في الذكرى الـ20 لسقوط النظام.. الشيعة: أزمة المعارضة والحكم

يمكن القول إن مشهد الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003 قد اعقبته متغيرات كثيرة، عاصفة ومقلقة،…

يمكن القول إن مشهد الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003 قد اعقبته متغيرات كثيرة، عاصفة ومقلقة، تمظهرت بأشكال متعددة؛ عصفت بالعراق عموما، وبالمشهد الشيعي كنموذج بحثي نتناوله في هذا المقال بشكل خاص.

قبل العام 2003 لم تكن الحريات الدينية متاحة للشيعة، إذ تضاءلت تدريجيا منذ الانقلاب البعثي الثاني عام 1968، وبشكل فاقع مع تولي صدام حسين للحكم، خصوصا أنه دخل حربا مفتوحة مع إيران، التي كانت استحكمتها للتو ثورة إسلامية شيعية، كان صدام يخشى امتدادها عراقياً، بملاحظة وجود من يتناغم مع أفكار الثورة الإسلامية الإيرانية بين بعض مجتهدي النجف-المجتهد لقب للمرجع- ذلك الوقت.

تحول القمع الذي تعرضت له المؤسسة الدينية الشيعية، وتمدده على المجتمع الشيعي، إلى سلاح المعارضة العراقية الأبرز دوليا، ومبررها للتعاون مع الولايات المتحدة لغرض اجتياح العراق واسقاط نظام صدام حسين، واليوم، وبعد 20 عاما من الاجتياح، ربما لنا أن نتساءل عن طبيعة المشهد الديني الشيعي، والتبدلات التي طالته، سواء على مستوى المؤسسة الدينية، أم الدين الشعبي، وتمظهراته، وكيف انعكس هذا على السياسة العراقية بتمثلها الشيعي.

المؤسسة الدينية.. من عدو الداخل المضاد الى عدو الخارج المثيل

بدرجة كبيرة، ترتبط محاولة فهم تحولات الدين عند الشيعة في العراق، بعد 20 عاما من الاحتلال الأمريكي، بفهم التحولات التي طرأت على المؤسسة الدينية الشيعية، على المرجعية العليا بعبارة أدق، سلوكها ومواقفها العامة، والتغيرات التي وجدت نفسها مضطرة للتكيف معها، كما اعتادت على التكيف خلال عمرها، الذي كان على الدوام خاضعا للالتباس في الموقف مع الدولة والعمل السياسي وتحديد الآخر، الشريك أو العدو.

منذ الانقلاب البعثي الثاني عام 1968انتقلت العلاقة بين المؤسسة الدينية في النجف وبين الدولة من الالتباس المتوتر الى الأزمة الشائكة تدريجيا، حتى وصل الى مراحل كارثية، تضمنت تسفير طلبة الحوزة في النجف، واعدام عدد كبير من رجال الدين بتهم شتى، الأمر الذي أوضح “الآخر العدو” عند المؤسسة بوصفه السلطة القائمة، وأخضعها لوضع شديد من الحمائية والصمت، وضع لم يعصم رجالها من القتل، في ظل بطش وغباء السلطة في التعامل مع المرجعية الدينية في النجف، غباء تصاعد مع الثورة الإيرانية، التي كانت بدورها على عداء مع المؤسسة الدينية التقليدية في النجف، بل أن النجف، بمرجعيتها وقفت بالضد من خطاب ولاية الفقيه وتصدير الثورة، الأمر الذي لم يستطع صدام حسين فهمه أو استثماره، حتى كارثة العام 2003.

بكل الأحوال، فإن سنوات الحكم الفردي، تحت آيديولوجية البعث، أجبرت المؤسسة الدينية الشيعية في النجف على أن تتصرف وفق فرضية العدو النقيض؛ المتمثل بسلطة بعثية علمانية تتصرف بطريقة طائفية، تحت وطأة قلق على مركزية النجف التاريخية للتشيّع، فصارت المرجعية العليا تحاول جاهدة الحفاظ على أرواح المراجع والطلبة، وتحرص على ديمومة الدرس الديني في حده الأدنى، على الرغم من هجرة العدد الأكبر من الأساتذة في المراحل الدراسية الأولى والوسطى في الحوزة، ونقص الجدية في التحصيل عند الطلبة الذين بقوا في النجف، الأمر الي حول المرجع الأعلى في النجف الى جنرال بلا جنود، وشغل المرجعية بطريقة أجبرتها أن لا تلتفت لفتح جبهات صراع أخرى مع الضد النوعي، ونعني ولاية الفقيه وسواها من الطامحين للسيطرة على المشهد الشيعي، ناهيك عن الاضطراب الداخلي الذي سببه محمد الصدر بدعوته التي شطرت الحوزة الى شقين: حوزة ناطقة وأخرى صامتة بتعبير الصدر، الأمر الذي انفجر بعد العام 2003 بشكل تغيرات معقدة ومتعددة المستويات.

