
"حصار الكوت" حصد أغلبهم.. مقابر أجانب في واسط تؤرخ للحرب العالمية الأولى
واسط - العالم الجديد
يصادف كل من يسير في أزقة وشوارع مدن العراق القديمة الكثير من القبور والمزارات التي يعود بعضها لعلماء وأولياء صالحين، أو لزعماء وقادة، إضافة إلى مقابر لجنود أجانب وعرب حاربوا وقتلوا على هذه الأرض، وفي واسط لا تزال شواخص مقابر الأتراك والإنكليز والعرب الذين قضوا خلال الحربين العالمتين الأولى والثانية موجودة حتى الآن.
وتكشف مقابر القتلى الأجانب، حجم التنافس الدولي الذي مرت به البلاد، والتي كانت عبر التاريخ ممرا للجيوش وعقدة وصل بين الشرق والغرب خلال الحرب العالمية، كما تؤرخ هذه المقابر لمعارك الحرب العالمية الأولى على أرض العراق.
ويشمخ في واسط صليب لـ421 قبراً، لجنود إنكليز، سقطوا في معركة طاحنة مع العثمانيين جرت في مدينة الكوت جنوب شرق العراق.
ويقول رئيس قسم التاريخ في جامعة واسط محمد السويطي، خلال حديث لـ"العالم الجديد": "مع تقادم الزمن، اندثر هذا المعلم التاريخي الذي علّم بلوحة صغيرة كتب عليها (ضحايا الحرب العالمية الأولى)، ورغم أهمية هذا الشاهد تاريخياً، إلا أنَّه لم يعد سوى أطلال غير واضحة المعالم".
ويضيف السويطي، أن "هذا الموقع وهو من ضمن 19 موقعاً في العراق، أنشئ فوقه سوق لبيع الملابس المستعملة استمر لسنوات، ليأتي على ما تبقى من معالمه، إلا أن تدخل هيئة مقابر الحروب التابعة للكومنولث وهي المسؤولة عن حماية والمقبرة مع المواقع الأخرى داخل العراق اسهم في إعادة إعمار المقبرة، والتي لها أهميَّة تاريخية وثقافية كونها تضم رفات 418 جندياً من ضحايا الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مع رفات ثلاث ضحايا آخرين سقطوا أثناء أداء الواجب".
وقامت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) على رقعة جغرافية شاسعة امتدت من غرب أوروبا إلى وسطها إلى البلقان والأناضول وحتى الشرق الأوسط في العراق والشام وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا، ونشبت الحرب بسبب اختلاف بين الإمبراطوريات الصاعدة على النفوذ والثروات، وأبرز تلك الإمبراطوريات الدولة العثمانية بأقطارها العربية والأناضولية والبلقانية، التي اعتبرتها أوروبا وبريطانيا "الرجل المريض" الذي آن أوان تقسيم تَرِكَته، وقد أخذت دولة العثمانيين تضعُف طوال القرن التاسع عشر، وتُستنزفُ في معارك خارجية وداخلية، ولم يتوانَ أيٌّ من بريطانيا وروسيا وفرنسا وإيطاليا عن استغلال هذا الضعف بتمزيق أقطارها واحتلالها.
وتعمل منظمة الكومنولث لإعادة ترميم المقابر، ضمن برنامجها لإعادة صيانة مواقع الحروب لدول الكومنولث في العراق، التي أكَّدت ترميم هذه المقبرة منذ وقت قريب، داعية المواطنين من أهالي الكوت لإبداء المساعدة اللازمة والتعامل مع الموقع، بما يتلاءم مع الأهمية التاريخية والدينية له، وكذلك التصرف بما يتلاءم مع قدسية المكان، وعدم الإضرار بمحتوياته أو استعماله لأغراض خاصة.
من جانبه، يؤكد المؤرخ الواسطي علي الطائي، خلال حديث لـ"العالم الجديد"، أنّ "المقبرة التركية في المحافظة دليلٌ على شراسة الحرب العالمية الأولى بين أعْتى قوتين آنذاك وهم الإنكليز والعثمانيون، إذ تركت وراءها قبوراً توزعت في أرجاء العراق وهو دليل آخر على تنوع المعارك واختلاف أماكنها، وتقع المقبرة على ضفاف نهر دجلة جنوب شرق بغداد بمسافة 180كم وتضم 50 قبرا من التي قاومت عوامل التجريف والتعرية بسبب الظروف الجوية".
