صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

أزمات البنك المركزي العراقي: مُعضلة النظام الاقتصادي المعيب

تمهيد:

نَعْلَمْ من التجربة الاقتصادية الوطنية الحديثة (1951-2024)، أن نِعْمَة إيرادات “ريع” المِلكيّة العامة للثروة النفطية الوفيرة، تَمنَحُ مصدر القوة الاقتصادية والسياسية “والشعبية” الفعالة للسلطة الحاكمة، كما تَمنَحُ مصدر القوة المؤثرة في الاقتصاد الذي يشارك فيه القطاع العام والقطاع الخاص. ونَعْلَمْ أيضاً، أن أهداف وأولويات وآليات الحكومات “الرشيدة” في إنفاق “الريع” الذي يَمتَلِكهُ المواطنون جميعاً لتمويل الاستثمار في المشاريع العامة لينتفع المواطنون منها جميعاً في الحاضر والمستقبل، تُغاير جذرياً محفزات وإمكانيات القطاع الخاص المحدودة للاستثمار بآليات السوق “الناقصة” في تعبئة وتوزيع الموارد. ونتيجة التَحول المُفتَعلْ نحو نظام اقتصاد السوق والعمل بالسياسات “الليبرالية الجديدة” منذ عام 2003، أدى التغيير في أهداف وأولويات إنفاق الإيرادات النفطية العامة إلى استمرار الأزمات المالية والنقدية التي أسهمت بالفشل الاقتصادي وانتشار الفساد وبتَكريسْ الأزمة الاقتصادية الهيكلية المزمنة.

بهذه الخلفية، تتناول الورقة توثيق أسباب أزمات البنك المركزي البالغة التكلفة، ومنها، تدهور القدرة الشرائية للدينار، ومساوئ السيولة النقدية العالية، وازدواجية أسعار صرف الدينار، واستنزاف “الريع” بمزادات بيع الدولار، لارتباطها بالنظام الاقتصادي المُعيبْ، وليس اختزالها بإدارة وتغيير سعر صرف الدينار فقط. وفي المقابل، وبإطار الاقتصاد السياسي الأوسع للنمو والتنمية، يُعَبرُ “المشروع الاقتصادي الوطني البديل” عن التغيير المطلوب في السياسات الاقتصادية الحالية.

أولاً: دوامة الأسئلة الاقتصادية

منذ العمل بقرارات سلطة الاحتلال في نيسان 2003 وفَرضْ استراتيجية التحول القَسْريُ والمُفْتَعَلْ نحو اقتصاد السوق والعمل بالسياسات الاقتصادية الرأسمالية “الليبرالية الجديدة” بديلاً لنظام التخطيط الاقتصادي المركزي السابق، ليس جديداً إثارة التساؤلات عن ملاءمة هذه السياسات في معالجة المشاكل الاقتصادية الهيكلية المزمنة ، وعن أسباب نتائج السياسة المالية والنقدية حيث الإنفاق الحكومي المُفرَط، وغير المُنتِجْ، وعدم الاستقرار النقدي وارتفاع الأسعار بتدهور القدرة الشرائية للدينار، واستنزاف “ريع” المِلكية العامة لصادرات النفط الخام المُمَوِلْ والمُحَرِك الرئيسي للنشاط الاقتصادي. ومع استمرار العمل بهذه السياسات خلال الفترة (2003-2024)، يزداد اهتمام الرأي العام بنتائجها المتمثلة بتباطؤ النمو وانخفاض الإنتاجية، وارتفاع البطالة (16.5%)، وانتشار الفقر (30%)، وتفشي الفساد في المؤسسات العامة ، وتردي الخدمات الأساسية العامة، وارتفاع تكاليف المعيشة الباهظة، وزيادة التباين في الدخول والثروات بين المواطنين والمحافظات. كما يزداد الاهتمام بمغزى التضليل بقدسية “استقلالية” البنك المركزي لتجاوز المناقشات المهنية والعامة لقرارات البنك. ومن الأسئلة الهامة، إنكار الحكومات لحقيقة فشل السياسة الاقتصادية في تقليل الاعتماد على “ريع” الإيرادات النفطية في تمويل الإنفاق الحكومي المحرك الرئيسي للاقتصاد، وتمويل الاستيرادات والتحويلات الخارجية المتزايدة والذي فاقَمَ وكَرَسَ الأزمة الاقتصادية الهيكلية المزمنة . ومن الأسئلة أيضاً، لماذا تتجاهل الحكومات دمج السياسة النفطية في إطار أهداف الاستراتيجية والسياسات الاقتصادية الغائبة في برامجها ، وتتجاهل الحقيقة الموضوعية بأن الإنتاج الاقتصادي الأمثل للثروة النفطية يشترط توسيع الاستثمار الحكومي في مشاريع تنمية القطاعات الاقتصادية، وأن مستويات الصادرات النفطية، وليس آليات السوق، هي التي تحدد أسعار صرف الدينار مقابل الدولار والعملات الأجنبية .

