عام 1969 رفضت سلطة الدكتاتورية.. ونجوت من موتهم بأعجوبة ومصادفة، وكانت بيروت محطتي، ناويا السفر منها إلى “أبو ظبي” للعمل في مجال الإعلام بوساطة من أستاذي الفلسطيني “إبراهيم أبو الندى” المقيم في العراق، وهو مدقق الحسابات في شركة سابا.. لكنني في بيروت التقيت الكاتب الفلسطيني “غسان كنفاني” الذي أصر على عدم سفري بإتجاه الخليج، إستنادا إلى تجربته هناك، والتحقت مع كادر مجلة الهدف التي يرأس تحريرها غسان كنفاني، وهي المجلة الناطقة بإسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن ثم أنشأت قسما للسينما تابعا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.. وفي خضم الحرب الأهلية في لبنان، والصراعات الدموية وضمن خلافات فلسطينية فلسطينية، وفلسطينية لبنانية، ولبنانية لبنانية، خطر في بالي أن أسأل أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين “جورج حبش – أين تحفظون وثائقكم؟” أجابني “في بيوت سرية بين بيروت وصيدا وصور وبعلبك.. نستأجرها لعائلات فلسطينية تقيم فيها وتهتم بها وتحرسها!
طلبت منه أن تخصيص ميزانية متواضعة جدا .. وقلت له سوف أنجز لكم مشروعا يحفظ تاريخكم..! اشتريت جهاز ميكرو فيلم وعلب سينمائية وقمت بنفسي بالتجارب الأولى، وعملت على إظهارها وطبعها في ستوديو بعلبك في منطقة سن الفيل من بيروت، وعندما ظهرت النتيجة مدهشة، طلبت من أعضاء المكتب السياسي مشاهدتها، وتم تفريغ ستة عناصر بمستويات معرفية جيدة، وبدأت تدريبهم. الميكرو فيلم يصور في لقطة ثابتة صورتين في آن واحد .. وتم تأجير مكتب لتصوير كل وثائق الجبهة الشعبية المحفوظة في بيوت على أمتداد جغرافية لبنان.. وعندما أكتملت التجربة قرروا حرق كل الوثائق الورقية حتى لا تقع يوما في أيدي الإسرائيليين. وحفظت النسختان السينمائية، في مكانين متباعدين!
عندما غزت إسرائيل لبنان عام 1982 وإحتلت العاصمة بيروت وأجبرت ضمن إتفاقية دولية منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة الأراضي اللبنانية إستولت على كافة وثائق فصائل المقاومة الفلسطينية ومركز الأبحاث التي رفضت فصائل المقاومة التمثل بتجربتنا .. بإستثناء فصيل الجبهة الشعبية الذي حملوا معهم ما يقرب من عشر حقائب وهم يغادرون الأراضي اللبنانية!
ثمة تجربة شبيهة بتجربتي المتواضعة تم تأسيسها في القطب الشمالي، أنشأتها النرويج عام 2016 للحفاظ على الوثائق الإنسانية الهامة والمخطوطات واللوحات الكلاسيكية والمعاصرة وكل ما هو نادر ويهم الإنسانية .. كانت التجربة النرويجية في بدايتها تتعلق بكل أنواع البذور خوفا من أن تتعرض الإنسانية وكوكب الأرض لحرب مدمرة وقد يبقى من البشر نفر يعيدون بناء الحياة من جديد فتم تخزين كل أنواع بذور الفواكه والقمح والشعير والرز والشاي والقهوة وبذور الأشجار والورود.. مستودع تحسبا ليوم القيامة وهو مستودع تحت الأرض تبلغ مساحته أحد عشر ألف قدم مربع .. وإلى جانب هذا المخزن المستودع لحفظ البذور ثمة مستودع لحفظ الوثائق الهامة من التاريخ الإنساني وهو غير مرتبط بالإنترنت خوفا عليه من الهجمات السيبرانية، وخوفا من الكوارث البيئية والأمراض الفاتكة مثل فلونزا الخنازير أو فلونزا الطيور أو الكورونا المخيفة، أو الحروب العالمية المتوقعة خلال فترة بين 500 عام و1500 عام.
من الجدير بالذكر بأن الوثائق المكتوبة التي تنطوي على أهمية بالغة وعلى سبيل المثال ديباجة تأسيس الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو عام 1945 على أثر إيقاف الحرب العالمية الثانية فهي من الوثائق الهامة أو وثائق جوائز نوبل أو أفران حرق اليهود في الحقبة النازية، أو وثائق خلود الإنسان الأبدي، أو تخطيطات الحسن البصري إبن الهيثم في علوم البصريات أو النصوص الأدبية الخالدة لعمالقة الأدب على مساحة كوكبنا الأرضي الذي بات مهددا من قبل أعداء لا مرئيين، وكذلك اللوحات النادرة لعباقرة الفن التشكيلي.. كلها تصور سينمائيا وليس على فورمات رقمية مع إنها تحول لاحقا إلى فورمات رقمية، ولكن فيلم السليلويد السينمائي هو الأهم.. وهذا ما حدا بكل الأرشيفات السينمائية للإحتفاظ بالشريط السينمائي الأهم.. أما الذاكرة الرقمية فإنها ليست صورة إنما هي معلومات تتحول عبر الأجهزة إلى صورة. وهي قابلة للتغيير كل لحظة وليست تقنية ثابتة، وهي في هواء غوغل وفيس بوك، وهي إلكترون يتبعثر مجازاً حين تسقط شريحة الذاكرة. قمت بتصوير الأرشيف السينمائي والرقمي الهولندي بكل تفاصيله بعد موافقات قانونية مستهدفا وضعها تحت تصرف جيلنا الآتي في العراق، حتى يتعلم طرائق حفظ الوثيقة المصورة التي هي وليست سواها هوية العراق وملامح العراق الذي كان جميلا في التاريخ ومشوها في المعاصرة. أن أعلمه طرائق الإحتفاظ بالتاريخ سليما، وكنت في بداية السبعينات قد أنقذت تاريخ اليمن المصور سينمائيا، والذي صوره البريطانيون كما أنقذت تاريخ ليبيا في منتصف التسعينات.
ومن الجدير بالذكر إن فيلم السليلويد السينمائي يمكن أن يبقى محتفظا بقيمته اللونية أو تدرجاته اللونية “بين الأسود والأبيض” الآف السنين، سيما إذا كان ثمة فيلم وسيط بين السالب والموجب. وعندما سألت مديرة الأرشيف الهولندي وأنا أشاهد القسم المذهل لأشرطة السينما في نوعيها السالب والموجب وعدم إعطاء الأهمية للفورمات الرقمية والإنسان الآلي “الروبوت” الذي يحتفظ بالذاكرة، أخرجت هاتفها النقال من جيبها وقالت لي غدا سوف ارمي هاتفي هذا وإقتني هاتفا جديدا.. سرعان ما ينتهي أمده، وهكذا التقنية الرقمية سوف تبقى تعذبنا، فيما هذه الأفلام التي أمامك هي صديقة حنونة وحقيقية.
وهذا ما حدا بي إلى إنقاذ تاريخ العراق المصور سينمائيا منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة حتى تاريخ سقوط الدكتاتورية، وطوال عامين تقريبا نجحت في أن أقيم له متحفا في بغداد، بعد أن كانت جرذان العراق الحيوانية والبشرية تأكل فيه!
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا