صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

أزمة القبول بمنطق الاختلاف

يُمثّل الاختلاف – بوصفهِ مفهومًا ينطوي على منطقٍ ذي جنبةٍ عمليةٍ في شقٍّ منه لا ينفصل عن الجنبة النظرية فيه- من أكثر المفاهيم إشكاليةً في تمثّلاته الواقعية على مرِّ التاريخ، ولسنا بحاجة إلى استعراض كمٍّ هائل من المشاهد والتجارب التي حكتها لنا كتب الأديان السماوية وغيرها من المرويات الشفاهية التي استفاضت بمنطق الضيق بالآخر المختلف ذرعًا، والانتهاء به إلى التهميش أو الإبادة أو أي نهاية مأساوية تتبدّى عبرها أنانية الذات، وتضخّمها على حساب الآخر بلا وجه حقّ أو منطق يُبيح لها ذلك التعالي الذي لا يعود عليها إلا بالضمور تدريجيًّا في غيابة الزمن. 

إن إعادة النظر فيما يصدرّ عنّا – نحن البشر- من آراء وأفكار وتوجّهات وميول وما يُبنى على ذلك من انتماءات وقناعات يصل بعضها إلى العقيدة اللازمة، يصلُ بنا إلى حقيقة قد نتغافل عنها أو نتجاهلها أو نرفضها وندين كل من يتمثّلها في فكره وسلوكه، ألا وهي: وقوعنا في فخاخ الصنمية الذهنية التي تمارس سطوتها على التفكير، بل تتغلغل في آليات التفكير وتتعشّق معها بطريقة متجانسة، يصعب على السواد الأعظم من الناس أنْ يتخلّص من شرنقتها، وتعمل بمهارة فائقة لأن تدفع صاحبها على (اقتناعه/ أو رفضه) وجهة نظرٍ معيّنة، وصولاً به إلى ما هو أبعد من القناعة أو الرفض، وأعني بذلك، الدفع إلى سلوكيات معيّنة وانتماءات لجهات أو عقائد أو.. الخ من مسمّيات، بالضبط مثلما نقرأ عن عرب الجاهلية وغيرهم من الشعوب في بقاع الأرض أنهم يعكفون على أصنام لهم ويجعلونها ربًّا أو شريكًا لله في الربوبية، من دون أنْ يُناقِشوا بديهيّات تفكيرهم عن مؤهّلات هذا الصنم “الحجر” الذي لا يضر ولا ينفع، فصار إلهًا يحنون رقابهم عند قدميه، بل لمرجّحات لا تخضع إلا للمزاج العاطفي، من قبيل كونه من حجرٍ له القدرة على الصمود والبقاء في وجه الطبيعة لمدة زمنية محددة، أو غير ذلك من المرجّحات المعبّرة عن عواطف وتهيّؤات لا تنهض ولا ترتقي أن تكون دليلاً يستحسنه العقل، وهكذا يأتي الجيل الآخر، فيُمضي بقناعةٍ جمعيّة ما كان عليه الآباء والأجداد.

وهذا التواصي الجمعي بالسير على ما كان عليه السابقون من قبل اللاحقين، نجده متّبعًا ومعمولاً به في كثيرٍ من المجتمعات، وأخصّ المجتمع العربي بعد الإسلام، ولعلّنا لا نجد حاليًا من يعبد الأصنام بصراحة، ولا يقدّم النذور زلفى إليها، بل نجد من تمثّلات الصنمية في مجتمعاتنا العربية (المسلمة) ما لا يخلو منها أي جماعةٍ في كل أقطار الدول العربية، ولعلّ الاتّباع الأعمى للجماعات لمن يرون فيه الأهلية للقيادة أو الزعامة، أو الأفضلية، هو السائد في الواقع والافتراضي، فكثيرٌ من الناس ينشأ لديها الاعتقاد بصواب مذهب فقهي من مذاهب المسلمين، لكونها وُلِدت في بيئة كان أهلها ينتمون لذلك المذهب، وهكذا يكون الانتماء إلى الأحزاب أو غيرها من الآيديولوجيات، بسبب ذلك الاتّكاء على عقول الآخرين، والاطمئنان لسلامة تفكيرهم، فيبني على ذلك الاتّكاء قناعته بجدوى تلك الآيديولوجية، فضلاً عن ظروف البيئة والقرب الاجتماعي من هؤلاء، يأخذ أثره أيضًا في بناء توجّهات الآخرين (الأتباع) ولا يقف الحدّ عند ذلك، بل يأخذ مديات أخر تتمثّل بالانصياع التام للآخر عند هذه الجماعات، في أمور خارجة عن طوق الاتباع الذي ارتضاه لنفسه، فيأخذ مثلاً هذا التابع بمجاراة متبوعه فيما يميل إليه من توجّهات أخر لا يقدح أبدًا في حال مخالفته له، ولا يمدح من التزمها سنّةً يطبقها في سلوكه، إنّما هو الاتّباع المُطلق الذي يكشف خلوّ التابع من فكرةٍ تشغله أو قناعةٍ يبرهن على صوابها فيعتدُّ بها، وذلك مثل الكثيرين المبهورين بحضارة الغرب وما يقدّمه من تقنيات تكنلوجية في المجالات الصناعية وغيرها من مجالات الحياة، فيصل بهم الحال إلى تقليد اللباس الغربي في كل تفاصيله ومتابعة صرخات الموضة أوّلاً بأوّل، واحتذائهم تلك التقاليد حذو القِذّة بالقِذّة حتى وإن لم يقتنع بها شخصيًّا أو من هم حوله من مجتمعه الصغير ممثلا بالرابطة الأُسرية أو من مجتمعه الكبير، في الوقت الذي لا يقدّم ذلك الاتّباع ولا يؤخّر عند متبوعه، ولا يُضيف لهم شيئًا سوى أنْ يستثمروا ذلك الاتّباع بازدياد مصادر الدخل القومي عبر تصدير ذلك المُنتج إلى تلك البلاد، والاستفادة منه مادّيًا، في حين بالإمكان أنْ نأخذ من المجتمع الغربي والحضارة الغربية ما ينسجم والفائدة العملية التي تقدّمها لنا تلك المنجزات العلمية في حقل التكنولوجيا، من دون أنْ ننسلخ تمامًا عن كلّ ما يمثّل تقاليد البيئة الجغرافية والدينية والثقافية. ولا يعد مطلقًا مثل هذا السلوك الانتقائي في استقبال منجز لأمةٍ ما، ورفض منجزٍ آخر، وصفًا سلبيًّا بالمرّة، فهو سلوك ينمّ عن وعيٍ عالٍ يفرض على صاحبه أنْ يأخذ ما ينفعه ويؤدّي به إلى قضاء حاجته، ويرفض ما يجد فيه ضعفًا أو خواءً لمنجزٍ آخر صدر عن الجهة نفسها، لا اعتزازًا بما لديه انطلاقا من عصبيةٍ وتقليدٍ أعمى، وإلا كان صنميًّا في تفكيره بارتداده إلى الذات وما تُمليه على فكره من قيود تجعله أسير نتائجها غير المنطقية.

أقرأ أيضا