والآن، تظهر من جديد، وبوضوح شديد، الأزمة المالية بزيادة عجز الموازنة المالية السنوية ومعها “شح” السيولة النقدية لدى الحكومة والتي تكشف التناقض الواضح بين السياسة المالية والسياسة النقدية بفشل البنك المركزي إقراض الحكومة نتيجة عجز الموازنة المالية السنوية، لتوفير السيولة النقدية ربما لعدم قدرة الحكومة الاقتراض من المصارف المحلية. والإقراض هنا، لا يبرر زيادة عجز الموازنة المالية السنوية وارتفاع “الدين العام المحلي” المتزايد بسرعة ، حيث يجب أن يخضع رصيد الدين العام لرقابة مجلس النواب ومحاسبة الحكومة في حالة الزيادة. وتكشف الأزمة، استمرار السيولة العالية للنقد من الدينار في التداول ، والتوسع في تعاملات البيع والشراء المحلية بقيمة الدولار، والفشل في استقرار سعر صرف الدينار الثابت مقابل الدولار الرسمي (1300 دينار للدولار) ، بتَكريس التعامل بسعر صرف الدينار المنخفض مقابل الدولار في السوق الموازية (1510 دينار للدولار- الآن) برغم إنفاق المزيد من عملة الدولار من خلال “مزادات بيع الدولار” بمعدلات مرتفعة والتي تثير الشكوك بتهريب الدولار لتجاوزها قيمة الاستيراد والتحويلات الخارجية الواجب توثيقها برقابة البنك المركزي المباشرة . والواضح هنا، أن هنالك المنتفعين من تهريب الدولار للخارج، ومن المضاربين بالعملة للحصول على قيمة الفرق (16%) بين سعري صرف الدولار الرسمي والموازي.

وإذ يَعلَمْ الجميع، أن الدولة تمتلك “ريع” الصادرات النفطية من الدولار، العملة الصعبة الوحيدة للبلاد، وأن من الطبيعي أن تتحكم الحكومة في “عرض” الدولار-باستثناء تكرار فعل السياسة الأمريكية الخارجية بتقييد تدفق نقد الدولار للبنك المركزي -، وتتحكم أيضاً، من خلال السياسات الاقتصادية المالية والنقدية الكلية وسياسة الاستثمار والتجارة الخارجية، في تحديد مقدار “الطلب” على الدولار، وأن تأثير السياسة المالية هو المُهيمن على السياسة النقدية، يطرح السؤال الهام في الأزمة: لماذا إذن حَراجة الحكومة من التدخل المباشر لمعالجة استنزاف وتهريب الدولار نتيجة تدفق الاستيرادات والتحويلات الخارجية المتزايدة بدون تَقييد بإدارة البنك المركزي وبحجة تثبيت سعر صرف الدينار، بينما يشير الواقع فشل نظام الصرف الأجنبي حيث التداول بسعرين لصرف الدينار مقابل الدولار؟

