خفايا “التجارة المسرطنة”.. إيقاف تهريب “السكراب” نحو كردستان

ينتهي مصير آلاف الأطنان من السكراب المهرّب من محافظات الوسط الجنوب إلى معملين للحديد الصلب…

ينتهي مصير آلاف الأطنان من السكراب المهرّب من محافظات الوسط والجنوب إلى معملين للحديد والصلب في إقليم كردستان، لكن هذا الطريق لا يبدو سالكاً الآن بعدما أقدمت الحكومة على قطعه، بيد أن هذا الشلل الذي أصاب عمليات التهريب مؤخراً أثار خلافات عميقة بين الحكومة و”جهات متنفذة” كانت تشرف على تغذية خط تهريب السكراب.

ويرجع متخصصون بالسياسة والاقتصاد، قطع الطريق أمام السكراب المهرب، إلى محاولة الحد من كافة عمليات التهريب، حتى وإن كانت مدعومة من جهات متنفذة ومسلحة، لاسيما أن طن “السكراب” المهرب يتم شراؤه بـ25 دولارا، ويعاد تصنيعه ويباع بـ800 دولار بمعامل الإقليم، فضلا عما يهرب لخارج البلد، وهذا يجري بمقابل تعطيل معامل الحديد والصلب الرسمية.

ويعد السكراب (الخردة) في العراق، ملكا للشركة العامة للحديد والصلب، وهو مال عام، وقد كشفت “العالم الجديد”، سابقا عبر سلسلة تقارير مدعومة بالوثائق، عن محاولات تاجر للسيطرة على شركة الحديد والصلب، عبر تغيير مدراء ودفع رشى في وزارة الصناعة والمعادن، بهدف الاستحواذ على “السكراب” وتهريبه.

ويكشف مصدر مطلع لـ”العالم الجديد”، أن “عمليات تهريب الحديد السكراب إلى إقليم كردستان والتي تسيطر عليها جهة سياسية متنفذة جرى إيقافها، ما أثار خلافات بينها وبين الحكومة الحالية، كذلك دخول جهات سياسية أخرى في الخلاف”.

ويذكر المصدر، الذي لم يشأ ذكر اسمه، أن “سعر الشاحنة الواحدة التي يتم تمريرها من قبل هذه الجهة للإقليم هو 1000 دولار، إلا أن هذه العمليات توقفت مؤخرا”.

وكانت “العالم الجديد”، قد كشفت التفاصيل الكاملة لمحاولة سحب ملكية “السكراب” من شركة الحديد والصلب وتحويلها إلى شركة الصناعات الفولاذية، الأمر الذي دفع شركة الحديد إلى إرسال كتاب رسمي لوزارة الصناعة تبين فيه أن سحب “السكراب” منها يؤدي إلى إيقاف عملية تأهيل الشركة ويوقف كافة مصانعها.

من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني، إن “موضوع تهريب السكراب أصبح ينفذ بشكل علني، حيث نشاهد الشاحنات محملة، وهي تذهب عبر كركوك نحو الإقليم”.

ويضيف المشهداني، أن “عمليات تهريب النفط كانت تجري عبر تصاريح مزورة، وتذهب بالحديد والسكراب إلى ديالى وكركوك، فإنه سيصادف ما لا يقل عن 100 شاحنة تأتي من محافظات مختلفة الإقليم”، لافتا إلى أن “بعض السكراب كان يستخرج من منشآت حكومية”.

ويتهم الخبير الاقتصادي “جهات سياسية وأمنية متنفذة بتوفير الحماية لهذه العمليات، وإلا فكيف يتم عبور هذه الشاحنات إذا لم تتم هذه عبر نداءات وتغطية من مافيات”، مؤكدا أن “السكراب المهرب يذهب إلى الإقليم، لتواجد معملين لحديد التسليح، فالحديد الخام ينصهر كله، وتتم إعادة صبه هو والرصاص والألمنيوم، وهو من المعادن النافذة مثل النفط التي تنعدم مواده الاًولية في كل مكان، وعليه تتم إعادة تصنيعها مرة أخرى”.

