شاهد على تحولات المدينة.. “العالم الجديد” تدخل أحد أقدم وأفخم منازل الموصل (صور)

بإمكانك أن تنصت إلى وقع أقدامك على الباحة، فرجع الصدى مسموع هنا، لكن عندما تكمل…

في قلب الساحل الأيمن لمدينة الموصل، ينتصب قصر تراثيّ بكل عنفوانه وجماله، كشاهد على تطور وازدهار المدينة القديمة عبر أجيال متعاقبة، وعلى الرغم من آثار الإهمال التي غيّرت ملامحه، إلا أن الفخامة والأناقة بأقواسها وهندستها النادرة، ظلت تسحر الناظرين لتلك التحفة المعمارية.

يروي مراسل “العالم الجديد”، مشاهداته للقصر الذي تعود مرحلة تشييده إلى العام 1882، ابتداءً من الطابوق القديم المرصوص بدقة وعناية فائقة، إلى شكل الرخام العتيق، الذي يُشعر الزائر برهبة وعبق التاريخ، ويقربه من حكايا المدينة القديمة، حيث “يتوسط ذلك المنزل الفخم فناء واسع، مُحاط بغرف كبيرة تتوزع على جوانبه في طابقين، مع سراديب مشيدة بعناية”.

ويضيف أن “أغلب موجودات البيت والأثاث، قديمة ومصنوعة يدويا، وهي أشبه بالتحف النادرة التي تظهر صنعة الإنسان وعدم اعتماد الآلة، كالمقاعد والطاولات وحتى خزان المياه المصنوع من الحجر، فضلا عن بناء الأعمدة الحجرية النادرة التي ترتكز عليها الأقواس التي تغلف الغرف العشرة الواسعة، بالإضافة ألى المطبخ والسراديب والملحقات الأخرى”.

وفيما يشير إلى أن “آثار الضرر تبدو واضحة عليه بسبب معاناته من الإهمال وآثار حرب التحرير ضد داعش، وهو ما اضطر المنظمة التي تشغله إلى تثبيت سقوفه بأعمدة حديدية للحفاظ عليه من السقوط”، ينقل مراسل “العالم الجديد” مناشدات مرافقيه في الجولة لـ”وزارة الثقافة وكل المنظمات والمؤسسات المعنية كاليونسكو بالالتفات إلى هذا القصر أو تحويله إلى متحف، كونه يستطيع تأدية هذا الدور بسبب موقعه الجغرافي وقيمته التاريخية، إذ لا يمكن انتظار وقوع كارثة بخسارة هذا الصرح النادر من معالم البلاد”.

وتعرف مدينة الموصل مركز محافظة نينوى، بغناها بالمواقع الأثرية والتاريخية، والتي تعود إلى الحضارة الآشورية قبل أكثر من 2700 سنة قبل الميلاد، إلا أن معظم المناطق الأثرية في محافظة نينوى تعاني من إهمال.

ملكيته وبناؤه

إلى ذلك، يقول عمر محمد، رئيس مؤسسة “تطوع معنا- فرع نينوى”، التي تشغل المكان بنشاطها المدني، إن “هذا المنزل العريق يعود لبيت عائلة الحاج طالب أو الطوالب، وهؤلاء هم أولاد الحاج إسماعيل وجار الله، وهم عائلة معروفة في الموصل بقيمها وأهميتها على المستوى التجاري، إذ كانوا يهتمون بتجارة الخيول، ويروى أن جدهم كان يجيد التحدث بأكثر من 4 لغات من ضمنها الهندية بحكم تعاملاته التجارية بالخيول العربية الأصلية”.

ويضيف محمد، خلال حديثه لـ”العالم الجديد”، أن “المنزل يقع في المنطقة التي تسمى عبدوخوب أو الطوالب وعبدوخوب تعني الرجل الصالح”، مرجحا أن “يكون تشييدالعقود الأخيرة في القرن التاسع عشر، وجرت عليه تعديلات في مراحل زمنية عدة”.
 

وحول الجانب العمراني للمنزل التراثي، يشير إلى أنه “مشيد على الطريقة الموصلية القديمة مستخدمين فيه خليطا من الرخام والجص والحجر، وهذه المواد فيها لها أهمية في عدم التأثر بتغيّر الفصول بسبب العزل الحراري”، لافتا إلى أن “هذا النوع من البناء فريد ولا يوجد ما يشبهه إلا في بلاد الشام”.

تتوسط الدار، باحة كبيرة ويحتوي على سراديب تسمى في اللهجة المصلاوية الرهره، كما يحتوي على إيوان ومساحات خاصة كانت تستخدم كإسطبلات للخيول، كما يقول.

ويؤكد الناشط الموصللي، أن “المنزل تشغله حاليا مؤسستنا التي أخذت على عاتقها بعد تحرير الموصل مسؤولية مجتمعية لإعادة الحياة إلى المناطق التي تضررت جراء العمليات العسكرية وما سببه داعش”.