ويضيف الواسطي، أنّ "الجميع يعرف قصة الحرب بين الإنكليز والعثمانيين، حيث عاشت الكوت محنة حقيقية إبان الحرب العالمية الأولى، إذ دخلتها القوات البريطانية زاحفة من البصرة إلى بغداد فاحتلت المدينة في 29 أيلول/ سبتمبر عام 1915، بعد أن تقدّمت قوات القائد البريطاني، شارلز تاونسند، إلى بغداد وخاضت معركة سلمان باك التي خسر فيها القائد البريطاني، تاونسند، 33% من قواته، لتعود متقهقرة إلى الخلف، وتحاصر في مدينة الكوت من قبل القوات العثمانية في عملية حصار مثير وغريب، كان أطول حصار حدث في الحرب العالمية الأولى".
ويتابع أنّ "القوات العثمانية ألحقت أكبر هزيمة شهدتها بريطانيا بعد الحصار الذي دام 147 يوماً، اضطر فيها 13 ألف عسكري بريطاني وهندي إلى الاستسلام للقوات العثمانية"، مضيفاً أن "الأمر لم يقف عند هذا الحد، فمن بين 13 ألف أسير لقي سبعة آلاف منهم حتفهم في طريق الأسر إلى إسطنبول، فيما قتل 23 ألفاً آخرون، خلال محاولات فاشلة لفك الحصار عن القوات البريطانية".
وحصار الكوت أو معركة كوت العمارة كانت أحد المعارك الكبرى في الحرب العالمية الأولى وكان الحصار جزءاً مما أسمته القوات البريطانية حملة الرافدين التي جرت أحداثها في العراق، لكن البريطانيين حوصروا هناك من قبل الجيش العثماني.
واستمر حصار الكوت 147 يوما، في نهايته اضطر البريطانيون إلى التفاوض على شروط الاستسلام في 26 نيسان إبريل 1916، حيث أصرَّ الأتراك على الاستسلام الكامل بدون شروط، فأُخذ قائد الجيش اللواء تاونسند أسيرا إلى إسطنبول، وسيق الجنود البريطانيون إلى بغداد ومنها إلى الأناضول حيث عملوا في السخرة وفي بناء خط سكة حديد (برلين – بغداد)، وهناك قضى الكثيرون منهم نحبهم بسبب المرض والأعمال الشاقة.
وتنتشر مقابر أخرى في العراق للقتلى الأجانب، ففي منطقة باب المعظم، ببغداد تقع المقبرة العثمانية، وتبدو أشبه بمتنزه يمتلئ بالأشجار الضخمة، وهي محاطة بسياج عال وبوابة كبيرة تعلوها لافتة كتب عليها باللغتين العربية والتركية (مقبرة الشهداء الأتراك)، أما في منطقة الوزيرية فثمة مقبرة زال الكثير من معالمها، وأصبح جزء منها ملعبا للأطفال، إنها المقبرة البريطانية أو مقبرة الإنكليز كما تعرف محليا، وتضم رفات مئات الجنود البريطانيين والأستراليين والهنود وغيرهم، ممن كانوا يقاتلون في صفوف الجيش البريطاني، وممن دفن في هذه المقبرة الجنرال ستانلي مود الذي كان قائد الحملة البريطانية على بلاد الرافدين، وغيرتورد بيل الشهيرة بالـ"مس بيل" وكانت مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق.
إلى ذلك، يقول أبو هيثم، وهو مواطن من واسط في الـ60 من العمر، خلال حديث لـ"العالم الجديد"، إن "شعور الأهالي يتفاوت تجاه هذه القبور، منهم من ينظر إليها بكثير من التوقير والاحترام، وآخرون يعدونها من مخلفات الغزاة، ولم يقتصر تعبير هذه المقابر على الرمزية التاريخية لها فإنها تشير إلى المطامع الدولية في العراق خلال تلك الفترات".
لكن حيدر صباح (44 عاما) يشير إلى أن "الكثير من القصص والأساطير حيكت حول مقابر الأتراك والإنكليز في الكوت، كونها تقع ضمن المناطق السكنية والتجارية في قلب المدينة، وعدم معرفة الأجيال الحديثة بالمعارك التي أدت إلى سقوط هذا العدد من القتلى"
وتكتسي بعض هذه المقابر بطابع القداسة لدى السكان وينظر إليها بكثير من التبجيل، كما هي الحال مع مقبرة الشهداء العرب في الأعظمية، التي تقع بالقرب من ضفة دجلة الشرقية.