ثانياً: ارتِباك وإرباك أزمات البنك المركزي

في عام 2009، بدأت تظهر للعلن مسألة “استقلالية” البنك المركزي والتناقض بين السياسة المالية والسياسة النقدية عندما طالبت الحكومة آنذاك البنك المركزي بموارد إضافية للموازنة المالية السنوية. وقد تفجرت الأزمة في عام 2013 مع إعلان الحكومة بأن سياسة البنك المركزي مُتهمَة بتبديد موارد البلاد من الإيرادات النفطية من خلال “مزادات بيع الدولار”، وأثارت فيها شبهات الفساد لصالح بعض المصارف المحلية. وقد أدت تلك الأزمة إلى إجراء تحقيقات انتهت بإقالة محافظ البنك المركزي وتعيين محافظ آخر، ولكن بدون أي تغيير لاحق في السياسة النقدية حيث استمر البنك المركزي ممارستها، لاسيما المتعلقة بالعمل “بمزادات بيع الدولار” لتثبيت سعر صرف الدينار مقابل الدولار .

وبعدها، برزت أزمة أشد وطأة حين قررت الحكومة، وليس البنك المركزي، وبطريقة ملتبسة مَرتُبكة ومُرْبِكَة، تخفيض سعر صرف الدينار من 1190 دينار إلى 1450 دينار مقابل الدولار بهدف زيادة الإيــرادات المالية العامة لتقليص العجز في الموازنة المالية السنوية نتيجة انخفاض الإيرادات النفطية الكبير والسريع في السنتين 2020 و2021 بالتأثيرات الاقتصادية لجائحة كورونا. وبذلك القرار، تم تخفيض قيمة دخل المواطنين بنحو 22.4%، وكان بمثابة فرض أكبر ضريبة شاملة، وبدون مراعاة الدستور، والتي أدت بدورها إلى ارتفاع الأسعار حيث ازدادت بنسب تراوحت بين 50% -100%، لاسيما المواد الغذائية والاستهلاكية المحلية والمستوردة، وإلــى زيـــادة عــدد الــفــقــراء، واســتــمــرار الــتــردي فــي مستويات المعيشة. وقــد ساهم ذلك التخفيض في تكريس الاعتماد على الإيرادات النفطية من ناحية، وفي زيادة التباين الخطير في مستويات الدخول والثروات بين المواطنين من ناحية ثانية. ومن جهة أخرى، أزال ذلك القرار وَهم “قدسية” استقلالية البنك المركزي التي لا تتلاءم مع متطلبات الاقتصاد الوطني بخلاف محاولات تبريرها باستنساخ تجارب بلدان الاقتصادات الليبرالية المتقدمة . وبذلك القرار أيضاً، تأكدت تبعية السياسة ًالنقدية للسياسة المالية التي تعتمد على الإيــرادات النفطية، تماماً كما كانت الممارسات قبل عام 1980، والاقتناع بأن تحديد أسعار النفط الخام فــي الأسواق الدولية بالدولار يبرر تثبيت سعر ُصرف الدينار مقابل الدولار لتنظيم المعاملات الخارجية بما يناسب متطلبات أهداف السياسة الاقتصادية آنذاك.