إن انهيار سلطة صدام حسين، والفوضى التي عمت بعد العام 2003 جعلت المرجعية الدينية في النجف أمام متغيرات عاصفة، فقد وجد المرجع الأعلى نفسه ملزما بالتدخل في الشأن السياسي، وبطريقة شديدة الحذر، كان المرجع الأعلى-السيستاني- ملزما فيها أن يوازن بين متقبنياته الفقهية التي تمنعه من الخوض في السياسة، وبين ما يراه تكليفا شرعيا تجاه مقلديه، يكون مطالبا ضمنه بمنع الولايات المتحدة من صياغة دستور وعملية سياسية وفق مقاساتها، وفي الوقت ذاته يجد نفسه مضطرا للتعامل مع الأحزاب الإسلامية الشيعية التي لا يثق بها، والتي تمتلك تاريخا عاصفا مع مرجعية النجف، ورثته من أيام صراع محمد باقر الصدر مع المرجعية النجفية، وتبنيه لمفاهيم حركية لم تألفها النجف، وتجد فيها خطرا قاد الى اعدام العشرات من الطلبة والاف العراقيين المتهمين بالانتماء للحركة الإسلامية، ناهيك عن ارتباط هذه الحركات بمنظومة ولاية الفقيه، وخصوصا بعد مقتل محمد باقر الحكيم، الذي كان الوحيد القادر ضبط ايقاع هذه الأحزاب والجماعات.

بالاضافة للارتباك السياسي الذي اضطر السيستاني الدخول فيه، فإن خطرا أكبر كان يواجهه، خطر الضد النوعي الساعي للهيمنة على النجف والقرار الشيعي فيها، وهو خطر ولاية الفقيه، التي وجدت الطريق سالكا لتبدأ بمحاولات الهيمنة على النجف، خصوصا بعد ضمور الدرس الديني في المدينة لأكثر من عشرين عاما، ونشأة جيل من الأساتذة برعاية ولاية الفقيه في إيران، وابتعادهم عن الهيمنة الروحية للنجف، ومنع السلطة الإيرانية عودة بعض أساتذة النجف الهاربين عندها، مثل الميرزا جواد التبريزي وغيره، فكان على المرجع الأعلى ان يواجه هذا التعقيد، المتمثل بابعاد العراقيين عن الانغمار في ولاية الفقيه، وحماية النجف من رجال الدين المنضوين تحت الحكم الإيراني، وفي الوقت ذاته، كان يدرك أن الحليف الأهم لمقلديه في ظل ارتباك الدولة العراقية هي إيران الخاضعة لنظام ولاية الفقيه، العدو اللدود للنجف، في ظرف بالغ الحرج، يشهد تأسيس نظام سياسي جديد، وحرب طائفية، وخطاب متشنج لا يمكن السيطرة عليه.

في ظل ارتباك تحديد الآخر، العدو، ودخول الضد النوعي في معادلة العدو الحليف، فإن المشهد الديني بين شيعة العراق تأثر بهذا المأزق بشكل كبير، وصاروا ينتظرون من المرجعية مزيدا من التدخل، الامر الذي سيحملها مسؤولية تاريخية تضر بموقعها الديني، وتحيل عليها أي خطأ ترتكبه منظومة الحكم التي تسيطر عليها أحزاب دينية شيعية.

من الدين المنطقي الى الدين الطقوسي

على الضفة الأخرى، وفي غضون الصراعات متعددة المستويات، فإن المرجعية في النجف وجدت نفسها أمام صراع داخلي جديد، يتمثل بالطقوسية الشيعية، التي بدأت تؤشر تراجعا في دور الدين المنطقي الذي طالما تزعمته النجف، الغارقة في الأصول، المتصدية للأخباريين وللعرفان الشيعي الغيبي، لصالح دين طقوسي، عززته منظومة دعائية قوية يقودها ممثلو الخط الطقوسي الشيعي، وهم الشيرازيون في كربلاء، الذين يتلقون تمويلهم الأهم من شيرازية الكويت-نظريا على الأقل- وينشطون في بريطانيا والولايات المتحدة بشكل كبير.

وعلى الرغم من طقوسية الشيرازيين، فإن تزعمهم لتراجع المنطقية الدينية بين الشيعة كان يستند على عوامل أخرى لا تتعلق بالدين، بل بطبيعة المجتمع الذي يمارسه، وانتقاله من الفرات الأوسط، الى الجنوب، وهو أمر في غاية الحساسية.