ويلفت المشهداني، إلى أن “إقامة معمل من هذا النوع في الإقليم، ليس منطقيا من الناحية الاقتصادية، لأن معامل الحديد يجب أن تكون قريبة من البحر لغرض تصديرها، إلا أنهم أغلقوا معمل الصلب في البصرة وافتتحوا معملا في الإقليم”.
 

وينوه وضح المشهداني، أن “مردود الحديد السكراب كبير جدا، إذ يصل طن الحديد السكراب من 25 دولارا إلى 100 دولار وبعد تصنيعه يباع تقريبا بسعر 800 دولار”.

وشكلت وزارة الصناعة والمعادن “لجنة سكراب الحديد” لبيع الحديد وفق قانون بيع وإيجار أموال الدولة رقم 32 لعام 1986 أو تحويلها إلى مصانع الحديد والصلب في البصرة أو شركة “نصر” العامة للصناعات أو مصانع القطاع الخاص الفولاذية.

من جانبه، يشير المحلل السياسي علي البيدر، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إلى أن “هذا الأمر يأتي في إطار المنهاج الوزاري لدعم موارد الدولة وتعظيم موازناتها من خلال استثمار الإمكانيات المتاحة بشكل مطلق لتعزيز بعض القضايا المتعلقة بتطوير الصناعات العسكرية والحربية، وحتى الصناعات التقليدية التي تعتمد على المواد الأولية كالحديد وغيرها من المعادن”.

ويضيف البيدر، أن “حكومة السوداني تعمل على توسيع دائرة الإصلاح وإيقاف كافة عمليات التهريب أو الفساد الممنهجة في رسالة واضحة منها بأن الحكومة مطلعة على كل شيء، وأن بعض الجماعات المسلحة مهما كان لها دور في المشهد السياسي، فإن هذا لن يجعلها بعيدة عن أعين السلطة أو دوائرها الرقابية أو أنها ستكون فوق القانون، بحسب ما يبدو من خلال تطبيق المنهاج الحكومي بشكل مطلق دون النظر لأي اعتبارات”.

وكانت لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية السابقة، أكدت في العام 2021، عزمها رفع تقرير إلى هيئة النزاهة يتضمن حجم تهريب “السكراب” والجهات المشخصة والمقصرة في ذلك وكيفية وصول الشاحنات المحملة بالحديد من البصرة ومحافظات أخرى إلى معمل الحديد والصلب في أربيل والسليمانية.

بدوره، يذكر الخبير في الشأن الاقتصادي جليل اللامي، خلال حديث لـ”العالم الجديد” أن “ملف تهريب السكراب من الملفات الشائكة التي لم تفرض الحكومات العراقية المتعاقبة السيطرة عليه منذ عام 2003 حتى الآن رغم الرقابة المستمرة للمنافذ الحدودية وحتى تلك التي بين المحافظات”.

ويضيف اللامي، أن “بعض الجهات التي تسيطر على التهريب، لديها طرقها الخاصة التي تتبعها في سبيل إيصال سكراب الحديد وغيره من بغداد والمحافظات إلى الإقليم، ومنذ العام 2013 عندما وافق مجلس الوزراء على بيع الحديد السكراب أو الخردة المتواجدة في دوائر الدولة ومخلفات الحرب وآليات الجيش والشرطة الخارجة عن الخدمة إلى القطاع الخاص”.

ويفيد بأن “القطاع الخاص اشترى كميات كبيرة من السكراب وهربها بطريقة غير قانونية خارج العراق، مستغلا فساد مؤسسات الدولة العراقية بل وصل الحال إلى بيع مكائن ما زالت صالحة للعمل على أنها سكراب وهربت إلى الخارج، لذا نجد أن اغلب السماسرة وتجار الخردة يحرصون على تهريب السكراب الى  خارج العراق، من أجل تدويره وتصنيعه من جديد وإعادة استيراده، ولكن هذه المرة على شكل حديد لمواد بناء وسيارات وأجهزة وغير ذلك، بدلا من استثمارها داخل البلاد ودعم السوق وتشغيل المئات من الشباب العاطلين”.

