هجرتهم مستمرة والنازحون لا يعودون.. تحذيرات من نهاية الوجود المسيحي في العراق

​​​​​​​لم يكن قد مضى على عودة(ق.س- 54 سنة) إلى مدينة قره قوش مركز قضاء الحمدانية…

لم يكن قد مضى على عودة ق.س (54 سنة) إلى مدينة قره قوش مركز قضاء الحمدانية شرقي نينوى، سوى تسعة أشهر حين قرر العودة مجدداً إلى عينكاوا في محافظة أربيل التي كان قد نزح إليها مع عائلته في صيف 2014 إثر سيطرة داعش على مدينة الموصل مركز محافظة نينوى والمناطق المحيطة بها، ومن ضمنها البلدات المسيحية.   

يقول بأن عودته مع عدد من أفراد عائلته كانت في مطلع 2018، مع آمال وصفها بالكبيرة في تخطي الدمار الذي أحدثه داعش في الممتلكات العامة، ومنها منزلهم، لكنهم لم يجدوا بلدتهم قره قوش أو (بغديدا) مثلما يسمونها، كما كانت في السابق، إذ أن الغالبية العظمى من أقربائهم ومعارفهم لم يعودوا.

وتلاشت الآمال ببقائهم يوماً بعد آخر، بسبب سوء الخدمات العامة وقلة فرص العمل ووجود الميليشيات في سهل نينوى والخوف المستمر من تكرار ما وقع في 2014 :”كل ذلك جعلنا نعود أدراجنا كما فعل كثيرون مثلنا” يبرر(ق.س) مؤكداً بأنه ينتظر ومنذ ثلاثة سنوات فرصة للهجرة ملتحقاً بثلاثٍ من أشقائه في أوربا واستراليا.

يشير العضو المؤسس لتحالف الاقليات العراقية، لويس مرقوس أيوب، إلى أن نحو 45% من المسيحيين الذين نزحوا في 2014 عادوا الى مناطقهم وأكثر من 50% تركوا البلاد فيما بقي ما بين 3-5% في المناطق التي نزحوا إليها داخل إقليم كردستان.

وقسم ممن عادوا إلى مناطقهم، لم يعودوا بنحو دائمي، إذ غيروا وجهاتهم لاحقاً سواء إلى المناطق التي استقروا بها في رحلة النزوح أو التحقوا بأقارب لهم من المهاجرين عن طريق لم الشمل أو الأمم المتحدة أو سلكوا طرق التهريب المتعددة.

هجرة باتت تهدد الوجود المسيحي في العراق، ولاسيما بعد أن تقلصت أعدادهم وفقاً لإحصائيات غير رسمية من 1.5 مليون نسمة في 2003 إلى فقط 260 ألفاً في 2022، وقد حذر بطريرك الكلدان الكاثوليك، الكاردينال لويس روفائيل ساكو، من تناقص أعداد المسيحيين وقال بأن نحو 20 عائلة تهاجر البلاد شهرياً، لأنهم “وبعد ثماني سنوات من تهجيرهم من مناطقهم، يشعرون بالخيبة والافتقاد للحد الأدنى من المواطنة”وفقاً لتعبيره.

الخيبة المسيحية تلك ألقت بضلالها على عودتهم لمدينة الموصل، مركز محافظة نينوى، التي كانت تسكنها قبل احتلال داعش لها في 2014 نحو 5 آلاف عائلة مسيحية، لم يعد منها بعد تحريرها في صيف 2017 سوى 70 عائلة فقط، تضم أقل من 150 فرداً، حسبما أفاد القس رائد عادل مسؤول كنائس الموصل للسريان الكاثوليك.

لافتاً إلى أن آلافاً من عائلات المدينة من العرب السنة كذلك لم تعد، بسبب الواقع الخدمي السيء، حسب تبريره.  وذكر القس بأن هنالك 35 كنيسة وديراً ومركزاً مسيحياً في الموصل، دمر بعضها بالكامل أو تضرر خلال حقبة داعش أو حرب التحرير منه وقد أعيد إعمار قسم منها، مثل كنائس (البشارة ومار توما ومار بولص)، وهي الوحيدة التي تفتح أبوابها وتستقبل المسيحيين القادمين من خارج الموصل وداخلها.

المسيحيون هدفاً للجماعات المسلحة

قصة استهداف المسيحيين في العراق بنحو عام، بدأت مع انهيار النظام العراقي السابق في 10 نيسان/أبريل2003، وارتفعت معدلاته بنحو كبير في نينوى بعد 11/11/2004، أو ما يعرف في الموصل بالسقوط الثاني، عندما سيطر مسلحون من تنظيم القاعدة على مراكز الشرطة، واقامت نقاط تفتيش في شوارع مدينة الموصل في ظل تواجد القوات الأمريكية التي كانت تحتل البلاد وانكفأت في ذلك اليوم داخل قواعدها. 

