
دارت مكائنه منذ الستينيات.. معمل نسيج الكوت يحتضر
واسط - العالم الجديد
لم يبق لنوري العايدي (59 عاما) سوى أشهر معدودة ليحال إلى التقاعد بعد خدمة طويلة في الوظيفة قضاها بمعمل نسيج الكوت، مذ كان في ريعان شبابه، والآن بعد سنوات طويلة سيخرج تاركا معملا قست عليه الظروف وهَرِمَ هو الآخر جراء الإهمال الحكومي وتراجع الصناعة.
ينعش العايدي ذاكرته، ليسترجع أولى المهام التي أوكلت إليه في عمله حيث تسلم مهمة تنظيم طابور المواطنين عند مركز البيع المباشر الذي يبدأ منذ ساعات الدوام الرسمي الأولى وحتى نهايته.
ويقول العايدي، خلال حديث لـ"العالم الجديد"، إن "الزبائن كانوا يتزاحمون على شراء المنتج من أقمشة قطنية، وملابس محاكة، وملابس داخلية، ولم أكن استطيع التحدث مع زملائي بسبب زخم العمل المتواصل".
ويضيف أن "العمل الآن متوقف والأحاديث مع الزملاء مستمرة بألم عن هذه المكائن المتوقفة التي كانت في يوم ما تضجّ بأصوات العمل والإنتاج المتواصل".
ويقع معمل نسيج الكوت في مركز المحافظة على مساحة تتجاوز 386 ألف متر مربع، ودارت آلات العمل به لأول مرة عام 1966، مسهما في رفد العراق وعدد من الدول بمنتجاته القطنية ومنسوجاته كقماش البازة والديولين والبرلون والجواريب إضافة إلى الملابس الداخلية، وفي مطلع العام 2016 تم دمج المعمل مع شركات عدة في بغداد تحت مسمى الشركة العامة لصناعات النسيج والجلود.
ويؤكد مدير المعمل حيدر الوزان، خلال حديث لـ"العالم الجديد" أن "المعمل يعيش حالة من الاحتضار البطيء، حيث شهد انخفاضا في أعداد العاملين والموظفين من ستة آلاف عامل إلى ألف و700 فقط منذ عام 2003 إلى الآن بسبب الإحالة على التقاعد أو النقل إلى مؤسسات حكومية أخرى، إلى جانب توقف عدد من الخطوط الإنتاجية المهمة".
ويرجع الوزان أسباب فشل المحاولات لتحويل العمل في المعمل من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص أو المشترك إلى "اشتراط المستثمرين تسريح أكبر عدد من العاملين الدائمين فيه، إضافة إلى تقاطع التعليمات والقوانين والتشريعات المتعلقة بآلية التحويل فيما بينها، ما عقد المشهد أكثر".
وتوقفت أغلب المصانع الحكومية عن العمل بعد 2003 إذ يبلغ العدد الكلي للمصانع التابعة لشركات القطاع العام في العراق نحو 227، في حين يبلغ العدد العامل منها 144 فقط، ووفقا لبيانات عن وزارة الصناعة فإن نحو 18 ألفا و167 مشروعا صناعيا متوقفة عن العمل لأسباب مختلفة.
نداءات مستمرة وجهها قسم التسويق في معمل نسيج الكوت إلى الحكومات العراقية والبرلمان، لتفعيل وإعادة إحياء المصنع الذي يمثل رئة اقتصادية مهمة للمحافظة، بعدما كان يحقق سابقا مبيعات كبيرة، إلا أن هذه النداءات لم تجد آذانا صاغية.
من جانبه، يذكر مسؤول قسم التسويق في المعمل عبد الحسين اللامي، خلال حديث لـ"العالم الجديد"، أن "مخازن المعمل تغص بآلاف القطع التي تصنع سنويا، لتجنب تعرض المكائن إلى التلف والاندثار إذا ما توقفت عن العمل، ولم تجد منفذا للتسويق".
ويضيف اللامي، أن "البيع اقتصر خلال الفترات الماضية على مؤسسات في القطاع الخاص مثل المستشفيات الأهلية وبعض الشركات الأمنية الخاصة، التي وجدت في منتجات المعمل ضالتها إذ توافق المعايير المعتمدة، لكن المؤسسات الحكومية اختارت الاعتماد على المستورد أو الشراء بنظام الآجل دون دفع المستحقات المالية المترتبة عليها، الأمر الذي ولد خسائر جديدة للمعمل".
الزهرة البيضاء هي الأخرى تأثرت بانخفاض الإنتاج في المعمل، فالقطن الذي كان يزرع على مساحة 5 آلاف دونم في واسط انحسرت زراعته بشكل كبيرة لتصل الكميات المنتجة في المحافظة إلى 600 طن فقط.
ويكشف مدير زراعة واسط أركان مريوش، خلال حديث مقتضب لـ"العالم الجديد" أن "أغلب مزارعي القطن في واسط عزفوا عن زراعة هذا المنتج، نتيجة لفقدان الوجهة التسويقية له والتي كانت أهمها معمل النسيج وكذلك شحة المياه".
ويعتمد معمل نسيج الكوت في معظم منتجاته من الأقمشة على القطن المستورد كون القطن المحلي لا يسد حاجته الأمر الذي بات يهدد الصناعة القطنية بالتوقف بعد الانهيار الذي أصابها بالتتابع في السنوات الأخيرة، وكانت الحكومة المحلية في واسط قد خصصت عام 2008 مبلغا من تخصيصات تنمية الأقاليم لإنشاء محلج للقطن ضمن منشآت نسيج الكوت وتم افتتاحه عام 2009.
إلى ذلك، يستذكر أحد مستهلكي منتجات العمل، وهو أبو فراس (66 عاما)، الذي يسكن الكوت انه "خلال السبعينات والثمانينات لم يكن يخلو أي من الأسواق المحلية من الباعة المتجولين الذين يردّدون (فانيلة الكوت)، التي يقبل على شرائها الكثيرون".
ويضيف الرجل الستيني أن "هذا لم يأت من فراغ، إنما نابع من إنتاج متميز ذي جودة عالية حيث غزت منتجات معمل نسيج الكوت جميع الأسواق المحلية في محافظاتنا إضافة إلى العديد من البلدان المجاورة، لكن الوضع الآن تغير مع صعوبة منافسة البضاعة المستوردة من حيث انخفاض سعرها وكذلك ارتفاع أسعار المواد الأولية أو انعدامها كالقطن".
ويواجه قطاع الصناعة في العراق بشكل عام، الذي من المفترض أن يساهم بتشغيل شرائح عديدة من المجتمع، تدهورا كبيرا منذ العام 2003 ولغاية الآن، في ظل توقف أغلب المعامل والتوجه للاستيراد، وقد قدر اتحاد الصناعات العراقية قبل سنوات، نسبة المشاريع المتوقفة بـ40 ألف مشروع، ودائما ما تتضمن البرامج الحكومية المتعاقبة موضوع تنشيط الاقتصاد والصناعة المحلية، لكن من دون تحقيق أي وعد، بل يستمر التبادل التجاري مع دول المنطقة مع إهمال الصناعة المحلية.
وفضلا عن القطاع الحكومي، فإن مشاريع القطاع الخاص، شهدت توقفا، بل وانهيارا كبيرا نتيجة لعدم توفر البنى التحتية للإنتاج، من تيار كهربائي أو حماية لازمة، خاصة في ظل الأحداث الأمنية التي يعيشها البلد بصورة مستمرة، ما انعكس سلبا على السوق العراقي الذي تحول إلى مستهلك للبضائع المستوردة.