المسيحيون.. 20 عاما من الرحيل

منذ الرصاصة الأولى التي أعلنت انهيار وضع العراق الأمني في أعقاب الاحتلال الأميركي وسقوط نظام…

منذ الرصاصة الأولى التي أعلنت انهيار وضع العراق الأمني في أعقاب الاحتلال الأميركي وسقوط نظام البعث في 9 نيسان 2003، أصبحت الأقليات الدينية والقومية هدفاً مباشراً وغير مباشر للمجاميع الدينية-المذهبية المسلحة التي أوغلت في أبنائها قتلاً وخطفاً ونهباً لممتلكاتهم، ودفتعهم للخروج من المدن التي كانوا قد انصهروا فيها على مدى قرون ليضحوا نازحين في مناطق أكثر أمنا داخل البلاد أو مهاجرين خارجها، واضطر، من بقي منهم، على التجمع معزولين في مناطق محددة بين متشبث بالأرض ومترقب لفرصة الرحيل.

في نينوى حيث الموطن التأريخي للعديد من الأقليات، أبرزها المسيحية، والتي كانت تضم 35 ألف عائلة في العام 2003، بينها 5 آلاف عائلة في مدينة الموصل مركز المحافظة، بدأت معاناتهم يوم 11/11/2004 أو ما عرف بيوم السقوط الثاني، وهو اليوم الذي انهار فيه النظام الأمني بمدينة الموصل حين انتشر عناصر تنظيم القاعدة في شوارعها وفرضوا قوانينهم وتعليماتهم على سكانها، ودخلوا في حرب يومية مع القوات الأميركية والحرس الوطني العراقي، وشنوا حملات قتل وخطف وتهديد استهدفت فئات عديدة من المجتمع وكان المسيحيون أبرز ضحاياهم، جاء ذلك مع ترويج التنظيم المتطرف عبر خطباء بعض المساجد الموالين له بأن الغزو الأميركي للبلاد إنما هو غزو صليبي، وبالتالي فإن المسيحيين داعمون مفترضون له ويستحقون العقاب.

في غضون ذلك، قام التنظيم بتوزيع أقراص مدمجة، تضم مقاطع فديو تظهر ذبح عناصره لمواطنين مسيحيين في الموصل، إلى جانب اغتياله لشخصيات كنسية بارزة كالمطران بولص فرج رحو رئيس أساقفة الكنيسة الكلدانية في نينوى، والقساوسة بولص إسكندر بهنام، من كنيسة السريان الارثدوكس، ومنذر السقا، من الكنيسة البروتستانية، ورغيد عزيز متي كني، راعي كنيسة روح القدس الكلدانية في الموصل، وذلك بهدف الترويع ودفع سكان المدينة من المسيحيين للخروج منها، وهو ما حصل مع اغلبيتهم الذين تجمعوا في بلدات قره قوش وبرطلة وتلكيف وألقوش وكرمليس في سهل نينوى التي كانت تخضع، عمليا، لسيطرة القوات الكردية التابعة لاقليم كردستان.

بعد 14 قرناً.. الموصل خالية من مسيحييها

مع توالي تلك الهجمات، وبعد سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام(داعش) على الموصل في حزيران 2014، لم يبق من المسيحيين فيها سوى 1000 عائلة من أصل 20 ألف عائلة وفقاً للويس مرقوس أيوب، نائب رئيس منظمة حمورابي لحقوق الإنسان.

وكانت هذه العائلات تقطن بالقرب من 35 كنيسة ومركزا كنسيا ومدرسة مسيحية في مختلف مناطق المدينة، والتي اضطرت هي الأخرى الى المغادرة بدءاً من 12تموز/يوليو2014 وهو اليوم الذي خيرهم التنظيم بين البقاء ودفع الجزية أو المغادرة أو القتل.

يومها فضل المسيحيون المغادرة، وفعل غالبيتهم الساحقة ذلك وهم بالثياب التي عليهم بعد ان صادر التنظيم كل ممتلكاتهم، وكتب عناصره حرف (ن) باللون الأحمر على جدران منازلهم، وهو الحرف الأول من كلمة نصراني، في إشارة إلى أن المنزل مصادر.

هكذا أصبحت منازل المسيحيين وكنائسهم مقاراً للتنظيم، وأصبحت الموصل وللمرة الأولى منذ 14 قرناً خالية من المسيحيين تماماً. والأمر ذاته حدث في غالبية بلداتهم بسهل نينوى التي أصبحت خاوية تماماً، إذ نزح سكانها صوب أقليم كردستان، ومن هناك هاجر كثير منهم إلى أوربا وأميركا واستراليا وذلك بعد أن عد الإتحاد الأوربي والولايات المتحدة ما جرى ضد المسيحيين في العراق إبادة جماعية.