وكانت القوات الأمنية ضبطت 12 شاحنة محملة بالسكراب من موقع وزارة الصناعة والمعادن- شركة ديالى العامة للصناعات الكهربائية- معدة للتهريب إلى أربيل، وذلك في العام 2021.

البصرة.. تهريب وكوارث صحية

وفي البصرة، لا يبدو أن طريق التهريب مختلف، لكن “السكراب” هناك ينذر بخطورة صحية كبيرة، فسكراب البصرة معظمه من المخلفات الحربية الملوثة بالإشعاعات والمواد القابلة للانفجار.

فعلى حين غرة، أخذ السكراب من بقايا الحروب السابقة في البصرة، يختفي تدريجيا رغم خطورته وتلوثه بالإشعاعات وتسببه بالسرطان، فتجار وعاطلون عن العمل حولوه إلى بضاعة بخسة الثمن، حتى وإن كان دبابة محاطة بتحذير من التقرب إليها، كما يقول أحد من العاملين بجمع السكراب.

البصرة التي كانت مسرحا للحروب السابقة، ينتشر ما تبقى من تلك المخلفات وخردتها العسكرية على الحدود العراقية السعودية ومع الكويت بشكل أقل، ورغم وجود عناصر أمنية إلا أن هناك من أخذ يجازف بسلامته لنقل خردة الحديد إلى معامل لصهرها في البصرة ومحافظات أخرى لتعود من جديد على شكل حديد التسليح أو ما يعرف بشيش البناء.

من يزور مراكز شراء السكراب، وهي بحدود 10 مواقع منتشرة على طريق خدمي بين قضاء الزبير غربي البصرة وناحية سفوان الحدودية، يجد عاطلين رجالا ونساء يرونها مصدراً لرزقهم يتاجرون بها دون أي فحوصات غير مكترثين بما فيها من خطورة، بعدها تحمّل في شاحنات إلى معامل محلية وأخرى بالمحافظات.

يقول العامل الذي رفض الكشف عن اسمه خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “البصرة فيها معمل الإنماء الأهلي للحديد والصلب، وهو بجوار معمل الحديد والصلب الحكومي المتوقف عن العمل، بيد أن الأول يستقبل السكراب لصهره”.

ويضيف “نحن محاربون بهذه المهنة، فلا أحد يمنحهم الموافقات لعملهم، خصوصا لعبور السيطرات الأمنية، بخلاف الحال في كربلاء والحلة.

عامل آخر يتحدث لـ”العالم الجديد”، بصراحة أكبر، مبينا أنه يبحث عن ضالته في السكراب والعتيق بشكل “طائف” بمناطق داخل قضاء الزبير، دون تحديد، منها حي الشهداء والمربد والجوية والمكصب والمعامل ثم ينقل ما يجمعه إلى علاوي السكراب.

وعن السكراب الحربي، يؤكد تواجده في مناطق قرب المصفى والجوية والجسر “المضروب”، ولا يمكن الوصول له، لأنه محوط وتحميه عناصر من الشرطة، مبينا أن السكراب الحربي موجود، وبقيت منه نسبة قليلة بسبب الإقبال عليه على مدى السنوات الست الماضية.

ويشير العامل إلى أن “هناك من قام بنقل جزء من ذلك السكراب إلى معامل في بغداد وكركوك”، مبينا أن “تلك المعامل لا تسأل عن الحديد ومصدره، فهي تشتريه بسعر واحد سواء كان علبة أو حديد أو دبابة”.

سكراب قاتل!