وشاعت وبنحو شبه يومي عمليات تفجير السيارات والعبوات الناسفة في الشوارع الرئيسية والفرعية داخل مدينة الموصل وكذلك في الاقضية والنواحي المرتبطة بها، فضلا عن اغتيال منتسبي الأجهزة الأمنية، وخطف وتهديد وقتل المدنيين بتهم الكفر والردة عن الإسلام والعمالة للمحتل أو عدم دفع الاتاوات.

يذكر الباحث عادل كمال، أن الجماعات المسلحة ورجال دين كانوا يروجون في الجوامع بأن غزو الولايات المتحدة للعراق هو “غزو صليبي” هدفه تدمير المسلمين في كل مكان وتحديداً في العراق “لذلك فان المسيحيين كانوا من بين أوائل الأقليات التي تم استهدافها”.

ويضرب على ذلك مثالاً، قرص مدمج وزعته القاعدة في الموصل بعد 2004 تضمن مقطع فيديو يظهر عناصر تابعين له وهم يقطعون رأسي مسيحيين ويضعونهما في دلوين معدنيين، وقال عنصر ملثم بأن تهمتهما التعاون مع القوات الأمريكية في منطقة القصور الرئاسية داخل الموصل.

ووفقاً لكمال، فأن الاستهدافات تلك “سعت الى خلق حالة من الرعب” ودفعت آلاف المسيحيين سواءً في الموصل أو غيرها من المدن العراقية إلى النزوح صوب بلدات المسيحيين في قضائي الحمدانية و تلكيف بسهل نينوى وأيضاً إلى إقليم كردستان حيث لم يظهر نشاط للجماعات التكفيرية المسلحة هناك.

ويقول بأن استهداف الأقليات أصبح ظاهرة رغم كونها ليست طرفا في الصراع الطائفي “الشيعي السني” ولا حاملين للسلاح، وبدا كأنها حملات لتفريغ مدن كاملة منهم :”في كل مرة كان يتم استهداف أقلية بعينها، فمرة يقتل أو يختطف مسيحيون، ومرة أخرى يحدث ذلك للإيزيديين أو للشبك أو الكرد وهكذا”.

تقدر مصادر غير رسمية، أعداد ضحايا المسيحيين في عموم العراق جراء استهداف الجماعات المسلحة من سنة 2003 لغاية 2014 بنحو 1000 شخص. كان من بينهم قساوسة عدة كالمطران بولص فرج رحو رئيس أساقفة الكنيسة الكلدانية في نينوى، الذي قتل في الموصل يوم 13/3/2008. والقس يوسف عادل عبودي راعي الكنيسة السريانية في بغداد، الذي قتل في منزله وأمام أفراد أسرته في نيسان/أبريل 2008.

في 10 حزيران/يونيو2014، سيطر عناصر داعش على نينوى التي كان يقطنها نحو أربعة ملايين نسمة بعد انسحاب جميع قطعات الجيش والشرطة العراقيين منها، مع حدوث أكبر موجة نزوح عرفتها المحافظة عبر كل تاريخها، قدرتها جهات دولية بنحو مليوني نازح، لكن مع ذلك لم يغادر جميع المسيحيون يومها.

الكاتب المتخصص في شؤون الأقليات جرجيس توما يفسر ذلك بقوله: “الأمر لم يكن واضحا تماما بالنسبة للكثيرين في نينوى حينها، فانسحاب الجيش العراقي ومنتسبي الشرطة المحلية والاتحادية الفجائي، خلق حالة من الفوضى في الموصل والبلدات المحيطة بها، وأشاع تنظيم داعش بأن عناصره إنما ثوار عشائر وسينسحبون بعد اكمال مهمتهم لتسليم السلطة بأيدي حكومة يختارها أهالي المحافظة”.

ويتابع: “لكنها كانت خدعة، إذ وزع التنظيم منشورات ورقية في 12تموز/يوليو2014، خير فيها المسيحيين بين البقاء ودفع الجزية للتنظيم أو المغادرة أو القتل. وهكذا فضل المسيحيون المغادرة، وصادر التنظيم كل ممتلكاتهم، وكتب عناصره حرف (ن)باللون الأحمر على جدران منازلهم، وهو الحرف الأول من كلمة نصراني، في إشارة إلى أن المنزل مصادر”.