بعد تحرير نينوى من داعش صيف 2017، لم يعد سوى 45% فقط من المسيحيين الذين نزحوا عن سهل نينوى سنة 2014 الى مناطقهم السابقة، كما عادت نحو 70 عائلة فقط إلى مدينة الموصل، وكثيرٌ من العائدين لم يمكثوا سوى أشهر قليلة وغادروا مجدداً لعدم شعورهم بالأمان وخشيتهم من تكرار ما حدث لهم، وهذه المرة بأيدي عناصر فصائل الحشد الشعبي التي سيطرت على سهل نينوى، ممثلة باللواء 30 الذي يضم مقاتلين من مكون “الشبك” الشيعي، والذي يتهم بالاستيلاء على مشيدات وأراض تابعة للمسيحيين.

ذلك الواقع هو ما يدفع نحو 20 عائلة مسيحية، كمعدل شهري، للهجرة من سهل نينوى بحسب بطريرك الكلدان الكاثوليك، الكاردينال لويس روفائيل ساكو، الذي عبر عن قلقه حيال مستقبل الوجود المسيحي في العراق بسبب نزيف الهجرة المستمر، وأكد بأن المسيحيين يتعرضون لانتهاك الحقوق والمهَانة والإقصاء في موضوع التوظيف والرعاية والتمثيل في البرلمان. واشترط لعودتهم إلى مناطقهم مجدداً أن تتغير النظرة العامة إليهم وأن يتم الاعتراف بهم كمواطنين متساوين وأن توفر لهم الحماية من المضايقات والانتهاكات وشمولهم بمشروع الإصلاحات السياسية والتشريعية والمؤسساتية.

تؤكد كل الاستبيانات والبيانات التي تصدرها مؤسسات مسيحية، أن فرص عودة مسيحيي نينوى الى مناطقهم تتلاشى، وان العودة وإن كانت بأرقام بسيطة “شبه متوقفة” منذ سنوات، بسبب فقدان الثقة بالمحيط الاجتماعي وبقدرة أجهزة الدولة الأمنية على حمايتهم، فضلا عن الاقتصاد المتعثر لمناطق انتشارهم في سهل نينوى وفي عموم المحافظة.

الحلم.. اقليم سهل نينوى

الأمر لا يتعلق بضعف الدولة وأجهزتها وغياب سلطتها الأمنية في الكثير من المناطق ووقف الانتهاكات بحقهم، فثمة أسباب عديدة أخرى تكمن وراء عدم عودة المسيحيين النازحين والمهاجرين إلى نينوى والموصل، أولها تبخر أحلامهم القديمة وأحد أبرز مطالبهم والمتمثل بإنشاء إقليم خاص بهم في سهل نينوى كما كانوا يأملون منذ الغزو الأميركي وسقوط نظام حزب البعث في نيسان 2003، الى جانب عدم تلبية مطلبهم بتوفير حماية دولية لهم ضمن مناطقهم ببلدات قره قوش وبرطلة وتلسقف وتلكيف وألقوش.

يضاف إلى ذلك تمدد “الشبك” إلى بلداتهم التاريخية، حتى أصبحوا الغالبية العظمى في المنطقة مع قدرتهم على شراء الأراضي والعقارات من جهة ومعدلات الانجاب المرتفعة لديهم، فالعائلة المسيحية قليلة الأفراد بطبيعتها، بينما الشبك وهم بمجملهم مزارعون أو مربو ماشية فمعروفون بكثرة الإنجاب، فتزايدت أعدادهم بنحو كبير خلال العقدين الأخيرين خاصة في ظل عدم هجرتهم بعكس المسيحيين والايزيديين المتطلعين للهجرة والذين يعيشون في ذات المنطقة وفي قرى متلاصقة وبلدات تضم خليطا من المكونات.

كما ان ما ساهم في هجرة المسيحيين  والايزيديين، هو السياسة التي أنتهجها اللواء 30 بمنع بيع وشراء العقارات لغير الأقلية الشبكية بذريعة منع التغيير الديموغرافي، وهو ما أدى إلى نزوح الكثير من الكرد والعرب القاطنين في السهل الى المدن الخاصعة لسيطرة اقليم كردستان، لينفرد الشبك بالأغلبية في مجمل مناطق سهل نينوى. ومن هنا يدرك المسيحيون جيداً، بأن أي انتخابات مستقبلية تجري في المنطقة لن تكون في صالحهم وأن الوظائف العامة والمجالس التشريعية ستذهب مقاعدها إلى الشبك.

