
أزمة كركوك تتعمّق.. من هو الخاسر الأكبر؟
بغداد - العالم الجديد
كشفت أحداث السبت الماضي، عن عمق الأزمة التي تعانيها محافظة كركوك، فالمدينة التي تشهد نزاعاً تاريخياً بين الإقليم والحكومة الاتحادية، أشعلت شرارتها أخيراً بعد أن كانت مكتومة طيلة الشهور الماضية، ولا يبدو أنها ستكون النهاية.
مع بداية أيلول سبتمبر الحالي، كان الموعد النهائي لتسليم مقر قيادة عمليات كركوك إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي غادره منذ 2017، بحسب ما كشفته "العالم الجديد" في تقرير سابق نشر في 28 آب أغسطس الماضي، الأمر الذي فجّر رفضاً مكوناتياً داخل المدينة المعروفة بتعددها القومي والديني والمذهبي، فبعد خمس سنوات من مغادرته المدينة، عاد الحزب الذي يتزعمه مسعود بارزاني، لأول مرة مشفوعا باتفاق مع ائتلاف إدارة الدولة ضمن صفقة تشكيل الحكومة الحالية التي يرأسها محمد شياع السوداني.
وبحلول أمس الأول السبت، قتل أربعة أكراد على الأقل وأصيب 16 شخصا آخرون، حين اندلعت تظاهرات في كركوك، حيث فرضت الحكومة حظرا للتجول بعد أيام عدة من التوتر، وضمت هذه التظاهرات سكانا كردا من جهة وآخرين من العرب والتركمان، وشهدت صدامات رغم وجود قوات الأمن.
العواقب التي تركها تشكيل ائتلاف الدولة المكون من الإطار التنسيقي (الشيعي) وتحالف السيادة (السني) والحزب الديمقراطي الكردستاني "البارتي" والاتحاد الوطني الكردستاني (الكرديين) من أجل تشكيل الحكومة كانت وخيمة على حزب بارزاني أولاً والسلم الأهلي ثانياً، فبعدما انجلت غبرة أحداث السبت، يبدو أن لا خاسر سياسياً أكثر من "البارتي" كما يرى مراقبون، فالاتفاق الذي يعول عليه الحزب الأصفر، تم نسفه بعد هذه الأحداث، خصوصاً بعد إصدار المحكمة الاتحادية أمس الأحد، أمراً ولائياً بإيقاف تنفيذ تسليم المقر، وقبل ذلك كان السوداني قد تريث بقرار التسليم.
ويقول رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري، خلال حديث لـ"العالم الجديد"، إن "ائتلاف إدارة الدولة عندما وقع اتفاقا مع الكرد على عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني ضمن صفقة تشكيل الحكومة، كان يدرك هو وكل الأطراف حقيقة ما تم التوقيع عليه، لكن هذه الأطراف بقيت ماضية بهذه الاتفاقات حتى لو كان بعضها يشكل تهديدا للسلم الأهلي ونسفا للاستقرار في العراق، فالكثير من بنود اتفاقات تشكيل الحكومة كانت خارج إطار القانون والدستور، وجميعهم يتحملون كل ما يجري".
وتشكلت حكومة السوداني، في تشرين الأول أكتوبر 2022 بعد مرور عام كامل على انتخابات فاز التيار الصدري فيها بأكبر حصة من المقاعد النيابية، إلا أنه فشل في تشكيل الحكومة، ثم انسحب ليفسح المجال إلى خصمه الإطار التنسيقي الذي شكلها ضمن اتفاقات سياسية تخادمية مع الكتل والأحزاب كان أحدها اتفاق عودة الديمقراطي الكردستاني إلى كركوك.
ويضيف الشمري، أن "الحزب الديمقراطي الكردستاني هو أكبر الخاسرين منذ تشكيل حكومة السوداني بقياسات الخسارة والربح، إذ خسر حليفا وهو الصدر بعد انسحابه من العملية السياسية، وخسر على مستوى جولات رئاسة الجمهورية وقضية تصدير النفط، وكذلك الموازنة التي كانت خلاف توجهاته، وأخيرا مقره الموعود في كركوك والمعركة القضائية التي انتهت بإصدار المحكمة الاتحادية الأمر الولائي".
وقررت المحكمة الاتحادية، أمس الأحد، تجميد تنفيذ أمر رئيس الوزراء بإخلاء مقر العمليات المشتركة في كركوك، بناء على دعوى منظورة أمامها.
ويتابع أن "البارتي أمام هذه الخسارات كلها، يجد نفسه من دون أية ورقة يناور بها، لا الانسحاب من الحكومة ولا التخلي عن البرلمان سينفع في شيء، وهو الآن يقف عاجزا، لأنه منذ البدء خسر حليفة الاستراتيجي وهو الاتحاد الوطني الكردستاني، ما سبب تشتتا للقرار الكردي".