ثم ظهرت أزمة البنك المركزي الأكثر تأثيراً بسبب الانخفاض السريع والكبير في سعر صرف الدينار الثابت مقابل الدولار في السوق الموازية في تشرين الثاني عام 2022، ليصل في أقصاه 1700 دينار للدولار في شباط عام 2023، مقارنة بسعر الصرف الرسمي 1450 دينار للدولار حينذاك. وإذ أدت الظاهرة إلى الارتفاع السريع في الأسعار بمعدلات أججت المزيد من الغضب الشعبي حيث تتحمل الغالبية من المواطنين أعباء التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة الباهظة، الأمر الذي فرض على الحكومة، وبتوصية البنك المركزي، تخفيض سعر صرف الدولار ليكون 1300 دينار مقابل الدولار ، وذلك بهدف التخفيف من ارتفاع الأسعار من ناحية، وتقييد التوسع في التداول بالدولار في عقود البيع والشراء والتعاملات التجارية والمالية اليومية وبأسعار صرف الدينار المنخفض في السوق الموازية. ومع ذلك، ومنذ ذلك الحين، أدى هذا القرار إلى ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية ليصل إلى (1510 دينار) في الوقت الحاضر.

ثالثاً: المساوئ الاقتصادية- الاجتماعية بتخفيض سعر صرف الدينار

في الوقت الحاضر، لمعالجة أزمة البنك المركزي الراهنة، وتحت ضغط التعامل بأسعار صرف الدولار المرتفع في السوق الموازية، تقترح بعض الآراء تخفيض سعر صرف الدينار بدون مراجعة وتقييم أسباب أزمات البنك المركزي وعلاقتها بمساوئ سياسات النظام الاقتصادي القائم، وخاصة تداول التعامل بأسعار الصرف المرتفعة للدولار باعتباره من نتائج السياسة النقدية. وإذ يَعلمُ الجميع أن التخفيض يؤدي إلى ارتفاع سريع في الأسعار وتكاليف المعيشة وتعثر النشاط الاقتصادي وزيادة البطالة والفقر، فإن الحكومة “ستتحمل” عندئذٍ نتائج العمل بالسياسات الاقتصادية الحالية. ومن النتائج الهامة المتوقعة، سيتوسع ويتعمق التباين “الخطير” في توزيع الدخول والثروات بين المواطنين والتي ستزيد في تعقيد المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة. وللدلالة هنا، تكفي المؤشرات التالية:

– تشمل الفئات الــمتضررة من خفض قيمة الدينار مقابل الدولار، الموظفون والعمال، والمتقاعدون، ومشاريع الإنتاج الوطنية، وصغار تجار السلع المستوردة، والمقترضون بالدولار بينما دخولهم بالدينار، والمشمولون بالرعاية الاجتماعية الحكومية، وأصحاب العقارات الــمؤجرة بالدينار، والــمستأجـرون للعقارات بعقود الدفع بالدولار بينما دخولهم بالدينار، وأصحاب المدخرات بالدينار.

– وفي المقابل: تكون الحكومة في مقدمة الرابحين من خفض قيمة الدينار مقابل الدولار بمنحها قوة تسلب القدرة الشرائية للموطنين لزيادة تمويل الموازنة المالية السنوية خلافاً لشروط الدستور بفرض الضرائب. أما البقية، فهم الفئات الاجتماعية التي تتمتع بالدخول العالية من المقاولين في مشاريع تم تسعيرها بالدولار، والمقرضون بالدولار من البنوك والشركات والأفراد، والمقترضون بالدولار وعليهم تسديدها بالدينار، والموظفون والعاملون الذين يتقاضون رواتبهم وأجورهم بالدولار، ومستأجرو العقارات بالدينار بينما دخولهم بــالدولار، وذوو الادخارات بالدولار.

هذه اللوحة الاقتصادية- الاجتماعية القاتمة التي ترسم نتائج احتمال تخفيض أسعار صرف الدينار مقابل الدولار، تفرض على الحكومة المعالجة الجذرية لأزمات البنك المركزي بمراجعة وإعادة تقييم ملاءمة السياسات الاقتصادية “الليبرالية الجديدة” الجارية، وليس اختزالها بتغيير أسعار صرف الدينار فقط.

