي ينتج سلوكاً لحظياً اندفاعياً، ويأس متأتٍ من الاكتئاب، الذي ينتج سلوكاً طويل الأمد، يتمثل بخطة لإنهاء الحياة، ويأس من الشفاء، تنتجه الأمراض والآلام، التي تعطي تصوراً مستقبلياً سوداوياً”.

وفي سياق التمييز، بين انتحار الذكور والإناث، يؤكد الذنون، أن “النساء تتبع في كثير من الأحيان أساليب الفرجة، تنتظر من الآخرين مزيداً من الرعاية والاهتمام، كبلع الحبوب وقطع الشرايين، عدا حالات الاندفاع اللحظية”، فيما أشار إلى أن “الذكور يتبعون أساليب انتحار صعبة الإنقاذ، كالقفز من مكان مرتفع أو الشنق أو الإغراق”.

وتعد ظاهرة الانتحار، من الظواهر التي بدأت بالانتشار في العراق، الذي بات يسجل ارتفاعا بأعدادها سنة تلو أخرى، ووفقا للمتحدث باسم وزارة الداخلية خالد المحنا، فإن حالات الانتحار المسجلة في العام 2016 كانت 393 حالة، وفي العام 2017 بلغت 462 حالة وفي العام 2018 بلغت حالات الانتحار 530 حالة، أما في العام 2019 فقد بلغت 605 حالات، وفي عام 2020 بلغت 663، وفي العام الماضي بلغت 772.

من جانبه، يفيد مستشار الصحة النفسية في وزارة الصحة الدكتور عماد عبد الرزاق، خلال حديث لـ”العالم الجديد” بأن “مجلس القضاء الأعلى كان قد نشر إحصائية حددت حالتي انتحار في العراق لكل 100,000 نسمة، أي ما يعادل 10 حالات لكل مليون نسمة، على أساس ذلك قامت وزارة الصحة بمهام ضرورية لتلافي ارتفاع أعداد الضحايا جراء الانتحار”.

ويوضح عبد الرزاق، أن “هذه الأرقام حتمت على وزارة الصحة القيام بإجراءات عملية وفقاً لإستراتيجية الصحة النفسية في وزارة الصحة، التي تؤكد زيادة وحدات الصحة النفسية وضمان جودتها، فضلاً عن توفير الادوية ووضع الدلائل العلاجية، وتطوير الكوادر العلاجية، عبر ورشات ودورات تدريبية يحاضر فيها متخصصون بالعلاج النفسي”.

ويتابع أن “إحدى مهام الإستراتيجية علاج الإدمان، كونه يسبب الانتحار، ويسير كل ذلك بالتوازي مع التوعية المجتمعية، وتوجيه الأفراد نحو مراجعة الوحدات النفسية وعدم الاكتراث للوصمة الاجتماعية؛ لمعالجة الأمراض النفسية، التي تؤدي لمضاعفات خطيرة، أبرزها الانتحار، مع توجيه الأسر بمتابعة المريض بعد مرحلة العلاج السريري، إذ من المرجح أن يعيد المقدم على الانتحار محاولات عدة تصل إلى 10 محاولات في بعض الأحيان، وأخيراً التعاون مع منظمتي الصحة العالمية وiom”.

ويذكر أن “وزارة الصحة تنشر فرقاً في مختلف المراكز الصحية، تعالج حالات الانتحار، وتتابع الناجين من محاولات الانتحار، لكنهم في الوقت يعانون ذاته من الوصمة الاجتماعية، التي تحيل أسر المنتحرين إلى رفض تدخل الأطباء النفسيين”، مشيراً إلى “تخوف الكثير من الأهالي على سمعتهم وتسلسلهم في السلم الاجتماعي”.

يذكر أن مفوضية حقوق الإنسان، أكدت مطلع العام الماضي، أن التعامل مع ظاهرة الانتحار كمعالجة شاملة، يتطلب معالجة الأسباب الدافعة، التي تتضمن تداعيات نفسية أساسها الفقر والبطالة، وبيئة السكن وما يتعلق بحرية الرأي والتعبير وموضوع تعزيز الثقة بالدعم المجتمعي، وتعزيز وجود الأعراف المجتمعية والتثقيف والوعي في الأسرة وإطلاق سياسية وطنية عليا لهذه الأمور.

إقرأ أيضا