شروط العودة

العضو المؤسس لتحالف الاقليات العراقية لويس مرقس أيوب، يشترط لعودة المسيحيين وغيرهم من الأقليات التي نزحت عن مناطقها أن يتم تحييدها عن الصراع بين حكومة المركز وأقليم كردستان، ويقصد بذلك منطقة سهل نينوى التي تدخل صمن ما يعرف بالمناطق المتنازع عليها بين الحكومتين.

وضرورة تعويض المتضررين واعمار ما تم تدميره بسبب غزو داعش، وإعطاء لكوتا الاقليات حق النقض( الفيتو) على ما يصدر من قوانين وقرارات تمس حقوقهم الدينية والثقافية واللغوية والفكرية .

وأن يتولى أبناء الأقليات بمن فيهم المسيحيون الأمن في مناطقهم عبر الجيش والشرطة العراقيين وليس الحشد الشعبي، ويقول: “أي أن تشكل أفواج شرطة محلية من ابنائهم ضمن وزارة الداخلية أو وحدات جيش من ابنائهم تابعة للجيش العراق هي من تقوم بمسك المناطق الخاصة بهم “.

ومنحهم شكلاً إدارياً يتيح لأبنائهم أن يكونوا هم المسؤولين بعيداً عن تأثيرات الأحزاب السياسية الحاكمة، ويكون هذا الشكل الإداري مرتبطاً بالحكومة الإتحادية وبتوصية وحماية أممي .وفتح قنوات للاستثمار في مناطقهم لأبنائهم ولمن هاجر منهم تحديداُ، لكي لا يكون هناك استغلال وتغيير ديموغرافي جديد في تلك المناطق.

لويس مرقس أيوب

ويشترط أيوب أيضاً، منع إقامة الشعائر الدينية الشيعية وبناء الحسينيات في مناطق المسيحيين، وتفعيل قانون التعويض للنقص في الملاكات الوظيفية للمسيحيين ليكون من ابنائهم حصراً كما نص القانون.

وتعديل المادة 26 من قانون رقم 3 لسنة 2016 – قانون البطاقة الوطنية- التي يقول أن فيها تمييزاً يصفه بالخطير لصالح المسلمين على حساب المسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين، ويبين:”لأنها تجبر الاطفال القصر ممن أسلم أحد ابويهم بأن يسجلوا كمسلمين في السجل المدني على دين من أسلم من أبويهم على خلاف القاعدة الشرعية للفقه الاسلامي التي تنص على – لا إكراه في الدين- ، وكذلك تسمح لغير المسلم من تغيير دينه، ولا تسمح للمسلم بذلك”.

وأخيراً تشريع قانون المكونات وفق المادة الدستورية (125) والتي تنص على ” يضمن هذا الدستور الحقوق الادارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان، والكلدان والآشوريين، وسائر المكونات الاخرى، وينظم ذلك بقانون”.

ويرى أيوب بان من شأن تطبيق كل ذلك وقف هجرة المسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية في العراق و”تحافظ على من بقي منهم في بلدهم الأصلي، وبخلافه لن يكون العراق بلداً متنوعاً بمكوناته الدينية والفكرية والثقافية، لأن التطرف في العراق يزداد يوماً بعد يوم تجاه غير المسلمين بشكل عام وضد المسلمين السنة بشكل خاص، وهذا بسبب هيمنة الاحزاب الراديكالية الاسلامية الموالية لنظام ولاية الفقيه الإيراني”.

يلخص (و.ت -45 سنة) الواقع الحالي للوجود المسيحي في الموصل، وهو يقود كل يوم سيارته من دهوك باتجاهها كونه مازال موظفا في جامعتها، لكنه يفضل الاستقرار شمالا على بعد 60 كلم: “لم يرجع أي ممن أعرفهم، يخشون جميعا من ألف احتمال سيء. هذه مدينتنا التي ولدنا وكبرنا فيها وشكلت هويتنا، لا نحب تركها لكننا مرغمون”.

في الجهة الشمالية للموصل، يشير الى كنيسة ماركوركيس المبنية على تلة. ويقول بأسف “إنها مغلقة، لم يعد هناك مصلون في الأحياء القريبة لزيارتها”. ويمضي بسيارته الى الجانب الأيمن المدمر من المدينة، يقترب من موقع (كنيسة الساعة) التي يتم ترميمها، ويردد “لا أعرف أحدا عاد الى المدينة القديمة التي لم يكن يكاد حي واحد يخلو من وجود مسيحيين فيها”.