رابعاً: السياسة الاقتصادية وإنفاق “ريع” الإيرادات النفطية

في تحليل دوامة إنفاق “ريع” النفط، “المتغير المستقل” بالمتغيرات الاقتصادية الرئيسية “التابعة”: الإنتاج والاستهلاك والاستثمار والاستيراد، والتي تُحَدِدُ اتجاهات ودينامية آلية السوق في تعبئة وتوزيع الموارد الاقتصادية بين الاستخدامات المختلفة، يجب تأكيد الخلفية التالية:
– أن الاقتصاد يعتمد بشكل رئيسي على “ريع” المِلكية العامة لإيرادات صادرات النفط الخام، وأن تأثير السياسة المالية يُهيمن على السياسة النقدية، وكلاهما يعملان حالياً بآليات اقتصاد السوق “الناقصة” أو تسميتها ب”المنافسة غير التامة”.

– وأن الإنفاق الحكومي المُفرط يزيد كثيراً على الطاقة الاستيعابية للاقتصاد لضآلة الإنتاج المحلي وانخفاض الإنتاجية وتراجع الاستثمار المُنْتِج ولضعف قدرات وإنتاجية القطاع العام والقطاع الخاص في استخدام المعرفة العلمية والتكنولوجية والابتكارات الخارجية المستجدة وإهمال تأهيل الموارد البشرية.

– يؤكد تكريس أسعار صرف الدولار المرتفعة في السوق الموازية بالرغم من ضخ الدولار بقيمة كبيرة من خلال “مزادات بيع الدولار”، بأن التحويلات الخارجية غير المُقيدة برقابة البنك المركزي المباشرة، تسهم في تهريب الدولار وفي ارتفاع الأسعار واستمرار تدهور القدرة الشرائية للدينار.

وللبدء في التحليل: تؤدي وفرة الإيرادات النفطية، وضآلة الإيرادات الضريبية العامة غير النفطية، المتزامنة مع زيادة الإنفاق الحكومي المُفرط التي يتبعها زيادة الاستهلاك الخاص، ولانخفاض الاستثمار الحكومي والخاص، فإن مجموعها، أي، الطلب الكلي aggregate demand المُحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي، الذي يزيد كثيراً على الطاقة الاستيعابية للاقتصاد المحدودة بتباطؤ النمو الاقتصادي – بدون القيمة المضافة لقطاع استخراج النفط الخام- وانخفاض فرص العمل والدخول، واستمرار ضآلة الإنتاج المحلي وانخفاض الإنتاجية، ونقص الاستثمار في توسيع الطاقات الإنتاجية التنافسية في الأسواق المحلية والخارجية. لذلك، تؤدي زيادة الطلب الكلي إلى ارتفاع الأسعار المحلية وإلى زيادة الاستيراد من المنتجات والسلع المختلفة التي تجلب معها ارتفاع جديد للأسعار.

ولأن تدفق الاستيراد والتحويلات الخارجية يتم بدون تَقييدْ، فإن زيادتها يؤدي إلى استنزاف وتهريب “ريع” الصادرات النفطية من الدولار نتيجة فشل نظام الصرف الأجنبي الذي يعتمد “مزادات بيع الدولار” لتثبيت سعر صرف الدينار مقابل الدولار، وهو ما يضيف عوامل جديدة لارتفاع الأسعار المحلية التي تتطلب من جديد ضخ المزيد من الإيرادات النفطية لتمويل الزيادة الجديدة في الإنفاق الاستهلاكي الحكومي والخاص والاستيراد والتحويلات الخارجية، بينما يستمر انخفاض الاستثمار الحكومي مع ضآلة الإيرادات الضريبية العامة والنقص في الإنتاج المحلي، في مقابل الحدود الضيقة لطاقة الاقتصاد الاستيعابية. وبدورات زمنية متتابعة، تؤدي الزيادات المستمرة في النفقات الحكومية المُمَوَلَة من الإيرادات النفطية إلى المزيد من ارتفاع الأسعار التي تتطلب زيادات إضافية من الاستيرادات المرتفعة الأسعار، ومع سعر صرف الدينار الثابت مقابل الدولار، يؤدي هذا إلى المزيد من استنزاف إيرادات “ريع” الصادرات النفطية.

