وجودهما مهدد.. الصابئة والكاكائية حين تلاحقهما حملات التشويه والتهميش

لم يحمل التغيير في نيسان 2003 بولادة نظام سياسي جديد ودستور اتحادي يقر بوجود المكونات،…

لم يجلب التغيير السياسي بعد نيسان أبريل 2003، لأبناء الطائفة الكاكائية، الاستقرار والاعتراف الرسمي الذي كانت تنتظره، وظل المكون الذي ينتشر في عدة محافظات شرقي البلاد، يعاني من الاستهداف الممنهج وحملات التشويه التي واجهها بالمزيد من الانزواء أو الهجرة حتى بات وجوده مهددا في عموم البلاد. 

الكاكائية أو (يارسان) أو ما يعرفون في إيران بـ(أهل حق)، هو معتقد ديني منتشر في دول عدة بالشرق الأوسط بينها العراق وإيران، فيما يرتبطون قومياً بالكرد، لكن معتقدهم الديني الخاص يشير إلى أنهم ليسوا مسلمين كما يعتقد الكثيرون في العراق، بسبب محاولتهم الدائمة للانصهار بمحيطهم خوفاً من الاستهداف وفقاً لما يقوله علي كاكائي وهو شاب جامعي ترك قريته في كركوك قبل ثماني سنوات ليستقر في أربيل مثل آلاف آخرين من الكاكائية، هربا من هجمات التنظيمات المسلحة.

يقول علي: “الكاكائيون طوال قرون حافظوا على هويتهم الدينية والثقافية المتميزة، ساهم في ذلك وجودهم في مناطق جبلية كـ”هورمان” أو قرى منزوية في كركوك والسليمانية وأربيل ونينوى، بعيدا عن المدن الكبيرة، لكن السنوات العشرين الاخيرة كانت الأشد عليهم”.

يوضح الشباب الذي يكمل دراسته العليا في حقل التاريخ: “كنا حينا نستهدف بسبب انتمائنا القومي، وحينا نستهدف بسبب انتمائنا الديني. تم تفجير مزاراتنا الدينية وتعرض المئات من أبنائنا للاختطاف والقتل، هذا أثر على وجودنا وأدى الى اخلاء العشرات من قرانا”.

كما هو الحال بالنسبة لباقي الأقليات، لا توجد إحصائية دقيقة بشأن أعداد الكاكائية الموجودين في العراق، وكل ما استطعنا التوصل إليه من مصادر غير رسمية أن أعدادهم تبلغ 120 ألفاً وهم متواجدون بحسب الناشط رجب عصمت كاكائي في المناطق التالية:” حوالي مائة عائلة متوزعين داخل العاصمة بغداد. وفي ناحيتي دوو شيخ، قزانية ومندلي وقضاء بلدروز وقرى تابعة لقضاء خانقين وايضا احياء في مركز القضاء. وفي أقضية كلار وكفري وجمجمال وأحياء داخل مركز محافظة السليمانية. وقرى وأحياء في مركز محافظة حلبجة. قرية صفية قضاء خبات وأحياء في مركز محافظة اربيل. قرى في سهل نينوى وأحياء في مركز مدينة الموصل. قرى بقضاء داقوق وأحياء في مركز محافظة كركوك” .

ولفت رجب إلى أن الكاكائية أو اليارسانية هي ديانة توحيدية تؤمن بإله واحد وبأزلية الروح وتجسدها في شخصيات مختلفة(سفر الروح)يصومون ثلاثة أيام ولديهم صلاتان واحدة عند الفجر والأخرى عند الغروب، على شكل دعاء، ويحجون إلى مرقد سلطان إسحاق في قرية رديور في هورمان لهون، داخل إيران على الحدود العراقية الإيرانية.

و(سيد هياس) هو أقدس مزارات الكاكائية في العراق، ويقع في قرية وردك شرقي مدينة الموصل، فجره عناصر تنظيم القاعدة في أواخر سنة 2004، فتم إعماره لاحقا، ليقوم عناصر تنظيم داعش بتفجيره مجدداً في حزيران/يونيو2014، وبني مجدداً وافتتح في أواخر 2019.

