“المجسمات الخشبية”.. كيف أحيا شاب بصري إرث المدينة الفني؟ (صور)

من قضاء أبي الخصيب جنوبي البصرة الذي عرف أهله بامتهان صيد الأسماك والنجارة، يحاول محمد…

من قضاء أبي الخصيب جنوبي البصرة الذي عرف أهله بامتهان صيد الأسماك والنجارة، يحاول محمد الحفاظ على إرث أجداده الذي أخذ بالزوال تدريجياً، من خلال صناعة مجسمات خشبية للقطع البحرية القديمة التي كانت تشق البحر بحثاً عن رزقها.

تلك المجسمات كانت محطّ اهتمام الخليجيين الذين توافدوا إلى البصرة لحضور كأس الخليج العربي الذي انتهت فعالياته الشهر الماضي، واشتروها كهدايا نادرة، فهذه السفن تمثل ثقافة مشتركة وإرثا متأصلا لأبناء البصرة والخليج على مدى التاريخ.

محمد من مواليد 1991 تخرج من الأكاديمية البحرية عام 2015 واستهوته السفن بكل تفاصيلها بعد أن درسها أكاديميا، إذ امتلأت غرفته بالمصغرات الجاهزة للسفن والبواخر حتى دفعه الفضول إلى صناعتها بيده نتيجة عشقه لها.

وهو يمسح على جانب هيكل مصغر لسفينة بحرية، يتحدث محمد لـ”العالم الجديد” عن “البداية التي كانت صعبة لقلة الخبرة ونقص المواد، بعدها بدأت تتطور مهارتي بشكل تصاعدي وامتلأ المنزل بالأدوات التي تدخل ضمن صناعة مصغرات السفن حتى تطلب الأمر إنشاء مشغل صغير في المنزل لتجميع تلك المواد”

وكون العائلة تمتهن النجارة لم يصعب عليه توفر الخشب والمواد المستخدمة لقطعه، يضيف محمد “زاد عدد المصغرات ولم يعد في المنزل مكان إلا وفيه قطعة أو اثنتين، والهواية أصبحت إدمانا”.

ويكمل أن “تلك المصغرات نالت إعجاب ضيوف العائلة من أقرباء وأصدقاء، وبات كل منهم يخرج من المنزل ومعه هدية، إلى أن اقترح أحد الأصدقاء أن أجعل من هذه الهواية بابا للرزق”.

أدخل هذا الاقتراح محمد في صفحة جديدة من حياته بعدما بات يصنع المصغرات ويعرضها، ليبيع العديد منها وبأحجام وأسعار مختلفة فمنها بيع بمليون دينار عراقي، على حدّ قوله.

ويؤكد محمد أن “العائلات الجنوبية تهوى السفن لما تحمله من أثر تاريخي يذكرهم بالأجداد وعملهم آنذاك في البحر”، لافتا إلى أن عدم حصوله على فرصة عمل جعله يتفرغ تماما لصناعة المصغرات.

قادت هذه الحرفة الموهوب محمد، للتطوع في شعبة الأشغال اليدوية التابعة لتربية البصرة كونها تتضمن أقساما تعنى بالفنون التي تعتمد على الحرف اليدوية ومنها النجارة من خلال سحبها إلى منطقة الفن، وسنحت له الفرص في أن يشارك بتلك المصغرات على هامش مهرجانات عدة تقام في مدينته منها مهرجان المربد الشعري ومعارض شركة الموانئ العراقية.

 وكانت مناسبة بطولة خليجي 25 فرصة لأن يخرج عن النطاق المحلي بعدما استطاع جذب اهتمام السياح الخليجيين وكذلك أبناء المحافظات الأخرى، إذ نشطت ورشته خلال هذه الفترة.

ويعرب محمد عن أمله في أن “تكون البصرة قبلة سياحية نشطة يستطيع أبناؤها إظهار إبداعهم للآخرين”، مؤكدا أن “هناك مواهب أخرى تحتاج إلى مثل هكذا فرص، ومواهب أخرى مدفونة في المنازل إما لخجل أصحابها أو قد تكون فتاة من عائلة متحفظة فيصعب إظهارها”.

وللمرة الأولى تشهد البصرة امتلاء الفنادق الرسمية وفنادق الخمس نجوم والشعبية بشكل تام دون وجود أي شاغر، وغالبتهم من مواطني دول الخليج، وهو أمر لم يحدث سابقا في المنطقة الجنوبية، وذلك خلال بطولة كأس الخليج العربي التي أقيمت فيها الشهر الماضي.