العامل الاقتصادي.. أسباب أخرى

كان المسيحيون في نينوى يديرون نسبة كبيرة من المشاريع الزراعية والحيوانية كحقول تربية الدواجن ومفاقس البيض ومجازر الدجاج ومعامل العلف، وكانوا يمتلكون معامل المواد الإنشائية والورش الصناعية ومحلات الصياغة، فقدوها كلها بين ليلة وضحاها بسبب داعش، ولم يعودوا يمتلكون سوى الأموال غير المنقولة وهي العقارات، وحتى هذه تم تزوير وثائق المئات منها وبيعت خلال فترة نزوحهم وهجرتهم من قبل عصابات متخصصة تدعمها الميليشيات في غالب الأحيان.

كما أن الكثير من المسيحيين، استقروا خلال السنوات المنصرمة في دول المهجر، ويشجعون ويساعدون باستمرار أقرباءهم المتواجدين في العراق على اللحاق بهم عن طريق برامج لم الشمل أو الهجرة العادية بل وحتى غير الشرعية.

وبحسب احصاءات غير رسمية تنشرها منظمات ومؤسسات مسيحية فإن العدد الاجمالي للمسيحيين حالياً في عموم العراق بضمنه إقليم كردستان، من الكلدانيين و السريان الكاثوليك والاورثودكس والاشوريين والارمن والانجيليين، يصل الى (260,520) الف نسمة، وهم من أصل نحو 1.5 مليون كانوا متواجدين في 2003.

ويأتي فقدان الثقة بالمحيط، كسبب رئيسي وراء إحجام غالبية المسيحيين عن العودة، إذ يتهم بعضهم جيرانهم الذين ارتبطوا معهم بعلاقات متينة على مدى سنوات طويلة بالاستيلاء على عقاراتهم وممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة بعد أن أجبروا على مغادرة المحافظة في صيف 2014، وهذا الهاجس بقي في أذهان العائدين بعد زوال داعش. ليس هذا فقط، بل يعبر العديد منهم عن قناعتهم بأن داعش لم يكن مجرد مقاتلين ينتهكون حقوق الإنسان، بل فكرة مازالت ماثلة في رؤوس قسم من السكان العرب السنة، وتظهر أحيانا في تصرفاتهم، وهم يخشون أن تتطور تلك التصرفات إلى عنف كما حدث من قبل، مع إقرارهم في ذات الوقت بأن السنة  بنحو عام كانوا من أكبر ضحايا تنظيم داعش.

الى جانب ذلك يبرز غياب الثقة الجمعية بالنسبة للمسيحيين بالنظام العراقي الجديد برمته، فهم يعتقدون بأن الأحزاب الرئيسية التي شكلت الحكومات العراقية المتعاقبة في العقدين الأخيرين وهي إسلامية شيعية، تفرض نهجها وتبسطه على مساحة البلاد دون مراعاة للأديان والطوائف الأخرى، بل ويتهمونها بالتسبب في نمو قوة الجماعات التكفيرية التي استحوذت على ثلث مساحة البلاد في 2014، بسبب فسادها وفشلها في إدارة مؤسسات الدولة.

كما أن الجهود التي بذلتها المنظمات الدولية والمحلية لدعم العودة ذهبت ادراج الريح، فإعادة إعمار الكنائس وعقد مؤتمرات التسامح والتصالح والتعايش وحدها لا تكفي لإقناع النازحين في مدن اقليم كردستان بالعودة فكيف بالمهاجرين الى خارج البلاد.

هؤلاء يجرون مقارنات بين الأماكن التي يقيمون فيها وبين المناطق التي غادروها، فيجدون دائما ان الأخيرة تفتقر إلى الخدمات العامة الأساسية كالكهرباء والماء الى جانب ضعف مجالي الصحة والتعليم وتفشي الفساد والمحسوبية في دوائرها الرسمية وطغيان الفكر القبلي على التمدن، لذا يفضلون المكوث حيث هم على سبيل الاستقرار أو في الأقل لحين عودة العراق دولةً يحكمها القانون خاليةً من انتهاكات الجماعات الارهابية او الفصائل المسلحة.

سيظل ملف نزوح المسيحيين عن مناطقهم مفتوحا، وستظل هجرتهم الى خارج البلاد قائمة ربما الى حد اندثار وجودهم في العراق، ما لم يتم ترسيخ سلطة الدولة والقانون والمؤسسات، وانهاء التمييز على اساس عقائدي او ثقافي، واعتماد أسس دولة المواطنة التي يجد المسيحي نفسه فيها مواطنا كامل الحقوق حاضرا في ادارة الدولة ومراكز صنع القرار فيها وفق مبدأ تكافؤ الفرص.

* اُنجزت المادة بدعم من “نيريج” وتنشر بالتعاون مع “العالم الجديد”

إقرأ أيضا