في الحقيقة، تاريخيا لم تكن المرجعية في النجف تهتم بشيعة المحافظات الجنوبية، أو حتى شيعة شرق دجلة في محافظة ديالى، ناهيك عن النازحين من الجنوب الى بغداد، وكان مركز الثقل التاريخي للمرجعية النجفية هو الفرات الأوسط، بعشائره ذات المنظومة المتباينة مع عشائر الجنوب، والتي انغمرت في ثورة العشرين، بقيادة المؤسسة الدينية في النجف لتساهم بصناعة شكل العراق الحديث عام 1921، وبالقدر الذي كانت عشائر الفرات الأوسط تحمل مشروع المرجعيات الدينية في النجف، فإنها كانت تتأثر بها، وتخضع لنشاط طلبة الحوزة الذين ينطلقون صيفا عند تعطل الدروس الى قرى الفرات الأوسط، الأمر الذي جعلهم على تماس مباشر بقدر لا بأس فيه من المنطقية الدينية، وإن كان للطقوس فيها دور، دور منظم، يتمثل بشعراء ومنشدين من مراكز المحافظات الدينية ذاتها، ضمن المنظومة المنطقية الأصولية النجفية.

بعد العام 2003، وامتدادا الى التفات محمد الصدر للجنوبيين في التسعينات، وجعلهم مداد حركته المعارضة لحوزة النجف، ولنظام صدام حسين قبيل اغتياله، فإن الجنوبيين تسيّدوا المشهد الشيعي، وبدأت الروح المندفعة، حديثة العهد بالدين التي تميزت بها المناطق الجنوبية تهيمن على المشهد الشيعي كله، ليتطور الأمر الى إسراف في الطقوس، وتعطيل للحياة بشكل كامل إبان الزيارات، ناهيك عن تسخير جهد الدولة وارباك المؤسسات الحكومية في سبيل هذه الطقوس، التي كان الشيرازيون يغذونها أملا في الوصول الى سدة المرجعية، لكنها سببت نكوصا في العقلانية الدينية، والمزيد من التوتر الذي انعكس بشكل أعمال طائفية، وصولا الى ردة الفعل العنيفة بعد سيطرة تنظيم داعش على جغرافية واسعة من العراق بعد كارثة حزيران 2014.

هذا النكوص الطقوسي، المنبثق عن حاضنة اجتماعية مؤهلة للتطرف، ارتبط بشكل كبير بما ذكرناه في الفقرة السابقة من تبدل العدو: الرهبة من إمكانية عودة العدو القديم، ومنع الشيعة من الحفاظ على المكتسبات التي حازوها بعد العام 2003، سياسيا، او اجتماعيا.

إن الاسراف في الطقوس، وبقدر ارتباطه بتراكمات معقدة من القمع والاقصاء، ونقص التنمية في المجتمع الجنوبي، فإنه أيضا يرتبط بأزمة الهوية، والخوف من الماضي، الخوف التاريخي الشيعي الذي أصبح أكثر توثبا واستعدادا للهجوم المضاد بعد سنوات العنف الطائفي عقب العام 2003، ثم ظهور تنظيم داعش الذي مثل بالنسبة لهم تحديا وجوديا.

إن تظافر هذه العوامل مجتمعة، سواء ما يتعلق بالتحديات التي واجهتها المرجعية الدينية على مستويات متعددة، أو بما يتعلق بالحامل الشيعي لمشروع الدين والسياسة الشيعية بعد العام 2003، بما شابها من ارتباك، واضطراب في تحديد الأسس والاهداف، تجلى بشكل واضح في العمل السياسي الشيعي، سواء كان على مستوى الأحزاب الإسلامية، أم الحراك الشبابي.

ارتباك العلاقة مع إيران، واشتباكها في مستويات معينة، واتفاقها في مستويات أخرى، العداء الذي لا يمكن انكاره او إخفاء آثاره من قبل ولاية الفقيه تجاه النجف، والعنف الطائفي، وتحدي داعش، والتي كانت بمجملها تتحرك ضمن منظور ديني، يخضع لوطأة التاريخ، وملابسات العلاقة مع الآخر، ومع السلطة، انعكست بالنهاية بشكل سلوك سياسي مضطرب، تصرف خلاله الممثلون السياسيون للشيعة في الدولة كمعارضة مع أنهم يمسكون المنصب التنفيذي الأهم، ويمتلكون القوة العسكرية بشكل شبه مطلق.

خلاصة القول، بعد عشرين عاما من التغيير الذي اعقب الاجتياح الأمريكي، لا يزال المجتمع الشيعي يمر بتغيرات متسارعة، دينيا واجتماعيا وسياسيا، ولا تزال السياسة الشيعية صدى لأيام المعارضة، دون قدرة على الانتقال لحالة الدولة.

* اُنجزت المادة بدعم من “نيريج” وتنشر بالتعاون مع “العالم الجديد”

إقرأ أيضا