وتتفحص الكويتية رنا الغانم (46 عاما) حقيبتها التي امتلأت بمجسمات ومصغرات السفن والأبلام المائية، قبل أن تقول لـ”العالم الجديد”: “اشتريت أكثر من قطعة من تلك السفن الصغيرة، واحدة سأضعها في احد أركان صالة الضيوف والبقية سأقدمها كهدايا، فلم أر مثلها في بلدي وبلدان أخرى سافرت لها”.

وتضيف الغانم أن “المتوفر في الأسواق عادة ما يكون من صنع معامل، أما هذه السفن فأشعر أن هناك يدا بشرية تركت إبداعها عليها”، مؤكدة أن “بيئتنا وجغرافيتنا المطلة على البحر وثقافتنا الخليجية تفضل هكذا نوع من المصغرات ذات طابع تراثي وحضاري، كما أن الأسعار لا تحمل مبالغة وهي مناسبة جدا وأتوقع أن صانعها لم يحصل على الربح الوفير”.

يذكر أن “العالم الجديد”، تناولت في تقرير سابق، توجه المواطنين من دول الخليج، إلى اقتناء المدفأة النفطية العراقية “علاء الدين”، كنوع من الإنتكيات لوضعها في منازلهم، فضلا عن شرائهم حلوى “نهر خوز” الشهيرة في البصرة.

من جانبه، يقول مدير شعبة الأشغال اليدوية التابعة لقسم الإعداد والتدريب في البصرة عمار حسون، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “الشاب محمد هو واحد من بين الكثير من المواهب التي تحتاج إلى دعم واحتضان، وبعيدا عن موهبة محمد هناك العديد من المواهب يجب أن لا نستصغر شأنها مهما كانت ومن أي شخص، بالتالي هي موهبة حضي بها فرد وعلينا أن نمنحه كل السبل المتاحة لتطويرها فما أن تنجح فأن نجاحها سينعكس إيجابا على صاحبها ومدينته والبلد”.

ويضيف حسون أن “محمد يشغل جل وقته في ورشة النجارة ولا نسمع له صوتا عدا صوت أدوات قطع الخشب، ودائما ما يكون أول المتقدمين في أي معرض أو مهرجان نشارك فيه وأعماله تأخذ حيزا يحظى بإعجاب المتلقين”، لافتا إلى أن “محمد سيحظى بفرصة التثبيت على الملاك الدائم بعد أن شمله قرار تثبيت المتطوعين والعقود وسيكون عنصرا هاما وفعالا في إنعاش فرع النجارة لدينا بشكل دائم”.

يذكر أن المشجعين من دول الخليج، تجولوا في البلد، وقد شوهدت عجلاتهم وخاصة التي تحمل لوحات تسجيل دولة الكويت في العاصمة بغداد، حيث زاروا أبرز معالمها.

ويؤكد علي عبد الباري (43 عاما)، وهو فنان تشكيلي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “مجال الفنون الجميلة متاح أمام الجميع ولا يقتصر على فئة دون غيرها، ما دام أن هناك موهبة يمتلكها الفرد، ومحمد رغم أن تخصصه بعيد عن الدراسة التشكيلية إلا أن هوايته تدخل في صلب الفن”.

ويضيف “في بعض دول العالم لاسيما في أوربا، تنال مثل هكذا فنون رعاية خاصة كونها مميزة ونادرة قياسا بالفنون الأخرى، وصناعة المصغرات لا تخلو من الجهد كونها تحتاج إلى الدقة المتناهية في تصميم ورعاية النسب والقياسات فضلا عن ضرورة توفر الاحترافية، وأنا كفنان أعي حجم الصعوبة في تحقيق مجسمات متكاملة تماما وبأحجام صغيرة جدة تحاكي الواقع بشكل تام، وبلوغها مرحلة من الواقعية”.

ويتمنى على “الحكومة الالتفات لمثل هكذا مواهب فهي بالتالي نقطة جذب للسياح فضلا عن كونها بابا من أبواب ازدهار البلد ثقافيا وفنيا وأتمنى أن يكون هناك مكان يسمح فيه لتلك المواهب بالتجمع بغض النظر عن التحصيل الدراسي أو الفئات العمرية ومن كلا الجنسين ليكون بذلك ملتقى إبداعيا يتخطى كافة الحواجز التي تقف حائلا أمام الموهبة الربانية التي يتميز بها البعض دون غيرهم من البشر”.

وتفتقر المنتجات المحلية العراقية، إلى الدعم اللازم لغرض تويرها، سواء الصناعية أو الغذائية، وما يجري لا يتجاوز المجهود الفردي، وغالبا ما يتجه أصحاب المهن أو المنتجات إلى الترويج لما ينتجوه وتطويره بالاعتماد على جهودهم فقط.

إقرأ أيضا