والواضح، أن تأثيرات السياسة المالية التي تولد السيولة النقدية الكبيرة بما يفوق الطاقة الاستيعابية للاقتصاد، هي العامل الرئيسي في ارتفاع الأسعار في الوقت الذي تعجز السياسة النقدية في التحكم بهذه السيولة لأن فاعلية أدواتها من أسعار الفائدة والائتمان المصرفي محدودة جداً باستثناء مواصلة تمويل الاستيراد والتحويلات الخارجية بنظام الصرف الأجنبي لتثبيت صرف الدينار مقابل الدولار.

مع التمسك بالسياسة الاقتصادية الحالية، المالية والنقدية الكلية وسياسة الاستثمار والتجارة الخارجية، يتكرر نمط تأثير الإيرادات النفطية كمتغير “مستقل” في مستويات المتغيرات الاقتصادية “التابعة” الإنتاج والاستهلاك والاستثمار والاستيراد في المديات القصيرة والسنوية بما يؤدي إلى زيادة مستمرة في الإنفاق الاستهلاكي العام والخاص واستنزاف الإيرادات النفطية العامة للحفاظ على مستويات الأسعار دون ارتفاعها. والتجربة العملية واضحة في نتائجها بتأكيد دور السياسة المالية في تحفيز النشاط الاقتصادي المحلي المُمول فقط من “ريع” الإيرادات النفطية، بينما تأثير السياسة النقدية “المستقلة!” محدود جداً لضعف فاعلية أدواتها أسعار الفائدة والائتمان المصرفي باستثناء تمويل الاستيراد والتحويلات الخارجية بدون تقييد مناسب، في الوقت الذي يستمر انخفاض معدل الادخار(الاستثمار) إلى الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع السيولة النقدية وتراكم الاكتناز وشراء الذهب. وهكذا تسهم السياسة الاقتصادية الحالية في تكريس الأزمة الاقتصادية الهيكلية المزمنة نتيجة انخفاض الاستثمار الحكومي في مشاريع التنويع الاقتصادي بينما تستثمر الفوائض المالية لدى القطاع الخاص المتزايدة، ومصدرها الرئيسي الإنفاق الحكومي، في قطاعات التشييد والبناء والعقارات وتجارة الاستيراد التي لا توسع في الطاقات الإنتاجية للقطاعات الصناعية والزراعية القادرة منتجاتها المنافسة في الأسواق المحلية والأسواق الخارجية لتحسين رصيد الميزان التجاري وميزان المدفوعات.

خامساً: المُعالَجَة في المشروع الاقتصادي الوطني البديل

ليس بجديد المَعرفة أن نِعْمَة الثروة النفطية الطبيعية غير المتجددة آيلة للتآكل السريع، وأنها ليست أبدية. وأن إنفاق الإيرادات النفطية في تمويل الاستهلاك والاستيرادات المتزايدة أو/واستغلال “الفائض” منها في أسواق الأسهم والسندات العالمية، كما يقترح البعض، بدون الاستثمار في مشاريع التنويع الاقتصادي للتحرر من هيمنة “الريع” النفطي وتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد في الأسواق المحلية والخارجية، ليس ذات قيمة عملية مستدامة. فقد شهدت التجربة الاقتصادية (2003-2024) واقع الفشل ليس فقط في معالجة الأزمة الاقتصادية الهيكلية المزمنة، بل وأيضاً، زيادة البطالة، وانتشار الفقر، وارتفاع تكاليف المعيشة الفاحش، وتوسع التباين في الدخول والثروات بين المواطنين والمناطق، والتردي في الخدمات الأساسية العامة. كما شهدت التجربة، افتقار الأحزاب السياسية المُهيمنة لرؤى اقتصادية مستقبلية والالتزام الواضح بمشاريع وبرامج خاضعة للمناقشات المهنية والسياسية العامة والموثقة في الأهداف، القابلة للقياس، والالتزام بتوقيتات زمنية في التنفيذ. لذلك، تصبح الضرورة الموضوعية، إيجاد البديل في المشروع الاقتصادي الوطني.