يذكر أن وزارة الثقافة، أعلنت في العام 2021، عن مشروع إعادة إعمار البيوت التراثية في الموصل والبصرة، بتمويل من الاتحاد الأوروبي، وتنفيذ منظمة يونسكو، كما يتضمن إعمار البيوت التراثية الأكثر تضرراً في الموصل.

يشار إلى أن اليونسكو، وفي العام الماضي، انتهت من تأهيل 50 بيتا تراثيا، تعد من الأعرق في المدينة، على اعتبار أن هذه البيوت تمثل تاريخ الموصل، وذلك بالقرب من هذا المنزل التراثي، وفي المنطقة القريبة من الجامع النوري الذي هدمه داعش.

العمارة الموصللية

من جانبه، يذكر المؤرخ الموصللي، أحمد قاسم، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الموصل إحدى أهم المدن من الناحية المعمارية بسبب تنوع مبانيها ووجود البيوت التراثية والقصور”.

ويشير قاسم، إلى أن “الهندسة المعمارية للمنزل الموصللي القديم بشكل عام، تتفق أن يتكون المنزل من أجنحة عدة، والجناح عبارة عن إيوان على ميمنته وميسرته غرف متناظرة، وهذا يسمى النظام الثلاثي الذي ابتكر في شمال الموصل في منطقة تبكورة تحديدا في الألف السادس قبل الميلاد، وأطلق عليه المؤرخون نظام الحيز ذي الكمين، ثم امتد إلى أرجاء الموصل منذ العصر الأموي واستمر في عهد العثمانيين”.

ويضيف أن “البيت الموصللي البسيط يتكون من جناح واحد وأمامه فناء يطلق عليه الحوش، أما بيوت الطبقة المتوسطة في الغالب يتكون من جناحين، وعادة ما يضع المعمار الموصللي الأجنحة في جهة تكون بعيدة عن الحرارة أو البرودة، وتسمى الإيوان الصيفي أو الشتوي”، منوها إلى أن “بيوت الطبقة الميسورة مثل الولاة والحكام وما شابه تتكون من عدة أجنحة وتحتوي على سراديب متنوعة بعضها للقيلولة ومنها لحفظ المواد الغذائية والوقود”.

ويشير المؤرخ إلى أن “المعمار الموصللي يميل إلى زخرفة الأجنحة في البيت بزخارف نباتية، بالإضافة إلى الزخارف الهندوسية والمبتكرة مثل الطبق النجمي، زيادة على الكتابات بخطوط متنوعة مثل الخط الكوفي وخط النسخ وغيرها، ولكل نوع مميزات يعرف من خلالها المبنى تابع لأي عصر”.

وعن أهم البيوت أو القصور الموجودة حاليا، يتطرق قاسم إلى “بيت التتنجي في منطقة السرج خانة، وبيت زيادة في محلة الخزرج، وبيوت أخرى مثل القلعة وبيت القس سليمان الصايغ وبيت النجدي وعدد من البيوت التراثية الأخرى في المدينة القديمة”، مؤكدا أن “المسؤولين لا يعرفون أهمية هذه الآثار لذلك أهملوها على عكس الدول الأخرى”.

ودمر تنظيم داعش ما يقارب 80 موقعاً أثرياً في محافظة نينوى، منذ سيطرته على المحافظة عام 2014 وحتى تحريرها عام 2017.

الحفاظ على الآثار 

بدوره، يفيد مفتش آثار نينوى خير الدين أحمد الجحيشي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، “بدأنا هذا العام بخطط تعاون جديدة مع الحكومة المحلية في محافظة نينوى، خصوصا فيما يتعلق بمشروع سور مدينة نيوى الأثري، وسيتم البدء حاليا بترميم جزء من هذا السور بتمويل من محافظة نينوى وإشراف من كوادر مفتشية الآثار”.

ويؤكد الجحيشي، أن “الأعمال مستمرة في ترميم القطع ضمن متحف الموصل الحضاري، وستعود البعثات الأجنبية للتنقيب خلال موسم الربيع، لاسيما الجامعة الألمانية العاملة في تل النبي يونس والجامعة الايطالية في تنقيبات شرق مدينة نينوى الآثرية إضافة الى جامعة بن سلفانيا العاملة في موقع النمرود”.

وبعد تحرير محافظة نينوى، واجهت المناطق الأثرية تحديات كبيرة، مثل تعرّضها للسرقات، بسبب إهمال السلطات المحلية والمركزية لها، ووجود الألغام والعبوات الناسفة التي زرعها التنظيم في هذه المناطق خلال معارك الموصل، إلى جانب وجود نزاعات ملكية في بعض هذه المواقع بين وزارتي الأوقاف والآثار.

إقرأ أيضا