ميليشيات وفكر داعشي

الباحث في الشأن العراقي، ياسر بختيار زكي يربط عدم عودة الكثير من المسيحيين بعد تحرير مناطقهم من داعش بين 2016-2017 بوجود ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية في سهل نينوى وفرض سلطتها المطلقة على المكان بدلاً من قوات البيشمركة الكردية التي انسحبت في 2014.

وقد أشار الكاردينال ساكو إلى ذلك في مقال نشره يوم 20تشرين الثاني /نوفمبر2022، وانتقد فيه سياسياً مسيحياً لم يسمه :” بين حين وآخر يخرج سياسي مسيحي ليعلن بشكل لا يُصدَّق ان الحشد الهي؟ رغم أن المرجعية الشيعية الرشيدة نفسها لم تستخدم هكذا وصف.. كما يستعمل صوراً للعذراء مريم وللسيد المسيح وصلباناً في مسيرات وكأننا في حرب صليبية. استعمال الرموز الدينية في غير محلها ووقتها يُعَد تدنيساً لها!”.

وتحدث عن برلماني مسيحي أمتدح في قناة العهد الفضائية (الشيخ الخزعلي) مسؤول ميليشيا عصائب أهل الحق، واصفا إياه بأنه مطبَّق لتعاليم المسيح وأخلاق المسيح، وقال ساكو:”مع كل احترامي لسماحة الشيخ الخزعلي هذا الوصف يتقاطع مع الآداب العامة. فالشيخ الجليل مسلم شيعي، يطبق الشريعة الإسلامية وليس التعليم المسيحي؟ لا أفهم لماذا تُقحَم الديانات في السياسة وتشوَّه؟ هذه الأقنعة يجب ان تُرفَع”.

وتساءل الكاردينال:”هل ستتغير النظرة الى المسيحيين؟ هل سيتم الاعتراف بهم كمواطنين متساوين، وهم يشكّلون ثاني ديانة سماوية في العراق؟ هل سيُنصَفون بعد كل هذه المضايقات والانتهاكات؟ هل أن مشروع الإصلاحات السياسية والتشريعية والمؤسساتية التي دعت إليها كتلة سماحة السيد مقتدى الصدر وحكومة اقليم كردستان، وكتل أخرى ستشمل المسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين، سكان البلاد الأصليين الذين ولاؤهم للعراق، حتى الذين تركوه مرغمين”.

ساكو يقول بتوضيح أكثر: “المسيحيون يعيشون حالة من الإحباط بسبب قوانين الأحوال الشخصية المُجحِفة كأسلمة القاصرين، وأسلمة أشخاص اُكرهوا على الإسلام من قبل القاعدة أو تنظيم داعش تحت التهديد بالقتل”.

واستدرك: “من يحمي المسيحيين المسالمين الموالين لوطنهم، إذا الدولة لا تحميهم؟ هذه انتهاكات موجعة، ولها تداعيات على سمعة العراق؟  وبكل ألم أقول: ان كنت لا ترغبون في بقائنا مواطنين متساوين في بلدنا العراق، فقولوا لنا صراحةً، لندبِّر الأمر قبل فوات الأوان”.

يقول فادي صباح، وهو موظف حكومي في الاربعينات من عمره، ويتابع باهتمام تراجع اعداد المسيحيين في البلاد: “اذا كان اندثار الوجود المسيحي غير قابل للملاحظة في بغداد أو حتى الموصل، رغم أن احياءهم فرغت وكنائسهم باتت بلا مصليين، فان الأمر واضح تماما في بلداتهم التاريخية بسهل نينوى”.

يشير بأصبعه على خارطة انتشارهم عبر جهاز الحاسوب، ويتابع: “حين تزورها تجدها شبه فارغة، بيوت مغلقة الأبواب وأسواق مهجورة، وأحياء كاملة بلا أمهات يفترشن عتبات المنازل كما كانت تجري العادة ولا أطفال يلعبون في الأزقة”.

ويتابع، بينما يسحب صورا من درج مكتبه:”الامر لا يتعلق بنينوى فقط، أنظر الى هذه الصور لأحياء مسيحية في دهوك وزاخو، لقد فرغت بدورها، رغم الاستقرار الأمني ونوعا ما الاقتصادي”. تأخذه لحظة شرود ثم يقول بتردد:” كل يوم هناك مسيحيون يهاجرون ولا أحد يعود.. لن يكون لنا وجود هنا بعد سنوات”.

*أنجز التقرير، باشراف شبكة نيريج للتحقيقات الإستقصائية، وبدعم “صندوق دعم التحقيقات في شمال إفريقيا وغرب آسيا”

إقرأ أيضا