وعن خطوات الحزب المقبلة، يعتقد رئيس مركز التفكير السياسي أن "الحزب الديمقراطي لا يريد تصعيد المشهد لأن أربيل لا تنوي إعادة مشهد استهدافاتها بالصواريخ، إضافة إلى أن الوضع العام في المنطقة لا يسمح بمزيد من التصعيد، كما أن الحزب يدرك جيدا بأن تركيا وإيران لا يسمحان له بالتمدد في كركوك".
وفي تعليقه عن الطرف الآخر في نزاع كركوك، يتحدّث الشمري عن "تحالف غير منظور بين بعض الأطراف في المدينة من المكون الشيعي والعرب السنة وحتى بعض الكرد، وحدوا آراءهم على رفض البارتي متكئين على ما يمتلكون من نفوذ في بغداد".
وعلى الرغم من هذا، يصر الحزب الديمقراطي الكردستاني على أن عودته إلى مقراته في كركوك هي سياسية وليست عسكرية، ففي تقرير سابق لـ"العالم الجديد"، فسّر الحزب أسباب رفضه بخشية الأطراف الأخرى من تسيّده للانتخابات المحلية المرتقبة، لكن مكونات عربية وتركمانية كركوكلية حذرت من أن هذه العودة ستشكل تهديدا للسلم الأهلي.
وكانت القوات الاتحادية أعادت في 16 تشرين الأول أكتوبر عام 2017، الانتشار في كركوك وباقي الأراضي المتنازع عليها التي كانت تحت سيطرة قوات البيشمركة إبان حكومة حيدر العبادي، وذلك بعد إجراء إقليم كردستان استفتاء الاستقلال، وعلى إثرها غادر الحزب الديمقراطي مقراته الـ33 بشكلٍ نهائي ومن ضمنها المقر المتقدم الذي تشغله العمليات المشتركة في كركوك.
من جانبه، يرى مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل، خلال حديث لـ"العالم الجديد"، أن "قضية كركوك واحدة من الموضوعات المعقدة بسبب طبيعة التاريخ والتكوين الاجتماعي والتنوع القومي والديني للمحافظة".
ويعتقد فيصل أن "واحدة من المشكلات الأساسية لأزمة كركوك الراهنة اليوم هو عدم الذهاب إلى تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي والتي تقضي بتكليف الحكومة العراقية التي انتخبت بعد 2006 بالذهاب إلى تطبيق هذه المادة التي تتضمن التطبيع أولا ضمن إطار عودة المهجرين والسكان الأصليين من أكراد وتركمان وغيرهم إلى محافظة كركوك، ومن ثم تعويض مختلف الفئات الاجتماعية الخسائر التي حصلت بسبب هيمنة أو استيلاء السلطات على مساكنهم وأراضيهم وممتلكاتهم لكي يعود الوفاق والتوافق الاجتماعي في المحافظة".
ويضيف أن "القضية الأخرى هي ما يتعلق بالاستفتاء والذي يجب أن يسبقه التعداد السكاني طبقا للأسس التي كانت موجودة في عام 1957 التي تشكل قاعدة أساسية للخارطة الاجتماعية للمحافظة".
ويكمل فيصل أنه "بعد التعداد الذي يحدد طبيعة السكان الأصليين للمحافظة، يجب أن نذهب باتجاه استفتاء السكان حول سؤال مركزي عمن يرغب بالارتباط بإقليم كردستان أو من يرغب بالارتباط بالحكومة الاتحادية وهذا يشمل المناطق المتنازع عليها الأخرى أيضا، وقد كان من المفروض أن تحسم هذه الخطوة منذ كانون الأول أكتوبر 2007، فلو لما حصلت أي مشكلة من المشكلات الكبرى التي نعاني منها اليوم والتي تهدد الأمن والاستقرار في العراق وتهدد أمن كركوك نفسها".
ولحل هذه الأزمة، مرة أخرى يؤكد أن "لا مناص من العودة إلى تطبيق المادة 140 ونزع أسلحة التنظيمات المسلحة باستثناء الجيش والقوات المسلحة العراقية وبالتالي إعادة الأمن والاستقرار إلى هذه المحافظة المهمة بما تضمنه هذه المادة من حقوق للكرد والعرب والتركمان والكلدان والآشوريين وغيرهم".
ويرى فيصل أن "ما يحصل اليوم من أزمة عميقة تهدد باندلاع العنف بين الأطراف المختلفة وتنشر ثقافة الكراهية والتمييز وتهدد السلم والتعايش الاجتماعي والتعددية، سيبقى مستمرا إذا ما استمرت السلطات المعنية بتجاهل المادة 140 والحقوق التي تترتب عليها، ليس في كركوك إنما على صعيد العراق عموماً".
وكان رئيس الوزراء توعد أمس العناصر التي ارتكبت الاعتداءات، وعملت على إثارة الفتنة في محافظة كركوك، بجزاء عادل وفق القانون، وذلك خلال استقباله عدداً من أعضاء مجلس النوّاب عن المحافظة.