بين القصة القصيرة والرواية

كثيراً ما يدور الحديث عن الرواية والقصة القصيرة، بوصفهما فنين سرديين متنافسين على الدوام، وفي ما إذا تفوق أحدهما على الآخر، بسبب هجرة الكثير من كتاب السرد من القصة القصيرة إلى الرواية، أو لتميز القصة بالتركيز والأناقة والرشاقة اللغوية.

اختزالية القصة القصيرة وتركيزها، وامتيازها بضرورة البناء الفنّي الدّال والمحتشد حول حدث مركزي مفارق، جعل من ممارسة الكتابة لها بمثابة اختبار حرج، وموطن افتضاح، في نظر القارئ المتبصر بمباني هذا الفن، لأية ركاكة أو زائدة حكائية قد تصدر من القاص، ما جعل أكثرهم ـ أي القصاصين ـ على المحك، ودفعهم لقلة الإنتاج قصصياً. هذا إضافة إلى شحّ الثيمات القصصية المميزة أصلاً، وهو ما قد يؤدي بالبعض إلى إعادة إنتاج ثيمات مستهلكة بتقنيات جديدة، تجريبياً، ما قد يكون عرضة للفشل. ومع ذلك كله شهدت القصة العربية والعراقية أسماءً قصصية مهمة، ما زال رنينها عالياً، وما زالت تقدم الجديد والمبهر والمتفوق شكلاً ومضموناً.

وإذا كانت القصة القصيرة نهراً صافياً يسهل الغوص فيه واستكشاف أعماقه، فإن بحر الرواية الكبير قد يخفي الكثير من الهِنات العابرة التي قد تبدو أشدّ ظهوراً في القصة القصيرة؛ وهذا احد أسباب امتهان الرواية ـ فنّاً إبداعياً ـ من قبل الكثير من الساردين.

الرواية تقدّم عالماً كبيراً وحياةً مكتملة، بينما تنشغل القصة القصيرة بإبراز حدث واحد، قد يكون عابراً في الحياة، وتسلط عليه الضوء. لكن الحياة ـ بمختلف حيثياتها وتفاصيلها المهمة والتافهة ـ أكثر استثارةً لفضول القارئ من الحدث العابر، خصوصاً مع قلة أولئك الكتاب الذين يتقنون إبرازه وشدّ القارئ إلى هذا الحدث حتى يتفاعل معه ويستخلص منه المتعة أو الفكرة؛ لهذا سجّلت الرواية تفوقاً واضحاً على مستوى الرواج واستثارة رغبة الناشرين، مقارنة بالمجاميع القصصية، والتي قد تُغني عنها الدوريات والصحافة والمواقع الالكترونية التي تقدم وجبة منوعة من القصص بسبب صغر حجمها، بينما لا يمكن نشر رواية كاملة وقراءتها إلا في كتاب مستقل غالباً.

الرواية ينظر لها باهتمام وحفاوة، فاسمها المجرد يمتلك بريقاً خاصاً، رغم أن ليس كل ما يكتب على غلافه (رواية) جدير بالاهتمام أو القراءة. الرواية نوع سردي مُجازف، ينزع نحوه الكتّاب لإثبات قدراتهم على المطاولة، وإبراز مهاراتهم في التحبيك وصناعة العوالم والفضاءات والشخصيات. فهي بطبيعتها تتسع لما لا تتسع له القصة القصيرة، إذ يمكنها التوثيق والتحليل واستقصاء مجريات الأحداث والمواقف، وكذلك التخييل ومضاهاة الواقع، فضلاً عن وظيفتها الإمتاعية بوصفها فنّاً أدبياً. الرواية فضاء شاسع يمكن للكاتب أن يُعبّئهُ بما يشاء، بخلاف القصة القصيرة، لكن عليه أن يفكر في نجاح روايته أيضاً، بأن يسعى لاكتمال شروطها الفنية، وأن لا يعوّل على التسميةِ فقط.

بعض الآراء تقضي بنهاية زمن القصة القصيرة واقتراب موتها، لحساب الرواية وازدهارها، بوصفها فن العصر، ولكونها الأقدر على الإلمام بتحولاته الكبرى. إلا أن هذه الآراء واجهتها آراء مناقضة، قالت بحياة القصة القصيرة واستمرارها، فهي تناسب كثيراً عصر السرعة الذي نعيشه اليوم، ولا زال الكثير من الكتاب يميلون إليها ويواصلون إنتاجها، وما تزال شرائح واسعة من القرّاء تشدّهم ذائقتهم نحوها. وفي الأخير، يجب الإقرار أن لكل منهما ـ القصة والرواية ـ وظيفته الفنية وقُرّاءه، ولا يمكن الحكم ببساطة بموت نوعٍ أدبيّ ما، ما دام البشر مختلفون في الأهواء ومستويات التذوّق والظروف المؤثّرة في تكوين وعيهم وثقافتهم.

alidawwd@yahoo.com

إقرأ أيضا