كان بائع الغلال في نهج ابن خلدون وسط العاصمة تونس يتبادل الود والمزاح قبل أن يبيع زبائنه فاكهته من الكرموس والعنب وثمرة تين الشوك الهندي والإجاص…، ومع أنه في عقده السبعيني لكنه كان يضيف نكهة إلى طعم بضاعته في هذا الود في تسعينيات القرن الماضي. بينما اليوم يقف بائع الكرموس في الطريق ما بين تونس والحمامات أشبه بشرطي يحرس بضاعته بوجه متجهم يرفض أن يكون الود واسطة بينه وبين الزبائن الذين يوقفون مركباتهم جواره للتبضع.
قلت له مازحا “لو اشتريت منك كل ما في هذه السلة، هل ستبتسم؟” لم يجد ما يبعث على الابتسام في كلامي! فناولي الكيس من دون أن يغير قسمات وجهه!
ثمة معادل لا موضوعي ما بين ذاك البائع العجوز في تسعينيات القرن الماضي وبائع اليوم، يمكن أن نقيس فيه الطمأنينة المفتقدة في تونس، وهذا لا يقتصر عليهما فحسب، يمكن أن يكون الحال نفسه مع سائق التاكسي الناقم على كل ما يحيط به في الشارع، وموظف البنك ونادل المقهى وحتى بائع الفل والياسمين في شارع الحرية.
كنت أرى في تونس إبان عقد التسعينيات نافذة شاسعة مفتوحة نحو العالم، وعشت لسنوات فيها مطمئنا آنذاك، لكنني أفتقد كل ذلك اليوم وأبحث عنه في مقاهيها الذاوية وفنادقها التي افتقدت نجومها الخمس، يا للحسرة! قال لي نادل مقهى الفندق في ياسمين الحمامات وهو يبتهج بي مثل أي تونسي عند لقاء عراقي “الأمور تغيرت ولم تعد كما كانت”.
ذلك ما كنت أبحث عنه وأنا أقف قبال مقهى باريس وسط تونس التي أرخت لحقبات سياسية وثقافية، بحثا عما علق في نفسي من طمأنينة. كانت المقهى تضج في كل صيف من تسعينيات القرن الماضي بجدل أبو زيان السعدي ومصطفى الفارسي والحبيب بوعبانة ومحمد الخالدي وآدم فتحي ومحمد الصغير أولاد أحمد…، بينما تبدو المقهى نفسها اليوم ذاوية وكأن مقاعدها هرمت ولم تجد من يبث فيها الحيوية.
حدث في صيف عام 1996 أن التقت مجموعة من العراقيين في تونس قادمين إليها من شتى بقاع العالم، وكانت المفاجأة أن يلتقوا معا تحت أشجار شارع الحبيب بورقيبة وكأن تغريد العصافير فوقها شاهدا على ذلك اللقاء النادر بين المخرج المسرحي سعدي يونس بحري والمخرج حسن الجنابي والروائيين فؤاد التكرلي وعبد الرحمن مجيد الربيعي والفنان الدكتور فاضل عواد والفنان جواد الشكرجي والمخرج مقداد مسلم والموسيقار نصير شمه وعازف البيانو سلطان الخطيب والفنانين التشكيليين حسن عبد علوان وسعدي الكعبي وسميرة عبد الوهاب وعلي رضا والصحفي أياد البكري واستاذ الإعلام كريم الفراجي وصانع الأعواد يعرب محمد فاضل، فأي دائرة عراقية ستكون عندما يقفون وسط طريق يعشقه كل التونسيين في مساء صيفي على ضفاف المتوسط. كان مثيرا أن نقف جميعا أمام فندق أفريقيا الشاهق بشكل لافت أثار رجال الأمن بملابسهم المدنية! فكيف أجتمع كل هؤلاء العراقيين ذلك المساء. حتى رجل الأمن كان ذكيا وهو يدخل بيننا لتفريق هذا التجمع التلقائي في أهم مركز وسط المدينة. نعم كان رجال الأمن يراقبون كل ما يحدث آنذاك، لكنهم لا يشبهوا رجال الأمن اليوم مثلما لا يشبه بائع غلال الأمس البائع اليوم!
فرجل الأمن اليوم أوقف سيارة الأجرة في منتصف الطريق طالبا مني الهبوط بذريعة لماذا أجلس في المقعد الخلفي وليس جوار السائق في محاولة لابتزازي!
ما زلت أدور في تونس بحثا عما أفتقده بين الأمس واليوم، ولأنها جزء من تاريخي الشخصي أهيم بها، فقد تركت في أمسيات مقاهيها ومطاعمها ومفردات أهلها وأغانيها ما يلذع القلب بنكهة لا يمكن أن تتلاشي، تماما مثل أغاني الهادي الجويني الملتاعة!