ويعبر رجب عن قلقه العميق بشأن مستقبل معتنقي الديانة الكاكائية، بسبب: “عدم الاعتراف بها في الدستور العراقي وكذلك التحولات الأمنية بسبب وجود بقايا مسلحي داعش و المشاكل العالقة بين بغداد وأربيل وهذه الأسباب تؤدي الى ترك مناطقهم أو التصنع بانهم مسلمين حفاظا على أرواحهم”.

وأكد سعي الكاكائية للحصول على التمثيل في الحكومات المحلية أو مجلس النواب العراقي، لكنه يستدرك: “لكن أولاً علينا الحصول على الاعتراف بوجود الديانة الكاكائية (يارسان) ! ” .

لكن الاعتراف هذا صعبٌ جداً، كما يقول المؤرخ عبد الهادي الشكيب، لكون الاتجاه العام في العراق ديني إسلامي، ويقول: “الأنظمة السابقة ومهما حاولت أن تفضي على نفسها صفات التسامح وقبول الآخر إلا أن الميل نحو الطائفة كان واضحاً، وكذلك الحال بالنسبة للنظام العراقي الحالي الذي يسيطر عليه الشيعة بحكم أنهم الأغلبية في البلاد”.

ولهذا يرى الشكيب، بأن الأقليات التابعة لديانات يصفها بـ(غير السماوية) تتهم بالكفر “ليس فقط من قبل السلطات الحاكمة، بل حتى أيضاً من قبل المجتمع المحيط، ثم بلغ الأمر ذروته بعد 2003 حين ظهرت الجماعات التكفيرية المسلحة التي قتلت الكثيرين بتهمة الكفر ومن بينهم الكاكائيون، ودمرت قراهم ومزاراتهم في سهل نينوى واستولت على أملاكهم ولاسيما بعد 2014”.

وكنتيجة لذلك، لجأ الكاكائيون إلى إخفاء معتقدهم ومزاولة طقوسهم الدينية بسرية تامة، واتباعهم ما يعرف بـ(التقية) أي عدم قيامهم بطقوس معتقدهم علناً، لحماية أنفسهم من الاستهداف. لكن مع ذلك وبسبب مظهر رجالهم المميز بامتلاكهم شوارب كثة، كان من السهل أن تستدل الجماعات المسلحة عليهم.

والاستهداف هذا يكون مضاعفاً في إيران حيث تواجدهم الأكبر الذي يقدر بنحو مليوني شخص:”ففضلاً عن معتقدهم، يتم استهدافهم أيضاً بسبب قوميتهم الكردية” يقول الشكيب.

وبالعودة للعراق، فقد تعرضت مناطق الكاكائية في السنوات التي اعقبت استعادتها من تنظيم داعش، لهجمات عديدة، حيث استغل التنظيم ضعف الانتشار الأمني فيها فشن هجمات أوقعت 16 قتيلا وهو ما دفع الكاكائية الى المطالبة بتشكيل قوة خاصة بهم او تكليف قوة مشتركة من الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم لحماية مناطقهم كونها مناطق متنازع عليها دستوريا.

الى جانب ضعف الجانب الأمني، تواجه مناطق انتشار الكاكائية صراعا بين الكرد والعرب والتركمان بشأن عائدية الأراضي الزراعية، الى جانب معضلة غياب الخدمات، وهو ما أضطرهم الى ترك العديد من قراهم في كركوك باتجاه اربيل والسليمانية.

ترك الكاكائية لمناطق انتشارهم وتوجههم للعيش في المدن الكبيرة يعني فعليا انصهار الكاكائية في المجتمعات التي يغلب عليه الطابع الاسلامي كديانة، والكردي كقومية، وذلك ينذر بمخاطر مستقبلية على وجود المكون، بحسب ما أسرت لنا شخصيات كاكائية بارزة تحدثت الينا وطلبت عدم الاشارة الى اسمائها.