وبالقرب من مركز الأورام الخاص بعلاج مرضى السرطان ضمن تشكيلات مستشفى الصدر التعليمي بالبصرة، يقف مواطن كبير في السن، بالقرب من المركز، ينتظر في الظل دوره لغرض الحصول على العلاج، إذ يتحدث لـ”العالم الجديد” عن تعرضه إلى تلوث بالدم بسبب نقله سكراب الجيش السابق مع عدد من أصدقائه، ويقول إنهم فارقوا الحياة جراء الأمراض من تلك المخلفات، ويبرر ذلك بأن المجازفة كانت تستحق لأن العائد المالي جيد، ولا يخفي ندمه على تلك التجارة الخطرة التي تركته مع مرض سرطاني، أضعف جسده وبات لا يتحمل شمس البصرة الساطعة.

ويؤكد مدير مكتب حقوق الإنسان في البصرة مهدي التميمي، خلال حديث لـ”العالم الجديد” أن “البصرة وقعت تحت تأثير مركب من عشرات الملايين للمقذوفات الحربية التي يحمل الكثير منها المواد المشعة وهذا من نتاج حروب 1991 و2003”.

ويضيف التميمي، أن “السكراب تحول إلى ما يدخل في عمليات بناء الدور السكنية والعمران والطرق وغيرها وهذا ما تسبب بزيادة نسبة التلوث.. فباتت البصرة تقتل بالسرطان”، مشيرا إلى أن “هناك ملايين المقذوفات والألغام وبقية مخلفات الحروب التي لا تزال تحتضنها محافظة البصرة”.

من جانبه، يرى قائممّقام الزبير عباس ماهر، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “هناك زيادة في نشاط جمع وبيع السكراب من مختلف مناطق الزبير، وتهريبه خارج المحافظة رغم التعليمات الصادرة بمنع إخراجه من داخل البصرة إلى المحافظات الأخرى”.

ويعزو ماهر، عمليات التهريب، إلى “فتح باب معامل الحديد والصلب والصهر خارج المحافظة أمام جهات حزبية، لأخذ ما تشاء منه”، مؤكداً أن “ذلك شكل خطرا على من يجمعون السكراب والذين ينشطون في مناطق لا تخلو من المقذوفات الحربية والمخلفات غير المنفلقة، وفي مناطق محرمة والتي ضربت بمادة اليورانيوم الأمر الذي يؤدي إلى وفيات وحصول بعض الأمراض السرطانية”.

ويشير إلى “وجود لجنة مشكلة برئاسة مستشار المحافظ تعمل على ذلك الملف بالتنسيق مع كافة الأجهزة الأمنية والوزارات ذات العلاقة لمنع تهريب السكراب والحصول على معلومات عن هكذا أشخاص ومداهمة هذه الأماكن والمخازن والتي يكون فيها جمع السكراب”.

من جانبه، يفيد مدير عام دائرة حماية وتحسين البيئة في المنطقة الجنوبية وليد الموسوي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، بأن “مواد الحديد من السكراب من الثروات التي يفترض أن لا يتم التعامل بها بطرق غير قانونية وعلمية، وعملية التصرف بها خلافا للقانون يعرض المخالف للمساءلة القانونية”.

ويضيف الموسوي “تمت مفاتحة الحكومة المحلية وقيادة العمليات والشرطة بعدم أحقية أي جهة أو شخص بالاقتراب من السكراب دون التأكد من خلو هذا السكراب من المخلفات الإشعاعية، ودور بيئة الجنوب يقتصر على هذا الجانب”.

ويلفت إلى “حصول أكثر من حالة يتم إلقاء القبض على أكثر من شخص محمل بسكراب الحديد يقوم بنقلها من منطقة إلى منطقة من دون أن يحصل على شهادة خلو السكراب من المواد الإشعاعية من الدائرة، لذا يتم حجزه وإشعار الدائرة من قبل القاضي المختص، ثم يأتي دور الدائرة بتوجيه فرقها بالإشعاع لتتأكد من خلو السكراب من المواد الإشعاعية”.

إقرأ أيضا