عقد التغييرات الحاسمة.. الثقافة تتراجع والأصولية تتتقدم!

ها هو العقد العراقي تصرم بالفعل، وبدأنا نعيش تفاصيل العقد الجديد من عمر ما بعد 2003، العقد الذي لم يحسم فيه سوى التخلص من الدكتاتورية، والانطلاق في رحلة اكتشاف الذات وإعادة تعريف الهويات، والتموضع المناسب بعد زوال نابض الدكتاتورية وانفلاته من ضغط الإقليم وتحرره من قمقم القمع، الذي منع كل محاولات اكتشاف الأنا والآخر، بدعاوى ظاهرها الحفاظ على النسيج الاجتماعي والوطني، وباطنها بالتأكيد خشية السلطة الحاكمة من تفجير مشاكل عجزت عن مواجهتها، وهربت من استحقاقات الإجابة عنها إلى المزيد من الهياج العنفي والقمع اللامبرر .

العقد العراقي المليء بالعنف، والذي يعاني من تفكك منظومته السياسية القديمة وتهاوي هياكل دولة نشأت نتيجة صفقة سياسية بين قوى استعمارية في مطلع القرن الماضي، وانهارت بعد أكثر من ثمانية عقود، شهدت فيها السياسة العراقية تحولات شاملة، لكنها أبقت على ثابت واحد، ظل متحكماً وحاكماً كنسق، ومسلمة من مسلمات العمل السياسي في البلاد، حيث يتم الحكم عبر منظومة الإقصاء والاستعباد والاستعداء، وهذه السياسيات الثلاث تعني فيما تعنيه توجيه العنف الذي تحتكره السلطة، نحو إلى فئات اجتماعية تفترضها الدولة \”معادية أو خائنة\” لمشروعها القومي – الطائفي، وهذا ما حصل، فطوال العقود الثمانية كانت الدولة تستعدي بشكل وبأخر (الشيعة والكرد). وكنتيجة حتمية لفشل الدولة المتذهبة، فإن اللجوء إلى كهوف الطوائف والقوميات سيكون الخيار المتاح أمام هذه الفئات المقصية.

انتهت صيغة الدولة التي رسمتها السياسة البريطانية، بعد سقوط مدوي، وكنتيجة طبيعية لتفكك الدولة، فأن انهيارها يستوجب البحث عن صيغة ما، لإعادة رسم ملامح مشروع جديد، وهو ما جاء به احتلال آخر، حين أطلق عملية بناء دولة على وفق صيغة طائفية – قومية .

هذا الأمر يبدو بديهياً ويعرفه الجميع، وسبق أن كتبنا عنه في مقالات سابقة، لكن الذي يجب أن نشير إليه هنا، هو أن اختناق الصيغة الأميركية وتعثرها عن الاستمرار وتطوير آليات استيعابها، هو نتاج جد طبيعي لغياب أس توافقي –إستراتيجي بين حلفاء المشروع، الكرد – الشيعة. فالكرد لا يتفقون مع الشيعة سوى على إنهاء صيغة الحكم \”الطائفي \” في العراق، والشيعة لا يريدون أي صيغة من الصيغ إنهاء العراق الحالي وتفكيكه وتجزئته، مثلما هو المشروع الكردي الذي يعمل بشكل دؤوب على إنهاء العراق كدولة، ومنع ظهوره من جديد على الخارطة. كما أن ظهور الطبقات التي تعتبر ذاتها خارج المشروع الأميركي، لا يمكن الالتقاء معهم على صيغة، لأنهم أيضا لا يلتقون مع كلا الفريقين على أرضية مشتركة. فوصول طبقات حاكمة من خارج القوميات والطائفية، يعني بالضرورة إنهاء المشروع السياسي الحالي، واستبدال صيغته، وهو مالا يمكن تصوره بأي شكل من الأشكال.

في المشهد الثقافي المرتبك هو الآخر، لا يمكن الحديث عن مشروع ناضج أو إستراتيجية يمكن أن تضعها النخب الثقافية في البلاد، من أجل أن توفر بديلاً مناسباً أو على الأقل تساهم في وضع بعض الحلول، أو بلورة موقف شعبي تجاه استمرار معادلة الحكم – العنف التي صارت لا تولد إلا مزيد من العنف والانقسام الاجتماعي.

فالنخبة الثقافية تعيش تراكمات هائلة من أزمنة سابقة، فهي ومع قيام التغييرات العسكرية في العراق بقيت تعيش على هامش المتن السياسي- العسكري الذي يحكم، ولا تتمكن مطلقاً من اتخاذ أي موقف تجاه السلطة خشية منها، فالقمع الفكري الذي مورس طيلة عقود لا يمكن معه مواجهة أي فعل سلطوي، وإلا فسيكون الثمن قاسياً. والشواهد كثيرة جداً عن مواقف اتخذها مثقفون عراقيون ودفعوا أعمارهم ثمناً لها. 

أما بعد 2003 فلا يمكن أيضا التعويل على هذه النخبة لانقسامها وضعف سلطتها وغياب الرؤية الجامعة التي يمكن معها اتخاذ موقف يمكن أن يحظى بشبه إجماع، أو على الأقل تأييد السواد. فالمشهد السياسي المنقسم رافقهُ انقساما ثقافيا عميقا، وتهرؤ المؤسسات الثقافية وتسرب فيروس الحزبية والجهورية والطائفية، ولذا فأن قراءة سريعة للمشهد الثقافي ستكشف حجم القصف والتلف الذي يتعرض له النسيج الثقافي الذي صار مشوهاً وفقد بريقه في التأثير.

عشرة أعوام مضت على مشهد مزدحم وممتلئ بكل شيء إلا التأثير في الشارع، وهذا يؤشر فشلاً نوعياً تتحمله النخبة، ويدفع المجتمع ثمنه، بعد ان تسيد الخطاب الطائفي – الأصولي على المشهد، وصار يتمدد في كل الاتجاهات، مهدداً الحياة المدنية في الصميم. فهو في معركة وجود مع المدنية وداعتها، وهو يقبض الآن بقوة السلطة على كل مفاصل القوة، وهذا ما يتطلب حراكاً اكبر، ورؤية أدق في مواجهته، وإلا فأن مصير العراق سيكون مظلماً، ما دامت بعض القوى الأصولية والطائفية لا تختلف عن طالبان سوى بطول \”اللحى\”!

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا