صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

أرشيف القيادة القطرية.. إيهام حسن النوايا

تكاثرت الأنباء عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة عن حسن نوايا الولايات المتحدة الأمريكية في دعمها لحكومة السيد “مصطفى الكاظمي” في إعادة أرشيف القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وحكومة صدام حسين الدكتاتورية المشبوهة بارتباطها بالأجهزة الأمريكية منذ تسلمها السلطة في مسرحية السابع عشر من تموز 1968.

فقد هبطت في مطار بغداد “طائرة خاصة” تحمل تلك الوثائق الورقية المعادة للعراق تعبيرا عن حسن النوايا.. ذلك محض وهم وإيهام! فحين اختلف الإخوة الأعداء في نهاية القرن الماضي، وقررت الولايات المتحدة الأمريكية إنهاء حقبة الصديق اللدود صدام حسين وبطانته في التاسع من نيسان عام 2003، استحوذت قوات التحالف من جملة ما استحوذت عليه، وثائق القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، فلقد حمل جنود الاحتلال، صناديق ملأى بالوثائق الورقية المكتوبة، وجداول الإحصاءات السياسية والحزبية، إلى مقر قيادة قوات التحالف، ونقلتها إلى مكاتب المخابرات الأمريكية (السي آي أي) في واشنطن.

بداية لابد أن نعرف بأن عدة مؤسسات وأفراد استحوذوا ما استطاعوا الاستحواذ، على قسم كبير من هذه الوثائق الورقية في يوم سقوط النظام وسيادة الفوضى في البلد، حتى سيطرت القوات الأمريكية على المكان فأخذت المتبقي من الأرشيف، وحملته في صناديق، وأرسلته عبر القيادة الأمريكية في العراق إلى أجهزة المخابرات الأمريكية في واشنطن.

هناك مقرات أرشيفية أكثر خطورة من وثائق “القيادة القطرية” لحزب البعث العربي الاشتراكي، أو حتى وثائق “القيادة القومية” التي لم تجر الإشارة إليها، وهي وثائق وزارة الخارجية العراقية التي كانت محفوظة في طابق كامل من بناية الوزارة، لكن ألأهم والأكثر خطورة مع عدم التقليل من أهمية وخطورة المواقع المذكورة، هو موقع أرشيف مديرية الأمن وأرشيف قصر النهاية السيء الصيت، وأرشيف مديرية المخابرات والاستخبارات العسكرية والأكثر خطورة وثائق القصر الجمهوري الخاصة بصدام حسين ووثائق مركز الشرق الأوسط للتجسس والكائن في مقر القصور الرئاسية في مدينة البصرة.. لا أحد يتحدث عن هذه الوثائق وطبيعتها، وأين هي ومن إلذي إستحوذ عليها وماذا تبقى منها؟

إن وثائق “القيادة القطرية” لحزب البعث العربي الاشتراكي هي وثائق ذات طابع تنظيمي وذات طابع رقابي لسلوك الحزبيين وحلفاء السلطة، أو المعارضين لحزب البعث الحاكم وسياسته، فيما وثائق القيادة القومية تشمل العلاقات الحزبية والتحويلات المالية لخلق بؤر تنظيمية في البلدان العربية وغير العربية، وإستقطابات المثقفين والسياسيين والرشاوى والإغراءات المالية والإمتيازات التي تقدم لهم مقابل الولاءات السياسية والإعلامية. كما تضم وثائق الخارجية العراقية إستخدام السفارات العراقية وموظفيها لتنفيذ الإغتيالات في صفوف المعارضة العراقية خارج العراق وطبيعة التنقلات بين الدبلوماسيين والمهام الموكلة إليهم. أما الوثائق الأخطر فهي وثائق الأمن العام والمخابرات والإستخبارات العسكرية ووثائق قصر النهاية، والوثائق الخاصة بصدام حسين في القصر الجمهوري. وهذه لم تتم الإشارة إليها، وأين هي ومن يحفظ أسرارها في خضم الفوضى التي جرت بعد تغيير النظام .. ويبدو لي أن الفوضى هي ليست فوضى بمعناها المطلق، إنما هي فوضى منظمة ومقصود تنظيمها حيث ضاعت الوثائق الهامة والمهمة في خضم هذه الفوضى!

دعونا أولا نتحدث عن حسن النوايا.. المخابرات الأمريكية وبعد تقاطع المواقف السياسية بين إيران وأتباعها في العراق، صارت “إعلاميا” تتحدث عن الوثائق التي نقلتها من العراق إلى أمريكا. وكانت تحرص أن لا تسلمها لأحد من رؤساء الوزارات العراقية الذين تداولوا على رأس السلطة العراقية خشية أن يصار إلى تسليمها لجمهورية إيران الإسلامية، ولكن بمجيء حكومة السيد مصطفى الكاظمي وتعبيرا عن ثقة الحكومة الأمريكية بحكومته، فانهم أعادوا وثائق القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي إلى العراق بطائرة خاصة، تعبيرا عن حسن النية وعن الثقة بحكومة الكاظمي.. إن ذلك في حقيقة الأمر هو استخفاف واستغفال للوعي العراقي ومحاكاة للوعي البسيط، بسبب سيادة الأمية والجهل الذي حل على العراق بعد “تحريره” من ربقة الدكتاتورية.. ذلك يتوضح من الآتي، أعني الاستخفاف بالعقلية العراقية:

أولا، إن القوات الأمريكية أو الجنود الأمريكيين الذين دخلوا مقر القيادة القطرية قد حملوا صناديق من الوثائق الورقية لا أحد يعرف كميتها، وهي ليست سوى المتبقي من نهب اليوم الأول “ومن هذا النهب ما استحوذت عليه مؤسسات تعمل في المنطقة العربية لصالح المنطقة الشمالية، وبالتأكيد فإن ما استحوذ عليه قد أرسل إلى الدولة العبرية، بسبب علاقات المودة الستراتيجية معها (الدولة العبرية) ومؤسساتها المقيمة في شمال الوطن العراقي. وفي الدولة العبرية حسب مقالة الكاتبة اليهودية “عوفر” الإستاذة في جامعة تل أبيت والمنشورة في صحيفة “ها آرتس الإسرائيلية” التي أشارت إلى مقر الأرشيف الكائن في وزارة الدفاع الإسرائيلية والتي يطلق عليه “أرشيف الغنائم” في معرض مقالتها عن سرقات مركز الأبحاث الفلسطيني أبان الغزو الإسرائيلي إلى لبنان عام 1982.. إذن فالكمية المحمولة بالصناديق والتي أرسلت إلى الأجهزة الأمريكية ليست سوى الجزء المتبقي من أرشيف القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي”.

ثانيا، هذه الكمية من الوثائق الورقية تم استنساخها مسحا وبأعلى درجة من الدقة التقنية، وقد تم مسحها وتنظيمها وأرشفتها وخزنها ضمن برامج حديثة من الصعب على العراقيين وفي مرحلة الفوضى القائمة تنظيمها بذات الدقة.

ثالثا، من يستطيع أن يعرف كمية الأوراق الوثائقية التي تم الاستحواذ عليها؟ وبالتالي من يستطيع أن يعرف حجم الوثائق المعادة؟ “استنادا إلى مبدأ حسن النية في دعم حكومة السيد الكاظمي؟”.

رابعا، إن بإمكان أجهزة المخابرات الأمريكية أن تقوم بتزييف الوثائق عبر برامج الحواسيب وخبراء تلك البرامج، يحيث تجعل من حكومة الكاظمي الاعتقاد وفق متغيرات الوثيقة، على أنها وثائق حقيقية ترسم على ضوئها سياستها الستراتيجية!

خامسا، وحتى حجم الوثائق المعادة من وثائق القيادة القطرية لحزب البعث “فقط” من يستطيع أن يعرف حجم ما أعيد للعراق بطائرة خاصة “تعبيرا عن حسن النية”، وما حجب عن الإرسال؟ ذلك أن المواد التي تم الاستحواذ عليها بعد التغيير لم تكن قد تم جردها ومعرفة عدد أوراقها وكم أعيد منها وكم من الوثائق قد تم تزوير بعضها لما يخدم التوجه السياسي لأجهزة المخابرات الأمريكية “السي آي أي”، لكن وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة قد هللت وطبلت وغنت وأوعزت أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أعادت إلى العراق “وبطائرة خاصة” وثائق القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي!؟

القوات الأمريكية المتواجدة داخل العراق لديها “على سبيل المثال” معلومات “من خلال الوثائق” عن مقر المؤسسة التي كانت أجهزة القصر الجمهوري تقوم بتذويب أجساد المعارضين بأحواض الأسيد.. والبيت الذي يمكث فيه رئيس وزراء العراق الأسبق حيدر العبادي قد جرى فيه تذويب جسد الشهيدة بنت الهدى.. فإضافة إلى صعوبة السكن في مكان قد تطوف فيه أرواح الشهداء “عملا برهافة الشعور” وبالطريقة المرعبة، فإن مثل هذه الأمكنة لا يجوز السكن فيها، بل ينبغي أن تتحول إلى معالم للجريمة لهذا الجيل الغافي أو للأجيال الآتية.. نلاحظ “كم حرص اليهود على إدامة الأفران النازية في ألمانيا التي تم حرق ضحاياهم فيها وكم استثمروها اقتصاديا وسياسيا وعاطفيا؟

ثمة حقائق أخرى تتعلق بالأرشفة والسيكولوجيات المريضة، أكثر خطورة من كل هذه المسرحيات الفاشلة التي تؤلفها مؤسسة هوليوود السينمائية المعروفة والمتعلقة بالوثائق المكتوبة.. وبوادر حسن النوايا في إرسال طائرة خاصة محملة بوثائق القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي المصنوع أمريكيا، ومن الغباء أن يستخف الأمريكان بالعقلية العراقية، فأمريكا لا يتجاوز عمرها المائتي عام من عمر التاريخ وهي دولة “لملوم” في محاولة لتجاوز عراق ما بين النهرين الذي صنع الحضارة الإنسانية الأولى قبل أكثر من سبعة آلاف عام والذي دون الكتابة الأولى وشرع أول قوانين البشرية..!

في مذكراتي التي سوف تصدر في القريب، سيجد العراقيون حقائق مخيفة تتعلق بتاريخهم..!! ولكن ما يؤسف له.. أن العراق الذي كان يباع سراً، معروض اليوم  للبيع في المزاد العلني!

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

أقرأ أيضا