ومن واقع التجربة الاقتصادية أيضاً، واضح انحياز العمل بآليات السوق الناقصة لمعايير الربح المرتفع والسريع وتجنب المخاطر لصالح تشجيع وتمويل استثمارات القطاع الخاص التي تتركز في العقارات وقطاعات التوزيع وتجارة الاستيراد والخدمات الاجتماعية الترفيهية، بدلاً من الاستثمار في مشاريع القطاع العام المؤهل بمواكبة تقنيات الاقتصاد الرقمي المتقدمة، كمشاريع توسيع الطاقات الإنتاجية في القطاعات القادرة منتجاتها على المنافسة كالصناعات التحويلية المتقدمة تكنولوجياً ، ومشاريع البنية الأساسية لتحسين بيئة الاستثمار كالطرق والموانئ ووسائل النقل والاتصالات والكهرباء والمياه النقية والمشاريع السكنية والسدود المائية والخدمات العامة التعليمية والصحية والرعاية الاجتماعية.

وإذ يؤكد التحليل الاقتصادي “النظري”، أن القيمة الاقتصادية الحقيقية للثروة النفطية المَمْلُوكَة أصولها الإنتاجية للدولة، تتحدد بمقدار الإنتاج الأمثل للنفط الخام (والغاز مستقبلاً) الذي يتناسب مع أهداف ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي، ليس صحيحاً، تقييمها بأسعار (عائدات) صادرات النفط الخام في الأسواق العالمية. كما أن أسعار صرف الدينار الثابت مقابل الدولار أو مقابل سلة من العملات أو المرن، تتحدد بعلاقة عكسية مع الزيادة أو الانخفاض في مستويات هذا الإنتاج ، كما أن الدولة، وليس القطاع الخاص أو آليات السوق، هي التي تتحكم في تحديد مقدار ودينامية “العرض” و”الطلب” على الدولار وأسعار صرف الدينار بنظام الصرف الأجنبي .

ولذلك، فإن أسباب الأزمات القائمة تقع بمسؤولية ممارسة الحكومة للسياسات الاقتصادية “الليبرالية الجديدة”، ومنها المالية والنقدية الكلية، التي يتم بها عملياً تجريد الدولة من مسؤولياتها المباشرة في إدارة الاقتصاد.

وفي المقابل، يخالف “المشروع الاقتصادي الوطني البديل” جذرياً السياسات الاقتصادية الحالية لانحيازه للدولة من خلال التخطيط الاقتصادي المركزي والقطاع العام المؤهل في استثمار الثروة النفطية والطبيعية والموارد البشرية بكفاءة اقتصادية وتوزيع منافعها بعدالة اجتماعية معاً، بهدف استدامة النمو الاقتصادي وتحسين توزيع المداخيل وتسريع التراكم في الثروة الوطنية، وللارتقاء بمكانة الدولة المدنية الديمقراطية المستقلة.
وبإيجار، يمكن تلخيص مقومات وأهداف المشروع الاقتصادي الوطني البديل، كالتالي:

  1. الحفاظ على المِلكية العامة للثروة النفطية والثروات الطبيعية وللأصول الإنتاجية العامة وتنظيم استغلالها مركزياً لاستدامة النمو والتنمية والحفاظ على حقوق الأجيال القادمة.
  2. دمج السياسة النفطية في الإنتاج والتصنيع والتصدير في إطار أهداف الاستراتيجية الاقتصادية الوطنية والسياسات الاقتصادية المرتبطة بتنفيذها.
  3. تحديث التخطيط الاقتصادي المركزي والعمل بنظام جديد لاتخاذ القرارات العليا في تحديد السياسات الاقتصادية، ومنها السياسة النفطية، وتحديد صلاحيات التنفيذ مع معايير الجدوى في اختيار أولويات الاستثمار الحكومي في مشاريع التصنيع والبنية الأساسية وتنمية الموارد البشرية.
  4. العمل بالمنهاج الاستثمار السنوي، المستقل عن الموازنة المالية السنوية، لتمويل وتنفيذ المشاريع الاستراتيجية والصناعات التحويلية المتقدمة تكنولوجيا، ومشاريع البنية الأساسية الاقتصادية المادية والاجتماعية والبيئية لزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني في الأسواق الخارجية بتحريره من هيمنة ريع صادرات النفط .
  5. توزيع الإيرادات النفطية والعامة وأرباح القطاع العام و”القروض الأجنبية” بين منهاج الاستثمار السنوي بنسبة لا تقل عن 50% والموازنة المالية بنسبة لا تزيد على 50%.
  6. إعادة تأهيل القطاع العام بالموارد البشرية المهنية والتقنية والمالية لإدارة شركات الدولة الكبرى بأفق المنافسة الاقتصادية في الأسواق المحلية والخارجية .
  7. تأمين البيئة المناسبة لاستثمارات القطاع الخاص وتفعيل آليات السوق لتحسين كفاءة تعبئة وتوزيع الموارد الوطنية، وتحديد شروط استدراج الاستثمار الأجنبي المباشر بمعايير توطين الصناعات التحويلية المتقدمة تكنولوجياً.
  8. استئصال الفساد وإنهاء دوامة بعثرة العمل بالسياسات والإجراءات والصلاحيات الاقتصادية والمالية والنقدية في مؤسسات الدولة المركزية واللامركزية.
  9. يعمل المشروع الاقتصادي الوطني البديل بآليات ثنائية التخطيط الاقتصادي المركزي وآلية السوق التنافسية.

والسؤال الهام الذي يتردد دائماً، أين الواقعية في المشروع الاقتصادي الوطني “البديل”؟

وللإجابة: يَعلَمُ الجميع، أن العالم يَتغيّر دائماً، وأن المستقبل ليس كالماضي، وأن المعرفة بالماضي والحاضر مُفيدة في استشراف المستقبل. وأن المشروع “البديل”، ليس نظرية اقتصادية لا يمكن التنبؤ بشروط تحقيقها، بل هو نموذج اقتصادي جديد يُعَبِرً عن الواقعية والتغيير في الاقتصاد السياسي لإدارة الحكومة مصالح المواطنين من خلال السياسات والأنظمة الاقتصادية المتباينة التي اختبرت في تجارب الماضي والحاضر. ولذلك، نُدركُ الواقعية والتغيير بمراجعة وتقييم “إنجازات” “وإخفاقات” التجربة الاقتصادية الوطنية الحديثة خلال سنوات انطلاقتها الواعدة (1951-1979)، حيث أدت الدولة (الحكومات) مسؤولياتها الاقتصادية بتنفيذ “برامج الإعمار” و”خطط التنمية” واستثمار “ريع” الثروة النفطية في مشاريع البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتزامنة مع تأهيل الموارد البشرية المُنْتِجَة بالرغم من تباين وعدم استقرار الأنظمة السياسية بمشاكل الديمقراطية المتعثرة وجرائم قمع الدكتاتورية للحريات. ونُدركُ الواقعية أيضاً، بأن “فشل” النظام الاقتصادي وانتشار الفساد وتكريس الأزمة الاقتصادية الهيكلية المزمنة خلال الفترة (2003-2024) يطلق دينامية التغيير والبحث عن البديل.

صبري زاير السعدي: متخصص في الشؤون الاقتصادية والتنموية

أقرأ أيضا