لذلك هم يعولون على دور رجال الدين، لكي يلقنوا جيل الشباب التعاليم المتوارثة. ويأملون على المدى القريب أن تستجيب القوى السياسية الكبرى لنداءاتهم بضمان الأمن والخدمات في مناطقهم وتضمين الدستور بإشارة الى الطائفة وبالتالي منحها ما تستحق من حقوق يعتقدون انها ستساعد على حمايتها من الزوال.

الصابئة المندائيون والوجود المهدد

ديانة توحيدية تؤمن بالتطهر بالماء وتتواجد امكنتها المقدسة التي تسمى (المندي) بالقرب من ضفاف الأنهر للتعمد فيها، ولديهم كتاب مقدس يسمى( كنزا ربا). يسكن أتباعها ومنذ القدم في وادي الرافدين، ويتواجدون حالياً كذلك في وسط وجنوبي العراق ولاسيما في ميسان وذي قار.

ومثل باقي الأقليات لا توجد إحصائية دقيقة بشأن أعدادهم، وما علمناه من خلال تواصلنا مع شخصيات تتبع الطائفة أن أعدادهم كانت تصل إلى 100 ألف شخص قبل 2003، وانخفض بنحو 80% بعد ذلك بسبب هجرة الكثيرين منهم لتبلغ اعدادهم الحالية بين 15 و 20 ألف نسمة فقط.

ونتيجة التناقص في أعداد الصابئة المندائيين خٌصص لهم مقعد واحد في البرلمان العراقي بنظام (الكوت) تنافس عليه ثمانية مرشحين في انتخابات عام 2021.

سوء الفهم حيال معتقدهم دفع الكثيرين لرسم صورة مغلوطة عنهم وانتشر ذلك بنحو لافت في وسائل التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة، إذ يتم اتهامهم بممارسة السحر، وهو ما ينفيه وبنحو قاطع زعيم طائفة الصابئة المندائيين في العراق والعالم الشيخ ستار جبار الحلو، الذي يؤكد بان ذلك محرم وفق معتقده.

ودعا الجهات الأمنية والحكومية والشعبية لمنع ربط أسم الصابئة بأعمال السحر وقيام البعض باستغلال الناس مادياً ومعنوياً بموجب ذلك مدعين أنهم من الصابئة وهو ما يعود لنفيه وبشدة.

الباحث الأكاديمية عبد الجبار غازي نوح، يقول بان مثل هذه الاتهامات الموجهة للصائبة تهدد امنهم وسلامتهم، وهو ما يدفعهم للهجرة حتى بات وجودهم مهدداً في العراق وهم الذين سكنوه منذ مئات القرون، وفق تعبيره.

ويبين نوح:”في وقت ضعفت فيه سلطة الدولة العراقية بعد احتلال البلاد من قبل القوات الأمريكية في 2003، لم يعد للأقليات الدينية من يحميها، وكثرت الشائعات بشأن معتقداتها، وهو ما استغلته الجماعات الدينية المسلحة سواءً الإرهابية كالقاعدة أو داعش أو الموالية للدولة كميليشيات الحشد الشعبي، في استهدافها”.

ويشير الأكاديمي نوح إلى أن الصابئة معروفون بارتباطهم الوثيق بالأمكنة التي ينحدرون منها، ويمكن إذا ما توافرت ظروف معينة، أن يتم منع هجرتهم، وإقناع من هاجروا بالعودة، وذلك من خلال: “ضمانات توفرها الدولة ممثل بأجهزتها بحماية الأمكنة المقدسة التابعة للطائفة والسماح لهم وبحرية لممارسة طقوسهم وهي لا تتعدى التطهر بمياه النهر، مع التعريف بهم في المدارس والجامعات، وأيضاً عبر وسائل الإعلام المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي، لتصحيح الفكرة السلبية المكونة عنهم في أذهان البعض”.

أنجز التقرير تحت اشراف شبكة نيريج وبدعم من “صندوق دعم التحقيقات في شمال إفريقيا وغرب آسيا”

إقرأ أيضا